تقضي الكاتبة الفرنسية أنّي إيرنو حاليا فترة نقاهة وذلك بعد خضوعها لعملية استئصال ورم سرطاني من أحد ثدييها. لكن هذه الوضعية الأليمة، خلافا للمتوقع، لم تحل بينها وبين خوض مغامرة كتابية: هكذا ألفت رفقة كاتب مبتدئ هو ( مارك ماري ) كتابا يحمل عنوان «استعمال الصورة»(2004) يتضمن نصوصا لها ولرفيقها، فضلا عن صور التقطاها كل على حدة. تشخص الصور مشاهد حجر نوم وممرات داخل شقق انتثرت على أرضها، في حالة فوضى، ملابس داخلية وخارجية لرجل وامرأة لا يظهران قط في الصور. أما النصوص فيتأمل فيها الكاتبان، من زاويتين مختلفتين، حالة امرأة مصابة بداء عضال ترك على جسدها آثارا مؤسفة، في مرآة حالتها الأخرى كامرأة معافاة مقبلة على الحياة، وعلى الحب باعتباره حياة قصوى. إنه من المثير للانتباه ألا تحظى أنّي إيرنو بأي اهتمام نقدي في العالم الناطق بالعربية، خاصة وأن نقاده يولون أهمية قصوى للسيرة الذاتية، وهي النوع الأدبي الذي كرست له الكاتبة الفرنسية القسم الأعظم من إنتاجها. لا يعني ذلك بأي حال أن كتبها لم تعرف بعد طريقها إلى لغة الضاد: فقبل عشر سنوات ونيف بادر كل من سيد بحراوي وأمينة رشيد إلى ترجمة كتابها «المكان»الذي صدر عن دار شرقيات بالقاهرة مزدانا بمقدمة خاصة بالطبعة العربية وضعتها الكاتبة الفرنسية، كما قام المجلس الأعلى للثقافة في مصر مؤخرا بطبع كتاب آخر لها يحمل عنوان «الحدث». لكن كتبا أخرى لأنّي إيرنو لا تزال تنتظر الترجمة، خاصة وأن صياغتها الشذرية، التي تعتمد المزاوجة بين عمق تقليدي وكتابة متجددة، تعتبر إنجازا مثيرا في حد ذاته. والواقع أن قارئ «المكان» أو «امرأة» أو «غواية بسيطة» لا بد أن يتساءل عن طبيعة تلك المقاربات السيرذاتية التي كتبت بلغة جد مباشرة، وكذا عن خصوصية النوازع والميول التي يلبيها هذا الانكباب على الهاوية من خلال كتابة لا تحابي التمويه، بل يستطيع أن يستفتي ذائقته الأدبية عما إذا كان الأمر يتعلق بتجارب في الكتابة، أم بمشروع أدبي متكامل ينمو صعدا نصا بعد نص. ولدت أنّي إيرنو سنة 1940، وعندما بلغت الخامسة من عمرها نزح أبواها إلى مدينة صغيرة بإقليم نورماندي دمرتها الحرب هي ( إيفتو Yvetot)، حيث أدارا مقهى ودكانا لبيع المأكولات المعلبة كان ثلاثتهم يقيمون في طابقهما العلوي ويعانون من ظروف اقتصادية صعبة. تابعت أنّي دراساتها الابتدائية والثانوية في مدرسة للراهبات، ثم انكبت على دراسة الأدب في جامعة (روان)، وإثر ذلك عمدت إلى السفر بغية اكتساب التجارب، قبل أن تشغل وظائف متعددة، وتتفرغ مؤخرا لتعليم اللغة والأدب كأستاذة مبرزة في مؤسسات عمومية. صدر كتابها الأول «الخزائن الفارغة «سنة 1974، وكان رواية، فلم يثر صدورها اهتماما يذكر لدى الأوساط النقدية في فرنسا. تروي بطلة الرواية دُوني لُوسِيد مراحل معينة من حياتها، كالطفولة الفقيرة وثقل الرقابة العائلية، والمراهقة المتأخرة، ومرحلة الشباب الخطرة التي تنتهي بحادث إجهاض، وهي نفس المراحل أو المكونات السردية الكبرى التي سوف تشتغل عليها إيرْنو فيما بعد، لكن من خلال مقاربة جديدة. هكذا انسلخت الكاتبة عن جلد الروائي وتحولت إلى صوت يتبنى هويته الحقيقية ويروي، كمرجع واقعي، تنويعاتٍ سيرذاتية على موضوعات الحيرة وألم القطيعة وحساسية التقدم في السن وإشكال الرقي الاجتماعي بواسطة التعليم والغيرة القاتلة والعلاقات العاطفية العابرة. ففي كتابها «المكان» 1984) تروي الكاتبة كيف عادت إلى منزل الأسرة لحضور جنازة أبيها، وكيف اغتربت نظرتها إلى المكان الذي شهد ميلادها والذي كان من المفترض أن تسترجع فيه هويتها، كما لاحظت ببرود كيف غدا ذاك الرحم الأول فارغا من المعنى، وكيف فقد وكر الطفولة وجوده بالنسبة إليها لكونها نسيت الكلمات التي كانت تستعملها لتسمية كل شيء فيه. لقد غدت، وهي في الثانية والأربعين من عمرها، تشعر بخجل إزاء لغة الأم التي صارت تجحدها بل وتعمد إلى خيانتها. هكذا يحول منطق اللغة الاجتماعية دون عودتنا إلى حلم الطفولة، بل يخلخل أعماقنا، ويبعدنا عن الدفء الأصلي الذي تكشف الكتابة وهم وجوده. أثار حصول أنّي إيرنو في أواسط ثمانينات القرن الماضي على جائزة (رُونُودُو) عن كتابها «المكان» اهتماما ملحوظا بأعمالها الصادرة قبله، لكن الأهم هو أن الكاتبة تمكنت من البرهنة على فرادة صوتها الأدبي الذي لم تفتأ تعمل على تهذيبه في كتبها التي تلت «المكان»، وهي الكتب التي تقوم على تمحيص يزداد حدة للغة الكتابة ووسائط التخييل وطبيعة المقاربة السيرذاتية. إن أنصع مثال على الارتقاء إلى هذا التوازن الصعب بين المحكي ولغته كتابها «غواية بسيطة» (1992) الذي يعتبر نصا متميزا في الأدب الإيروتيكي الفرنسي، وحيث يعمل النزوع إلى العثور على الكلمات الدقيقة والمناسبة للتعبير عن الواقع، ومحاولة «تبسيط»اللغة، والتأمل الواصف لعملية الكتابة، على تعميق أثر محكي الحب الذي تترصده القطيعة. اتجه عمل أنّي إيرنو، في السنوات الأخيرة، صوب مجالين متضامنين. أما المجال الأول فيتجلى في سعي حثيث إلى التعمق في دلالة بعض وقائع معيش الكاتبة، سواء في الماضي أو الحاضر، وخاصة تلك الوقائع التي تعتبرها قاسية وبالغة الإيلام. ففي كتابها «العار» (1997) تروي كيف شاهدت، وهي مرتعبة إلى حد الذهول، أباها يهدد أمها بالقتل بواسطة ساطور. كانت إيرنو في ذلك الوقت في الثانية عشرة من عمرها، لذا فإن استحالة فهم ذلك التصرف، وتعمد إخفائه بوعي أو بدون وعي من طرف الجميع وخاصة الأقارب، طبع طفولتها وبشكل نهائي بميسم العار ومشاعر الإثم. ويتجلى المجال الثاني في عمل أنّي إيرنو على شكل يوميات مفتوحة غايتها محاورة أشياء الحياة اليومية التي تعترض الكاتبة في فضاءات مختلفة كالشارع والمقهى وميترو الأنفاق والحافلة والمستشفى. هكذا نشرت في سنة 1993 «يوميات الخارج» ثم «الحياة الخارجية» سنة 2000، أتبعتهما سنة 2001 بكتاب «ضياع» الذي تسرد فيه تفاصيل إحدى علاقاتها العاطفية يوما بيوم. وشكل تأليف كتاب يومياتها «لم أغادر بعد ليلي» تجربة وجدانية قاسية، إذ عمدت فيه الكاتبة إلى وصف وتيرة تطور مرض الخرف المبكر الذي أصيبت به والدتها، والذي أدى في النهاية إلى وفاتها في إحدى دور العجزة. إثر مرور ثلاث سنوات على صدور «العار»، نشرت الكاتبة كتابها «الحدث» الذي تجاوزت فيه حدود الكشف حين قامت، على نحو غير معهود الفظاظة، بوصف عملية إجهاض قامت بها على نفسها دون مساعدة أحد في مرحاض حي جامعي وعمرها لم يتجاوز العشرين . في هذا الإطار، وفي سياق النزول إلى حلبة الوعي الأخلاقي والاستعراض الصريح لثنايا الروح الأكثر تواريا وخفاء، صرحت الكاتبة في حوار أجرته معها مجلة (ليت) الفرنسية (مارس 2000)، أن غايتها هي تأليف كتب سيكون من المتعذر عليها الحديث عنها فيما بعد، والتي لن تسمح لها بتحمل نظرات استنكار الآخرين، وهو ما عبرت عنه في مفتتح كتابها «الشاغل» قائلة: «أريد أن أكتب كما لو كنت سأغيب أو أقضي نحبي قبل صدور نصي». كتبٌ مكنتها من إدراك عزلة بالغة الحدة، شبيهة بحالة العزلة التي عانتها بطلة «الحدث»، ليس في شخص الفتاة الغريرة التي كانتها، وإنما في إهاب المرأة البالغة التي عادت، بعد انصرام سنوات طويلة، لتأمل حدث مصيري في حياتها. لقد وُصفت أنّي إيرنو بكونها كاتبة منحصرة في عالمها الخاص، وأنها تتوخى تشريح الواقع والذاكرة الخؤون، وتسعى إلى وضع استراتيجية لتدبير الأهواء والمشاعر الحميمة، وأنها بارعة في صوغ اللغة وابتكار المقاربات، وأن أدبها كله إنما يتغيى بلوغ هدف مستحيل هو تطهير اللغة الأدبية من صدئها البلاغي. هكذا يكون عملها عملا ارتداديا ينحو منحى العودة إلى «أصل التجربة»، وذلك عن طريق إحاطة كل كلمة أو زخرف سردي بالشك، ووضع الأدب والتخييل في مقام الريبة من حيث علاقته بالواقع والذات. لقد أشرت في البداية إلى أن كتابة أنّي إيرنو تندرج، بشكل طبيعي، ضمن تقليد أدبي عريق. ورغم أن أعمالها الأدبية قُرئت، أحيانا، من وجهة نظر «نسوانية»، إلا أنها تبقى، في النهاية، منفتحة على سياق أدبي أرحب. لقد استوعبتْ تقاليد الكتابة السيرذاتية الأوروبية، فزاوجت بين صدقية البوح الديني وبين مقاربات عصر النهضة، حيث يتم التساؤل عن مركزية دور الذات في المعرفة. من هنا يمكن اعتبار تجربتها الكتابية حسابا موسوسا وأليما يتوخى مواجهة الحقائق مهما تكن قساوتها، وهو ما يعتبر تصرفا إشكاليا سواء بالنسبة إلى محيط الكاتبة أو أسرتها (خاصة ولديها) أو ذاتها. إن البحث عن حقيقة الذات ، وتشرب آلام الحياة حتى الثمالة، وتلافي أي زخرف في مواجهة الواقع، سماتٌ معروفة في التراث الإنساني الأوروبي سواء في شقه العقلاني أو التخييلي، لكن ما يجعل من أعمال أنّي إيرنو نصوصا جذابة هو كونها تطرح على القارئ سؤالا جوهريا: أين تكمن الحقيقة؟ إن ثمن هذه المغامرة باهظ بالنسبة إلى من كرس أدبه إراديا لها، لكن يجب ألا ننسى أن الكاتبة، حين تفعل ذلك، فإنها تبرز للآخرين محاذير ما يعجزون عجزا تاما عن اقترافه.