تدور في عالم اليوم حرب كونية للسيطرة على المستقبل.. مستقبل البشرية. وليس للعرب والمسلمين دور في هذا الصراع، لذلك من المرجح أن يُستعمر مستقبلهم، كما استعمر حاضرهم.. لكي يكون لنا مكان في هذا العالم لا بد من مصالحة العقل العربي -الإسلامي مع المستقبل.. وهذه السلسة محاولة لتأصيل الفكر المستقبلي في الإسلام، حيث يكون العقل المسلم قادرا على التعامل مع الزمان الآتي واستشراف المستقبل بثقة ومنهجية وعلم، دون أن يخطر بالبال أن في ذلك محذورا شرعيا.. وقدوتنا في هذا هو نبينا العظيم، عليه أزكى الصلاة والتسليم.. خاصة مع هذا الشهر الكريم.. شهر رمضان. لما كان من أصول الدين التي جاء بها الرسول الكريم حصرُ دعوى علم الغيب المطلق في الله سبحانه، فإنه حرم كثيرا من الأساليب التي اتبعها الأقدمون -ومنهم العرب- في التنبؤ بالمستقبل.. لكنه في المقابل أجاز -عليه الصلاة والسلام- الاستشرافَ الصحيح.. وهذه تفرقة جليلة الشأن لا يقدرها قدرها إلا من خبر علوم الأوائل وعرف كيف تخبطت البشرية في طريقها الضنك للوصول إلى منهج المعرفة الصحيحة، كما هو حال كاتب هذا السطور، الذي صرف سنين من عمره في دراسة نظرية المعرفة -خاصة المعرفة الاستشرافية أو التوقعية- في الإسلام، فتكشّف له بذلك قبس من حجة الله البالغة وحكمة نبيه العالية، فضمّن ذلك عددا من كتبه تجاوز عدد صفحاتها ألفا وثلاثمائة، ولله الحمد والمنة.. وفي ما يلي عرض لأبرز الأحاديث في هذا المجال ولبعض فقهها. الكهانة والعرافة قال القاضي عياض، في أول شرح باب تحريم الكهانة: كانت الكهانة عند العرب على ثلاثة أضرب: أحدها أن يكون للإنسان رأي من الجن يخبره بما يسترق من السمع، وهذا القسم قد بطل منذ بعث الله محمدا. الثاني: أن يخبره بما يطرأ في أقطار الأرض وما خفيّ عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده. الثالث: الحرز والتخمين، وهذا يخلق الله لبعض الناس فيه قوة، لكن الكذب فيه أغلب. ومن هذا الفن العرافة، وصاحبها العراف يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدّعي معرفته بها، وقد يعتضد في ذلك بالزجر والطرق.. وجميع هذا محرم، فقد سأل معاوية السلمي النبي، عليه السلام، عن الكهان، فقال: لا تأتوهم. وحين قال الصحابة: إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقا، بيّنَ لهم النبي، عليه السلام، سبب إصابتهم أحيانا في ما يتنبؤون به، قال: تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة. ولما كانت الكهانة مجردَ تطاول على الغيب بالكذب والتخليط فقد أبطلها الإسلام ونهى رسوله عن مجرد استشارة الكهنة والعرافين: فعن أبي هريرة رفعه: من أتى عرافا أو كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزِل على محمد. وعن ابن مسعود مثله.. ولذلك نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن حلوان الكاهن، أي أجرته. والحديث في الكهانة متشعب الجوانب جدا، خلاف ما قد يتبادر إلى الذهن، وفقني الله تعالى إلى أن ألّفتُ فيه ما أظنه أول دراسة عربية وتأصيلية متخصصة في الموضوع، فله الحمد والمنة. الاستقسام هو استعمال قداح أو أزلام أو أعواد.. لطلب معرفة المستقبل وتعيين ما يجب عمله. قال ابن العربي: كانت الأزلام «قداحا لقوم وحجارة لآخرين وقراطيس لأناس. يكون أحدهما غفلا، وفي الثاني: افعل.. وفي الثالث: لا تفعل.. ثم يخلطها.. فإن خرج الغفل أعاد الضرب حتى يخرج له افعل أو لا تفعل، وذلك بحضرة أصنامهم، فيمتثلون ما يخرج لهم ويعتقدون أن ذلك هداية من الصنم لمطلبهم». وقد حرم القرآن ذلك :(وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق). ويروي ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، حين دخل بيت الكعبة وجد فيها صورا فأمر بها فمُحيّت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال: قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط. قال الشيخ رضا في تعليل هذا التحريم: «لأنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل يفعل ما يفعل عن غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك عن غير بيّنة ولا بصيرة، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسدنة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم، فلا غرو أن يبطل ذلك دينُ العقل والبصيرة والبرهان، كما أبطل التطير والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية». ولذلك عمّم العلماء هذه الحكمة وعللوا بها تحريم أنواع أخرى من الاستقسام، قال ابن تيمية: «كل ما يحدثه الإنسان بحركة من تغيير شيء من الأجسام ليستخرج به علم ما يستقبله فهو من هذا الجنس»، أي الاستقسام.. لهذا اعتبر الفقهاء أن استخراج الفأل من المصحف أو باستعمال حبات السبحة.. ونحو ذلك.. من الاستقسام المُحرَّم. وهو يدخل تحت الوعيد النبوي: لن ينال الدرجات العلى من تكهّن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرا. الخط الخط أو علم الرمل: علم يعرف به الاستدلال على أحوال المسألة -حين السؤال- بأشكال تخط في الرمل، وهي اثنا عشر شكلا على عدد البروج.. ويبغي من ذلك كشف المغيبات والمستقبل. وقد حرّمه النبي الكريم، قال: العيافة والطيرة والطرق من الجبت. قال المنذري: الطرق الزجر، والعيافة: الخط، يخط في الأرض. وليس هذا الخط المحرم هو المقصود بحديث السلمي السابق حين سأل النبي الكريم: ومنا رجال يخطون، فأجابه: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك. قال النووي: «معناه من وافق خطه فهو مباح له، ولكنْ لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح، والمقصود أنه حرام». وقال ابن رشد الجد: «إن الله خص ذلك النبي بالخط وجعل له فيه علامات على أشياء من المغيبات وعلى ما يأمره به من العبادات».. أي فكان شيئا خاصا به، ولا سبيل للبشر إليه من طريق معتاد. يتبع..