يوسف الحلوي في أوج معارك المرابطين التي قادها عبد الله بن ياسين لتوحيد المغرب الأقصى، وهو الزمن الذي لا يلمع فيه غير نجم الفرسان عادة وأرباب الكريهة وأولي العزم في تجييش الجيوش وصناعة الحرب، لمع اسم زينب النفزاوية كما يلمع النجم في كبد السماء، والناس ميالون في حال السلم إلى اللهو والطرب فليس غريبا أن يتناقلوا أخبار القيان والكواعب الحسان، وكذلك كان في زمن زينب نساء من بر عدوة الأندلس، يستملن القلوب بالغناء والشعر والرقص مما ورثنه عن زرياب الشهير وعددنه مبلغ ما تتبارى فيه النساء، فهذه ولادة بنت المستكفي سليلة بيت الخلافة تتخذ من مجلسها منتدى يتبارى فيه الشعراء وقِبلة يرتادها وجوه القوم وكبار رجال الدولة من أجل الظفر بجسدها، وتطرز على ثيابها غاية ما تبلغه أمانيها: أما إني لأصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها أمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها وهي بذلك تصور واقع نخبة عصرها كأصدق ما يكون التصوير. تناقل الرواة أخبار ولادة وذاع صيتها لأن أخبارها عادة لا تخلو مما يلهب خيال المتعطشين لأحاديث العشق والغرام، وأما زينب فدونت اسمها في تاريخ مداده دماءُ الكماة المتحاربين لا قوافي الشعراء المتصابين، ولحمة فقراته صليل السيوف وقراع الأسنة والحراب لا رنات العيدان وأنغام الرباب، وفرق ما بين زينب وولادة كفرق ما بين أحوال الأندلس وأحوال عدوة المغرب الأقصى في ذلك الزمن، فتلك أمة كانت تمتطي عبث ولادة وتهوي نحو منحدر الضياع بمحض إرادتها، وتلك أخرى كانت تتلمس سبل الريادة والمجد بكفاح زينب ومثيلاتها، حتى كان من أمر تَينك المرأتين ما كان من أمر الأمتين، ذهب سحر ولادة ومعه سحر مجالسها ورددت أرجاء الأندلس أمجاد يوسف بن تاشفين الذي سيذكر التاريخ أنه لم يعدل يوما عن رأي زينب الحصيف إلى رأي غيرها. هي زينب بنت إسحاق الهواري المعروفة بالنفزاوية نسبة إلى نفزة من بلاد البربر حيث نشأت وترعرعت، والدها تاجر أهله من القيروان، خفي عن المؤرخين تاريخ مولدها واشتهر بينهم فضلها يقول ابن خلدون: «وكانت من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة وكانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد الرحمان بن وطاس شيخ وريكة، فلما قتل المرابطون لقوط بن يوسف المغراوي خلفه أبو بكر بن عمر على امرأته». نفهم من حديث ابن خلدون أن زينب تزوجت قبل أبي بكر بن عمر بأميرين اثنين ويفيدنا ابن عذاري صاحب «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» أن زينب كانت ذات همة عالية وأنها كانت معروفة في قبائل المصامدة حين يقول: «قد شاع ذكرها وأمرها في قبائل المصامدة وغيرها، فكان يخطبها أشياخهم وأمراؤهم فتمتنع لهم وتقول: «لا يتزوجني إلا من يحكم المغرب كله»، فكانوا يرمونها بالحمق... وكانت لها أخبار مستطرفة غريبة.. فبعض يقولون إن الجن يملكها وبعض يقولون هي ساحرة». إن زينب على هذا امرأة طموحة يقبل عليها الأمراء فتصدهم ولا تقبل إلا أفاضلهم، ولأن ابن عذاري يجمع الغث والسمين خلاف ابن خلدون فهو ينقل ارتسامات الناس في زمنها كما تقتضي الأمانة دون تغيير، وبالنظر إلى انتشار الجهل بين تلك القبائل قبل أن يظهر أمر المرابطين فمن المقبول أن يُنعت كل صاحب طموح بما نعتوا به زينب. إن إقبال الأمراء على زينب دليل على رجاحة عقلها وما اختارها أبو بكر بن عمر زوجة له إلا لوقوفه على خلالها الكريمة وهو الرجل الورع التقي الذي ارتضاه المرابطون إماما لهم، ونقف على شيء من هذه الصفات في رواية ابن عذاري، فبعد زواج أبي بكر من النفزاوية في شهر ذي القعدة عام ستين وأربعمائة وهبته أموالا طائلة ليصلح بها شؤون إمارته، يقول صاحب المعجب : «فعجب من ذلك أبو بكر بن عمر كل العجب لما عاين من الذخائر والذهب والفضة، فقالت له زوجه زينب هذا كله مالك ومتاعك أعطاك الله إياه على يدي فصرفته الآن عليك... وكانت هذه المرأة موسومة بالجمال والمال وكان لها محاسن وخصال محمودة... فقيل والله أعلم إن الجن كانت تخدمها». إن زينب تهب مالها طائعة مختارة في سبيل الغاية النبيلة التي نذرت نفسها لخدمتها منذ البداية وهي الزواج من رجل يلتئم شمل المغاربة على يديه أو بتعبيرها «رجل يحكم المغرب كله» وتكون هي من بعد ذلك مستشارته وملاذه في النائبات وأما ما نقله ابن عذاري من مصدر مالها فمحمول على تعلق الناس بالخوارق في ذلك الزمن وهو نفسه يشكك في رواية العامة، والأقرب للعقل أنها كانت تحت أميرين قبل أبي بكر فلا يبعد أنها اطلعت على أسرارهما فدلت أبا بكر على مكان ثروتهما أو أن مالهما انتقل إليها بالإرث فأنفقته في صالح أمتها كما يجدر بامرأة في مثل عقلها وحكمتها. أشارت زينب على أبي بكر ببناء مراكش فشرع في ذلك ولم يتمه إلى أن كان ما هو معلوم من بنائها على يد يوسف وكانت زينب يومها زوجا له.. وأما قصة زواجها من أمير المسلمين فدليل آخر على تحليها بأخلاق لا نظير لها بين النساء، إذ أن الأمير أبا بكر حين عزم على الرحيل إلى الصحراء بعدما سمع من اضطراب أحوالها وكانت مدة إقامته عند زينب لا تتجاوز ثلاثة أشهر طلقها مبررا فراقه لها بعدم قدرتها على التأقلم مع حياة الصحراء القاسية، جاء في الاستقصا لصاحبه الناصري: «وقال لها عند فراقه إياها يا زينب إني ذاهب إلى الصحراء وأنت امرأة جميلة بضة لا طاقة لك على حرارتها، وإني مطلقك فإذا انقضت عدتك فانكحي ابن عمي يوسف بن تاشفين فهو خليفتي على بلاد المغرب»، فامتثلت زينب لأمره بعد أن وضعت ثروتها بين يديه غير مبالية بزوال الإمارة والمال معا وهي تدرك أن زواج يوسف بها منوط برغبة يوسف وحده لا بأمر أبي بكر لكنها أذعنت دون تذمر وكان ردها كما في المعجب «الرأي السديد ما تراه» ثم إن أبا بكر دعا يوسف ونصحه بالزواج منها وقال: «تزوجها فإنها امرأة مسعودة» وتكفينا هذه الإشارة من رجل مرابطي صالح لنحكم بصلاح المرأة وورعها، غير أن زينب لم تكن جميلة وورعة فحسب فهي كما وصفها الناصري «حازمة لبيبة ذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور». فبعيد زواجها من أمير المسلمين تجلت عبقريتها في الإدارة والتخطيط وصارت وزير صدق في دولة يوسف يفزع إليها للمشورة فتشير عليه حتى حقق غايته وغايتها وغاية الأمة جمعاء في توحيد المغرب، يقول ابن عذاري: «وأعطته الأموال الغزيرة فأركب الرجال الكثيرة وجمعت له القبائل أموالا عظيمة، فجند الأجناد وأخذ في جمع الجيوش من البربر والاحتشاد... بنفسه وبتدبير زوجه زينب في كل يوم مع أمسه حتى سلك أهل المغرب في قانون الضغط فتأتى من ملكه ما لم يتأت». وإن يوسف ليذكر فضل زينب أمام الملأ من الناس ويثني عليها ثناء حسنا، فكان إذا اجتمع بأبناء عمومته يقول «إنما فتح الله البلاد برأيها». ومن الطرائف التي يسوقها الناصري في معرض الحديث عن رجاحة عقل زينب أن ثلاثة نفر اجتمعوا فتمنى أحدهم ألف دينار يتّجِر بها، وتمنى الثاني عملا يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنى الثالث زينب فبلغت مقالتهم أسماع أمير المسلمين، فأحضرهم بين يديه وحقق أمنياتهم ثم بعث بالثالث إلى زينب فحبسته ثلاثة أيام بخيمة لا يذوق إلا طعاما واحدا ثم سألته عن مأكله فقال هو طعام واحد فقالت فكذلك النساء ثم أمرت له بكسوة ومال وصرفته. وقد تعددت الروايات التي نقلت خلاف أبي بكر ويوسف حول السلطة ودور زينب في حسم الخلاف لصالح يوسف، وهي إن أجمعت على حسن تدبير زينب فهي روايات مظنونة لسببين اثنين، أولهما أن أبا بكر لما عزم على السفر إلى الصحراء أخبر زينب أنه سيستخلف يوسف على المغرب فلا مسوغ لعدوله عن قراره بعدما رأى نجاحات أمير المسلمين الباهرة، وثاني الأمرين أن وفاة زينب سبقت عودة أبي بكر إلى المغرب إذ أن وفاتها كانت عام 464ه كما ذكر ابن زرع صاحب روض القرطاس بينما كان رجوع أبي بكر من الصحراء بعد ذلك بعام. تركت زينب بعد وفاتها تميما والفضل والمعز بالله وكان تميم هذا من القادة العسكريين البارعين، وقد اختار يوسف لولاية عهده عليا من ولد زوجه «قمر» مما يفند الزعم القائل باستبدادها بأمور الحكم فلو كانت كذلك لكانت ولاية العهد في ولدها، ولكنها كانت امرأة فاضلة تبذل الغالي والنفيس في سبيل أمتها، لا تنتظر جزاء ولا شكورا .