تدور في عالم اليوم حرب كونية للسيطرة على المستقبل.. مستقبل البشرية. وليس للعرب والمسلمين دور في هذا الصراع، لذلك من المرجح أن يُستعمر مستقبلهم، كما استعمر حاضرهم.. لكي يكون لنا مكان في هذا العالم لا بد من مصالحة العقل العربي -الإسلامي مع المستقبل.. وهذه السلسة محاولة لتأصيل الفكر المستقبلي في الإسلام، حيث يكون العقل المسلم قادرا على التعامل مع الزمان الآتي واستشراف المستقبل بثقة ومنهجية وعلم، دون أن يخطر بالبال أن في ذلك محذورا شرعيا.. وقدوتنا في هذا هو نبينا العظيم، عليه أزكى الصلاة والتسليم.. خاصة مع هذا الشهر الكريم.. شهر رمضان. الإنسان ليس عقلا فقط، بل هو شعور ووجدان. لذلك لا يتعامل البشر مع المستقبل بالفكر فقط، بل أيضا بمواقف نفسية معينة، بعضها لا بأس به، وبعضها سلبي وخطأ، فجاء الإسلام ونبّه إلى ذلك. الرسول ينهى عن «اللو» والتأسف على الماضي من عيون الكلام النبوي الذي يوجّهنا إلى منهج التعاطي النفسي الإيجابي مع الزمان، بأحداثه الواقعة والمُحتمَلة قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكنْ قل قدّر الله وما شاء فعل، فإن «لو» تفتح عمل الشيطان». وفي روايات أخرى: لا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكنْ قدّر الله وما شاء فعل، أو فقل قدّر الله وما شاء الله.. وفي بعضها: إياك واللو. وشرح أبو العباس القرطبي هذا الحديث، قال: «أي استعمل الحرص والاجتهاد في تحصيل.. ما تنتفع به في أمر دينك ودنياك.. ولا تفرّط في طلب ذلك ولا تتعاجز عنه، متكلا على القدر، فتنسب إلى التقصير وتلام على التفريط شرعا وعادة... وقوله: وإن أصابك.. يعني إن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله والرضا بما قدّره الله تعالى والإعراض عن الالتفات إلى ما مضى وفات، فإن افتكر فيما فاته من ذلك... جاءته وساوس الشيطان».. اتفاق العلماء على تقييد الحديث قال الطحاوي: لو ليست مكروهة في كل الأشياء، إذ ذكرها الله في كتابه وذكرها رسوله. وحديث سليمان يدل على ذلك، فقد روى الأئمة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «قال: سليمان بن داود، نبي الله: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة (أي نساء كثيرات، لأن السبعين في العربية تدل على الكثرة).. كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه، أو الملك: قل: إن شاء الله. فلم يقل. ونسي. فلم تأت واحدة من نسائه إلا واحدة جاءت بشق غلام. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ولو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركا له في حاجته». قال النووي في كلمة (نسي): ضبطه بعض الأئمة بضم النون وتشديد السين، وهو ظاهر حسن، وكان دركا له: اسم من الإدراك، أي لحاقا. والشاهد في الحديث أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: فلو قال إن شاء الله لم يحنث. وهذا -كما قال القرطبي- «دليل على جواز قول لو ولولا بعد وقوع المقدور. وقد وقع من ذلك مواضع كثيرة في الكتاب والسنة وكلام السلف». جمع البخاري بعضها -من الحديث خاصة- وبوّب: باب ما يجوز من اللو. وأظن هذا إجماعا، ولو خالف فيه أحد لا شك أنه مخطئ إلا أن الأصل -كما يقول ابن حجر- هو المنع، والجواز استثناء. لذا قال عياض: «الذي عندي في هذا الحديث أن النهي فيه على وجهه عموما، لكن على طريق الندب والتنزيه».
التمني وحكمه مسألة اللو هذه فرع باب أكبر هو التمني الذي عقد له بعض الحفاظ -كالبخاري- كتابا أو بابا.. وظواهر النصوص فيه متعارضة، قال عز من قائل: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن). وصح عن النبي، عليه الصلاة والسلام، أنه قال: وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل.. الحديث. ومن وجوه الجمع بينها ما قاله ابن حجر: «التمني إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد فهي مطلوبة، وإلا فهي مذمومة. لذلك فحين ذكر سليمان، عليه السلام، أنه سيطوف على نسائه ليحملن أبناء يجاهدون في سبيل الله.. فإن ذلك كان -كما قال ابن الجوزي- من جنس التمني على الله والسؤال له عز وجل أن يفعل. ويبدو لي أن الله تعالى إذ لم يجب نبيه فليس لعتابه على التمني، كما فهم ذلك بعضُ العلماء، بل لأن الله، سبحانه، أدّبه على ترك الاستثناء، ولو أنه فعل لجاءوا كلهم -كما نطق بذلك نبينا- فرسانا مجاهدين. فالقاعدة، إذن، هي جواز تمني الحلال، وعدم جواز تمني الحرام. لهذا يجوز قول لو في تمني الخير مطلقا. متى لا يجوز استعمال لو الذي يحدث عندي من كلام العلماء حالات: 1 -إذا كان القائل ذاهلا عن القدَر ومعتمدا على الأسباب فقط، كما حكى الله سبحانه عن المنافقين قولهم (لو أطاعونا ما قتلوا). وذلك أن التوكل واجب على كل مسلم، وإن اختلفت درجاته بين الناس. وهذه الحالة أشبه بالتكذيب بالقدر. 2 -إذا جاء في سياق معارضة القدَر، كأنه يقول: لو أني فعلت كذا لاندفع ما قُدِّر علي. قال المحدث الكشميري: لا تستعمل لو إذا أوهمت رد التقدير. وذكر ابن القيم اعتراضا ثم أجاب عنه جوابا حسنا: «إنْ قيل ليس في هذا رد القدر ولا جحد له، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر، فهو يقول: لو وفقت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر.. قيل: هذا حق، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدَر المكروه. أما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه. وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قوله: لو كنت فعلته، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف أثر ما وقع، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض، والله يلوم على العجز ويحب الكيس».. 3 -إذا تعلق بالماضي، أو بتعبير الطحاوي: بما فات من مصالح ومنافع. ولذلك قال ابن تيمية: إن التمني على الأفعال الماضية لا يناسب عند الشرع. ولعل القارئ يلاحظ أن الوجهين الثاني والثالث متقاربان.. وقد اجتهدتُ أن أجمع بينهما في وجه واحد، فوجدت في ما كتبه القاضي عياض ما يمكن اعتباره قاعدة في حصر الحالات التي لا يقال فيها لو. ضابط ما يجوز وما لا يجوز من اللو الضابط في ذلك زماني، فما كان من الماضي الذي ذهب الأصل فيه كراهة -أو حرمة- استعمال لو، وما هو من المستقبل وتحت الإمكان فالأصل فيه الجواز. قال عياض: «الذي ينفهم من ترجمة البخاري وما أدخل من القرآن والآثار في الباب من لو ولولا أنه يجوز استعماله في ما يكون من الاستقبال وتحت قدرة الإنسان، وهو ما امتنع من فعله لامتناع غيره، وهو باب لو، أو امتنع من فعله لوجود غيره، وهو باب لولا، لأنه لم يدخل في بابه سوى ما هو للاستقبال من الآي والآثار، وما هو حق وصحيح متيقن» فإذا تعلق الأمر بالمستقبل ولم يعترض فيه على القدَر فلا كراهة في استخدام لو، لأن المرء هنا يخبر عما يعتقد أنه كان يفعله لولا المانع له، وما في قدرته فعله. وما انقضى وذهب وليس في القدرة ولا في الإمكان فعله، فلا يلتفت إليه. ويقول القرطبي، في السياق نفسه: «محل النهي عن إطلاقها (أي لو) إنما هو فيها إذا أطلقت في معارضة القدَر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور. فأما لو أخبر بالمانع على جهة أن تتعلق به فائدة في المستقبل فلا يختلف في جواز إطلاقه». أسلوب المشهد في الدراسات المستقبلية المعاصرة من هذا يمكن أن نستنتج جواز أسلوب السيناريو الذي يُستعمَل بكثرة في الدراسات المستقبلية، فهو يقوم على حصر جميع ما يمكن تصوره من احتمالات المستقبل، أو أبرزها، ثم التفكر في تحديد آثارها.. حيث تكون بين أيدينا مستقبلات متعددة، وهذا مفيد جدا في اتخاذ القرار الأنسب. واختلاف الحكم باختلاف الزمن وارد في الشريعة وكثير فيها. من ذلك: تمني الموت. فهذا منهيّ عنه، وهو أمنية تتعلق بالمستقبل، والأحاديث فيه مشهورة. لكنْ إذا نزل الموت بالمسلم في الحال أمر بالرضا والفرح بالقدوم على الرب سبحانه. بل أقول: حتى بعض الآثار التي ظاهرها قول لو عن الماضي... يمكن -أو يجب- حملها على المستقبل... أي أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، يخبرنا عن الماضي ظاهرا، ولكنه واقع يرشدنا إلى ما ينبغي فعله في المستقبل. ومن أحسن أمثلة هذا الباب قوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت. الحلف باليمين على ماض أو مستقبل هذا مضطرد في الشريعة المحمدية، فعن عبد الرحمن بن سمرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فآتِ الذي هو خير وكفر عن يمينك. كأنه يقول: لا تتعلل بأن هذا من الماضي الذي عقدته فلا حيلة لي فيه، فقد فتحت لك بابا لتغييره.. فالشارع يسمح بتغيير الاجتهاد في أمور الدين والدنيا، حسب ما يلوح من مستجدات قد تعدل من تقييمنا للمستقبل... حتى لو حلف الإنسان -والحلف بالله تعالى أمر عظيم- فإن الشرع يُرخّص لنا في ترك مقتضى اليمين ولا يلزمنا بأدائه... فهذا درس في منع الجمود على الرأي الواحد أو النظر الواحد. وإنما شرعت الكفارة مراعاة لحق الله تعالى وواجب تعظيمه في القلوب. خاتمة: الإسلام يوجّهنا نحو المستقبل وليس الماضي إن مقصود النهي عن اللو هو تحرير الإنسان من الماضي وقيوده وتوجيه طاقته ونظره إلى المستقبل.. لا يريد الإسلام أن يكون المرءُ أسيرا لزمن انقضى، بل يريده مقبلا على المستقبل ووعوده.. فما أجمل هذه الحكمة النبوية، صلى الله وسلم على صاحبها أطيبَ صلاة وأتم تسليم. يتبع..