تدور في عالم اليوم حرب كونية للسيطرة على المستقبل.. مستقبل البشرية. وليس للعرب والمسلمين دور في هذا الصراع، لذلك من المرجح أن يُستعمر مستقبلهم، كما استعمر حاضرهم.. لكي يكون لنا مكان في هذا العالم لا بد من مصالحة العقل العربي -الإسلامي مع المستقبل.. وهذه السلسة محاولة لتأصيل الفكر المستقبلي في الإسلام، حيث يكون العقل المسلم قادرا على التعامل مع الزمان الآتي واستشراف المستقبل بثقة ومنهجية وعلم، دون أن يخطر بالبال أن في ذلك محذورا شرعيا.. وقدوتنا في هذا هو نبينا العظيم، عليه أزكى الصلاة والتسليم.. خاصة مع هذا الشهر الكريم.. شهر رمضان. رأينا، في المقال السابق، بعض آثار إساءة فهم أخبار الفتن. ومن الملاحظ أن «القاعدة» -أو ما يمكن تسميته بتيارات الإسلام الجهادي أو بعضها- تقدّم قراءتها الخاصة لأحاديث الفتن، وهي قراءة خطرة، لأنها تجعل من هذه الأحاديث منطلقا لبعض أعمالها. كما أنها تربط بين بعض الأحاديث وبين وقائع معيّنة تحدث الآن على الأرض. وسنتابع في هذا المقال دراسة الموضوع. وظيفة أحاديث المستقبل وهي -بالأساس- وظيفة الإنذار والتحذير، فأحاديث الفتن وأشراط الساعة، وإن كان ظاهرها الإخبار عن المستقبلات -ولذلك فهي تؤدي وظيفة عقدية، أعني أنها من مكملات الاعتقاد- فإنها ترمي، أيضا، إلى تحقيق حكمة آنية، هي تحذير المسلمين من أسباب الفساد ومن عوامل الانحلال التي إذا دبّت إلى الأمم نخرتها وقوضتها، فهي نذر. وهذه تقريبا نفسها وظيفة القصص القرآني والنبوي عن الماضي وأحداثه. يقول رشيد رضا: «إن النبي، عليه الصلاة والسلام، لم يخبر أمته بما سيقع فيها من التفرق والشيع وركوب سنن أهل الكتاب في الأحداث والبدع، وبغير ذلك من أخبار الفتن، الخاصة بهم والمشتركة بينهم وبين الأمم، إلا لأجل أن يكونوا على بصيرة في مقاومة ضرّها واتّقاء تفاقم شرها، لا لأجل أن يتعمدوا إثارة تلك الفتن والاصطلاء بنارها والاقتراف لأوزارها». ويبدو لي، أيضا، أن من مقاصد أحاديث الفتن: منع اغترار الأمة بكونها خير أمة أخرِجت للناس، والتحذير من الركون السلبي إلى ما وعدها الله به من الانتشار والعز... حتى تبقى دائما -في كل عصر وجيل- على حذر من نفسها ومن تقلبات الزمن، وإن بني إسرائيل مثال لمآل الأمم المغرورة بنفسها. وربما أراد النبي الأكرم -بإخباره بهذه الأحاديث- أن ينبهنا على أمر أوتيت منه الأمة كثيرا، ولا تزال، وهو : الخلاف الداخلي، وذاك معنى الفتنة في الأكثر. فكأن هذا تحذير لعلماء الأمة ومفكريها وقادتها من هذه الثغرة الخطرة، ولذلك يجب أن تنصب جهود الجميع على البحث عن أفضل الصيّغ لإدارة الصراع الداخلي. وقد قيل: إن أضعف شيء في الحضارة الإسلامية هو أنها لم تضع حلولا للاختلاف السياسي. أما البشارات فمن وظائفها إعطاء الأمل للأمة في فترات ضعفها وتقهقرها لكي لا تنهزم نفسيا. من ضوابط فقه أحاديث الفتن أذكر بعضها، علما مني أن الموضوع يحتاج دراسة مستقلة: 1 -التثبت من صحة الحديث: إذ من المعروف -كما اشتهر عن الإمام أحمد- أن ثلاثة كتب لا أصل لها، منها الملاحم. ولذلك اعتبر ابن القيم من مظان الوضع أحاديث التواريخ المستقبلة، خاصة إذا كانت محددة. وأضرب لهذا مثالا من أشهر الكتب المستقلة في الفتن وأهمها، وهو: الفتن لنعيم بن حماد، من شيوخ البخاري، لكنه روى عنه مقرونا بغيره. قال فيه صالح بن محمد الأسدي: «كان نعيم يحدث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها. وقال: سمعت يحيى بن معين سئل عنه، فقال: ليس في الحديث بشيء، ولكنه صاحب سنة». وقال النسائي: قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين بأحاديث كثيرة، فصار في حد من لا يُحتج به. وقال مسلمة بن القاسم: كان صدوقا، وهو كثير الخطأ، وله أحاديث منكرة في الملاحم انفرد بها. الخلاصة، إذن، هي كما قال عنه الدارقطني: إمام في السنة، كثير الوهم. فالواجب هو التأكد من صحة هذه الأحاديث، فإذا ثبتت لا تُرد، فلا يليق بالعالم، مثلا، إنكار أخبار المهدي ونزول عيسى ونحوها... لأن أصلها صحيح. 2 -أرى أن تعتبر أحاديث المستقبلات من باب الفقه والأحكام، لا من باب الرقائق والمواعظ، وبين البابين فروق لا تخفى يعرفها أهل الاختصاص، فقد شدّد المحدثون في أحاديث الأحكام ورخّصوا في رواية الأحاديث الضعيفة الوعظية. لذا لا يجوز، في رأيي، لغير المجتهد أن يحكم بها ويفسّرها، وما يذكر في الفتوى من شروط وآداب يسري على هذا الجانب أيضا من النصوص الشرعية. إذ القول في أحاديث الفتن تتعلق به أحيانا دماء وحقوق، بل قد يتعلق به مستقبل أمة. وهذا لا ينفي الجانب الوعظي لهذه الأخبار، لكنه ليس وحده. 3 -من القواعد عدم تيئيس الناس بأحاديث الفتن، والأصل العام للشريعة هو التبشير وفتح باب الأمل. وقد صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم. قال ابن القيم: وفي معناه: فسد الناس، وفسد الزمان، ونحوه. وقال القرطبي: «إن الذي يسمعه قد ييأس من رحمة الله فيهلك، وقد يغلب على القائل رأي الخوارج، فيهلك الناس بالخروج عليهم». 4 -من القواعد: الحكمة في التحدث بأخبار الملاحم والفتن. وأذكر مثالا لذلك أن أحد وزراء اليمين في إيطاليا أشار، في سنة 2004، إلى أن بعض المسلمين في بلاده يتداولون حديث فتح روما. والحديث صحيح من حيث السند، لكنْ لا ينبغي إشهاره وإخافة الناس منّا، خاصة أننا لا ندري متى سيكون ذلك، فلعله في الفترة الأخيرة من عمر الدنيا، ولعل أهل البلاد أنفسهم يقتنعون بهذا الدين. 5 -تجنب تنزيل هذه الأحاديث على وقائع جزئية، خصوصا إذا كانت من الحاضر أو الماضي القريب. ومن هذه الأخطاء أن بعضهم اعتبروا أن المقصود بالقحطاني، الذي جاء ذكره في بعض الأحاديث الصحيحة، هو الرئيس السابق صدام حسين!.. 6 -وها هنا تنبيه أخير، وهو أن الكلام في الفتن والملاحم -خصوصا من جهة تطبيق ما ورد فيهما على الحوادث الأرضية- ينبني على تحديد عمر الدنيا ومدة بقائها، ولو على وجه التقريب. وهذا لا سبيل إليه، لتعلقه بعلم الساعة وكون النبي، عليه السلام، بُعث بقرب الساعة، قال العلماء: هو قرب نسبي، أي أن الذي بقي من الدنيا قليل بالنسبة إلى ما مضى منها، وإن كان الذي بقيّ في نفسه كثير. ولم يصحَّ في عمر الدنيا حديث صحيح صريح. لذلك أخطأ كثير ممن راموا توقع بعض الحوادث -من خلال ظواهر بعض النصوص- كما رأينا في مقال سابق. وبصفة عامة، فإن موضوع مناهج فقه الحديث فقه سليم موضوع شديد الأهمية. خاتمة هذه المقالات بعض ثمار البحث عن موضوع المستقبل واستشرافه في الإسلام، وفي الحديث النبوي، خاصة. وما تزال أمام البحث آفاق أخرى، بعضها غير مرتاد تماما.. وهذا دليل آخر على أن هذا الوحي الإلهي -سواء كان قرآنا أو سنة- وحيٌ لا تنقضي عجائبه.. تنقضي أعمارنا وأعمار أجيال متتابعة من أهل العلم والفكر.. والوحي لا ينقضي.. بحار من الأنوار، وبحار من الحكمة والعلم والإرشاد، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ولعل الله، سبحانه، ييسّر لي أن أكشف عن قبس من هذه الفيوض العلمية الإلهية في قضية أخرى أو علم آخر على صفحات «المساء»، في الصيف القادم، أو في رمضان التالي، إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. انتهى.