في فرنسا، لكل موسم أدبي جديد فضائحه، خصوماته وملاسناته. وعادة ما يشكل الجنس والدين والسياسة المواد الخصيبة لهذه الخصومات. غير أن السنوات الأخيرة تميزت باحتدام الجدل والتراشق حول الإسلام كصورة وتصور؛ فبينما سخره البعض متخيلا روائيا، جعل منه البعض الآخر مادة لتخريجات نقدية مبتسرة وكاريكاتورية. ومن بين الحلقات الشهيرة لهذا الجدال، الخرجات التي قام بها الروائي ميشال ويلبيك، سواء في رواياته أو في تصريحاته، والتي كال فيها أبشع الشتائم للعرب والمسلمين. قبل انطلاقة الموسم الأدبي والثقافي الجديد بأسبوعين، خرج الكاتب والناقد ريشار ميلييه بدوره لدق الطبول ضد الأجانب والتعدد الثقافي؛ فالرجل الذي أصدر قرابة خمسين نصا، بين رواية ودراسة نقدية، والذي يعتبر إحدى الركائز الأدبية القوية لدار «غاليمار» للنشر، فاجأ الجميع بطلعته العنصرية والإسلاموفوبية، وذلك بإصداره، في 24 من غشت الماضي، نصا هجائيا قادحا تحت عنوان «شبح اللغة».. يتألف الكتاب من دراستين، الأولى بعنوان: «دراسة في تفقير الأدب» والثانية تحمل عنوان «مديح أدبي لأنديرس برايفيك». وقد طرح الكتاب في المكتبات الفرنسية في نفس اليوم الذي حكمت فيه محكمة أوسلو على أندرس برايفيك ب21 عاما سجنا. أشاد ريشارد ميلييه بما أسماه «البراعة الشكلية للمجزرة التي نفذها برايفيك في حق 77 شخصا بجزيرة أوتوا، معتبرا أن هذه المجزرة تزخر ببعد أدبي راق؛ أما برايفيك فيجسد، في نظره، قمة اليأس الأوربي أمام الانهيار الشامل للهوية الثقافية الوطنية الأوربية ومرتكزها المسيحي. كما أن برايفيك، في تقديره، ليس بإنسان مجنون. وبناء على هذه الواقعة، أطلق ميلييه نبوءة مفادها أن «أوربا دخلت في حرب أهلية خفية». على مدى ثمان عشرة صفحة، قطر ريشار ميلييه سم عدائه على كل ما هو أجنبي، مشيرا إلى أن محطات قطار الضواحي هي المختبر الذي يعرض علينا اختلاط الأجناس واختلاط الثقافات بما هو انحطاط لأوربا.. لما يستقل الكاتب القطار يجد أحيانا نفسه الأبيض الوحيد في العربة وسط قوميات وافدة من إفريقيا وآسيا والعالم العربي، ويشعر بأنه غريق وسط الهجانة التي هي، في نظره، أمارة من أمارات البشاعة. ليست هذه المرة الأولى التي يرخي فيها ريشارد ميلييه العنان لأحقاده الدفينة ضد الأجانب، وبالأخص ضد العرب والمسلمين، إذ مارس نفس الهذيان في كتاب صدر عن منشورات «غاليمار» عام 2008 بعنوان «خزي». على أيٍّ، يندرج فكر ميلييه في منظومة عنصرية متداولة ومشتركة، لا فحسب في أوساط حليقي الرؤوس من شباب الهوليغان بل أيضا في أوساط المثقفين والإعلاميين؛ فعلى سبيل المثال، غيّر السكرتير العام الأسبق لمنظمة «بلا حدود»، روبير مينار، معطفه للتقرب من أطروحات اليمين المتطرف. قبل هذا النص البئيس و«البائخ» طلع ميلييه على القُراء بمؤلف آخر تحت عنوان «الربيع السوري»، وهو عبارة عن مديح لنظام بشار الأسد. لكننا لا نُفاجأ بهذا التأييد لطاغية دمشق لما نعرف السوابق النضالية لريشارد ميلييه في لبنان أيام الحرب الأهلية، حيث حمل السلاح إلى جانب قوات الكتائب اللبنانية لمحاربة الفلسطينيين! على أيٍّ، هزت خرجات ريشارد ميلييه أركان دار «غاليمار» للنشر التي يعمل بها والتي يعتبر أحد مدراء تحريرها المرموقين؛ فقد توزعت المواقف بين طرف التزم الحياد، أمثال فيليب سوليرس... وطرف آخر ندد صراحة بالكاتب وبأطروحاته الفاشية والإسلاموفوبية، أمثال الطاهر بنجلون والروائية آني آرنو. وجد الرئيس المدير العام لدار «غاليمار»، أنطوان غاليمار، نفسه في وضعية حرجة أمام أحد العناصر النشطة الذي يعرف كيف يصنع الفائزين بجوائز الغونكور.. هل يفسخ العقد الذي يربطه بالكاتب أم يحتفظ به ويخرج بصورة ناشر يزكي الأطروحات العنصرية؟ لكنه حسم في الأخير لصالح بقاء ريشار ميلييه. على ضوء هذا القرار، يطرح السؤال: أي موقف سيتخذه جان-ماري لوكليزيو والطاهر بن جلون وآني إيرنو وماريو فارغاس يوسا؟ هل سيمكثون ب«غاليمار» أم سيغادرونها لصالح ناشر آخر، تنديدا بالعنصرية والإسلاموفوبية ودفاعا عن الأخلاق الإنسانية والثقافية؟ فلننتظر الأيام القادمة لمعرفة الجواب عن هذا السؤال.