تصبح شرعية الدولة في مهب الريح حين يتم نقل قضاة محكمة النقض بدون ضمانات ودون مراعاة لاستقلاليتهم، وحين يهبون للدفاع عنها يحالون على المحاكمة التأديبية خلافا لما أوجبه الدستور في فصله 109 «يجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويعد كل إخلال بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما...». فالداء الذي يعاني منه جسم القضاء بالمغرب عُرفت بدقة مكوناته الجرثومية التي أصابته منذ سنوات، أقصد «عدم الاستقلالية»، وهي من نوع الجراثيم القاتلة كسم الأفاعي التي تصيب الجسد بلدغتها فيسري السم في سائر أعضائه، ثم تأتي مرحلة إصابته بالشلل فلا يقدر على الحركة والعمل، ثم يصل بعدها إلى الدماغ فتُشل حركة اللسان فيصبح أبكم لا يقدر على شيء، وتُشل بعدها رجلاه ولا تأتي بأي خير أينما توجهت. وهكذا منذ استقلال المغرب، توالى على وزارة العدل ما يزيد على 30 وزيرا كلما أمضى أيٌّ منهم أجله تغير مع طاقمه، دون أن يغير بعض القضاة (الموظفين) الذين غابوا عن مباشرة قضايا المواطنين مباشرة في الجلسات العمومية وغابت عنهم تقنية عقد تلك الجلسات، وانغمسوا في تدبير الملفات القضائية للقضاة وغيرهم من المهنيين المرتبطين بالعدالة وأصبحت لهم دراية كبيرة بتوجيه العدالة حسب السياسة المتبعة، من تحرير التقارير الاجتماعية والنفسية والتقارير السياسوية، لخدمة جهة معينة، وطمس جرأة وشجاعة «قاضٍ» وتبخيس عمله وتسويق صورة نمطية عنه ك«متهور»، وتشجيع خانع متملق طموح يبني أمجاده على هياكل ضحاياه. بعد هذه المقدمة، نرى من الضروري القيام بإطلالة على مؤسسة وزير العدل ونظرته إلى القضاة العاملين خارج المصالح المركزية، ثم نظرة القضاة العاملين معه والآخرين الخارجين عن المصالح المركزية وأوجه الاختلاف حول مصير العدالة بالمغرب بين الفريقين، وأخيرا التعجيل بفك الارتباط. نظرة مؤسسة وزير العدل كل الوزراء الذين تعاقبوا على الإشراف على القضاء كانوا يعتبرون أنفسهم فوق القضاة و«فوق القانون»، وأنهم هم من يخطط وينفذ سياسة العدالة في البلاد، ولم يكن يخطر ببالهم ولو للحظة أنهم سيكونون في يوم من الأيام مجبرين على المثول أمام القضاة لمساءلتهم عن قراراتهم التي اتخذت تعسفيا ضد القضاة، بل هم من يسائل القضاة مهما كان مركزهم في هرم السلطة القضائية، وهم من يختار لهم التعيين والترقية والمهام، وليست اليمينُ القانونية التي أداها القضاة هي التي تأذن بمنحهم حقهم في مباشرة القضايا المعروضة على القضاء ولا الجمعياتُ العمومية للمحاكم بل مأمورو وزارة العدل المعينون من طرفها هم من يأذن للقضاة بالبت في القضايا وهم من يسحب من بين أيديهم الملفات في أي وقت شاؤوا، وليس القانون؛ وكل ذلك بتواطؤ وتوافق مع بعض من أوكل إليهم القضاة تدبير شؤونهم، ودليل ذلك أنه ليس النظام الأساسي أو أي قانون هو ما يحدد مسطرة المحاكمة التأديبية لوزير العدل (ولو أن محاكمته تكون سياسية عند الانتخابات العامة) والأعضاء الدائمين والأعضاء المنتخبين للمجلس الأعلى للقضاء في حالة ارتكاب فعل مخالف للقانون بمناسبة أعمالهم، ولا أدل على ذلك النقاش القانوني الذي أثارته إحالة عضوين من المجلس الأعلى للقضاء على المحاكمة التأديبية من طرف زملائهما في نفس المجلس، فالوزير دائما مع الأعضاء الدائمين ينصبون أنفسهم في الآن ذاته «الخصم والحكم»، فهم من يخلق المشاكل وهم من يجد لها حلولا حسب هواهم، بل إن تجاوز القانون لا يعنيهم بقدر ما يعني القضاة. والساحة القضائية بالمغرب لم تراكم قرارات صادرة عن أعضاء المجلس الأعلى للقضاء ضد عضو منهم بمناسبة ممارسته لمهمته كممثل للقضاة، باستثناء المنع الشفوي لأحد الرؤساء الأولين لأحد أعضاء هيئة المجلس الأعلى من حضور أشغال الدورة؛ وهذه الواقعة لم يكتب لها أن تعرف طعنا آنذاك أمام المحاكم الإدارية التي كانت قد أنشئت حديثا، مما جعلها تدخل في خانة النسيان، ولم تتخذ كعبرة؛ وكذا قرار توقيف عضو وإحالته على المجلس، كهيئة تأديبية، الذي انتهى بالتراجع عنه. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نيابة وزير العدل عن الملك تشمل تسيير أشغال المجلس الأعلى للقضاء، بما يعطيه نفس الحقوق التي هي لباقي الأعضاء، أم إنه يمكن أن ينصب نفسه رئيسا (خصما وحكما) على جميع الأعضاء وأن يقترح، مثلا، إجراء تأديبيا في حق أحدهم لإخلاله ليس بعمله كقاض وإنما كممثل لفئة القضاة الذين أوكلوا إليه القيام بهذه المهمة؟ الواقع أنه كما لا يستساغ أن يجتمع مجلس إداري لإحدى الشركات ويدرج، ضمن جدول أعماله، تدارس مسألة فصل أحد الشركاء من الشركة، فإنه لا يستساغ قانونيا أن يحصل إجماع بين أعضاء المجلس الأعلى على تقرير الأمر بإجراء بحث في وقائع منسوبة إلى أحد الأعضاء بصفته تلك، وبالأحرى متابعته تأديبيا، ما لم يتم النص على ذلك صراحة في القانون، فالمؤسسة الدستورية أنشئت للنظر في المخالفات المرتكبة من طرف القضاة بمناسبة أعمالهم (رسالة القضاء)، والتي من شأنها أن تكون محل عقوبة عند مزاولة رسالتهم، وليس لمساءلة أعضاء مؤسسة المجلس الأعلى بمناسبة عملهم التمثيلي، فالنصوص التنظيمية لا تجيب صراحة عن هذه الصلاحية، وإنما يمكن أن تستشف المساواة بين أعضاء المجلس من الفصل «الذي منع إدراج ملف القاضي العضو طيلة مدة نيابته، سواء إيجابا أو سلبا»، فهو وكيل لا يمثل إرادته بل إرادة من كلفوه، شأنه شأن كافة أعضاء المؤسسة الدستورية، ولا يمكن أن يساءل العضو عن خطأ ارتكبه إلا بعد انتهاء مدة مهمته، سواء تعلق الفعل بصميم مهامه في المؤسسة الدستورية أو برسالته كقاض، ويمكن أن نقيس على هذا باقي المؤسسات النيابية؛ هذا كله لحماية العضو من كيد الخصوم بكافة مشاربهم، وإلا فإن مهمته ستكون عبثا، ويبقى سيف المساءلة مسلطا عليه كلما أبدى وجهة نظر مخالفة وضد ما تريد باقي السلط تحقيقه؛ فكما لا يمكن جدلا لأعضاء المجلس الدائمين والمنتخبين أن يحصلوا في ما بينهم على إجماع لاتخاذ قرار ضد الوزير، فلا يسوغ لهذا الأخير ولباقي الأعضاء أن يجمعوا على اتخاذ قرار ضد أي عضو. وقد يتساءل البعض: ما هي الأسس القانونية لهذا المنع؟ أول المبادئ هو فصل الجهة التي تأمر بإجراء البحث والمتابعة عن الجهة التي ستنظر في القضية المحالة، فسلطة الاتهام المعطاة للنيابة العامة، ورئيسها بالطبع هو وزير العدل، تمارس في ما هو منصوص عليه قانونيا (مثلا، الأفعال المخلة المرتكبة من طرف القضاة)، فالقانون أعطى الوزير صلاحية الأمر بإجراء بحث فيها والأمر بإحالة مرتكبيها على هيئة المجلس الأعلى الذي له صلاحية أن يقترح على الملك العقوبة المناسبة، والقانون لم يعط سلطة البحث والاتهام التلقائية لوزير العدل للنظر في ما يعتبر مخالفة مرتكبة من قبل عضو في المجلس إلا إذا صدر أمر من الملك بذلك، لأنه هو الرئيس للمؤسسة الدستورية للمجلس الأعلى (في ظل الدستور الجديد أصبح الرئيس الأول لمحكمة النقض هو الرئيس المنتدب تطبيقا لمبدأ مساءلته عن القرارات التي يتخذها (الطعن في الوضعية الفردية للقضاة)، وبالتالي فوزير العدل في هذه الفترة الانتقالية لا ينوب عن الملك، رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بل ينوب عن الرئيس المنتدب؛ وحين تنصيبه سيخرج من التشكيلة للمؤسسة الدستورية)، وذلك لضمان استقلالية العضو، وكذا حياد الوزير وانسياقه مع أهواء الحكومة التابع لوزيرها الأول والتي هي حكومة حزب الأغلبية. رئيس غرفة بمحكمة النقض نائب رئيس نادي قضاة المغرب