رجال صدقوا ما عاهدوا الله والشعب عليه، منهم من لقي ربه ومنهم من ينتظر. أسماء دوى صداها في أرجاء المدينة الحمراء وخارجها وشمخوا شموخ صومعة «الكتبية» أو أكثر، وبصموا بأناملهم وكتبهم تاريخا ظل عصيا على المحو. لكن فئة قليلة من الجيل الحالي من تعرفهم أو تعرف إنجازاتهم. غير أن الذين عاصروهم أو الذين تتلمذوا على أيديهم يعتبرون أن هذا الرعيل صنع ما لم يصنعه أحد ممن سبقوهم كل في تخصصه. «المساء» نبشت في ذكرياتهم في مراكش وخارجها، وجالست من بقي منهم على قيد الحياة، واستمعت إلى تلامذتهم، الذين لا زالوا يعيشون جمالية تلك اللحظات التي لازالت منقوشة في أذهانهم وقلوبهم. افتقدته حلقات العلم ومدرجات الكلية وحنت لفراقه القلوب الطيبة، والأفئدة المسددة والمؤيدة بإذن الله تعالى. نادرة هي طينة عبد السلام الخرشي، المربي الجليل والعلامة الكبير، الذي عرفته مدينة مراكش ومدرجات كليتها مربيا ومعلما، بعلمه وسلوكه وسمته وصمته، وكل جوارحه، فقد كان كتابا في الأخلاق الحسنة يمشي على الأرض. يعجز الكثير ممن عاشروه أن يصفوا حقيقة هذا الرجل المربي والمعلم، لأنهم لم يجدوا بعد في قواميس الفضيلة ومعاجم النبل ما يصفون به هذا الرجل العلم الكبير. فقد عرف عبد السلام الخرشي، في النوادي والمجالس أديبا مبدعا وعالما مشاركا، وعرفته الأسفار سائحا متفكرا، وعرفته مجالس الأصدقاء والرفقاء زهرة طيبة الريح، عذبة الكلام، وجذابة الابتسامة. صبغ بأنامله الطيبة العمل الدعوي برونق الأدب الرفيع، وتقديمه للناس موائد مزخرفة، تعددت أصناف أطعمتها وتنوعت أشكال أشربتها؛ شواؤها تفسير وأحكام، وشايها سيرة وأعلام، وعسلها إيمان وإسلام، وفاكهتها أدب مختار، ذوقه رفيع وحبكه بديع، وكلماته زجلة فصيحة، يقدمها بلكنة مراكشية مليحة، تعددت فيها العبارات الجياشة، والمفردات العملاقة وغيرها من أطايب الكلام الذي لا يخرج من فم عبد السلام الخرشي إلا ومر بمحطات التنقية والتصفية. الدعوة في الدراسة حمل عبد السلام الخرشي، الداعية والأستاذ المحاضر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش رسالة منذ صغره بعد أن تدرج في مدارج العشق الإلهي وسبر أغوار النفح الرباني، حيث ولد في بيئة سقفها الإيمان وأرضها الإسلام وجدرانها الأخلاق والفضيلة. عرف الأستاذ عبد السلام الخرشي، شابا طموحا ومجدا في دراسته، وهو المراكشي الذي كانت مراكش بالنسبة له أرض من أراضي الفتح الإسلامي، وفضاء العلم الرباني، بدأ الوعظ والإرشاد منذ صغره في صفوف أقرانه، حمل هموم الدعوة إلى الله مبكرا، وصار يرشد ويعظ الناس أينما حل وارتحل، حتى أنه كان كلما دعي من قبل جيرانه وعمره حينها لا يتجاوز ال 16 سنة للمراجعة مع بعض أبناء الحي، إلا وقام بإرشادهم إلى الصلاة، وغرس فيهم بالتي هي أحسن مكارم الأخلاق والاستقامة، حيث كان دائما يربط بين النجاح والتفوق في الدراسة وبين الاستقامة وتقوى الله، وهو الذي لم يفارق قوله تعالى «اتقوا الله يعلمكم الله» شفتيه. درس عبد السلام الخرشي السيرة النبوية دراسة معمقة، وتشرب من معين القرآن الكريم، فمنحه ذوقا أدبيا رفيعا، وقد حفظ القرآن الكريم صغيرا، ودرس على عدد من المشايخ؛ منهم: العلامة المراكشي أبو عبيدة المحيرزي. وتشرب على أيدي فقهائه ومشايخه الأخلاق العالية، حيا بها طودا شامخا ومتواضعا كريما. معاصر الأيديولوجيات في الوقت الذي اشتد طود وعود الداعية عبد السلام الخرشي، وتشرب من معين العلم الشرعي من منبعه الأصلي، كان محيطه حارا بالأيديولوجيات اليسارية في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات وقد عاصر ثورة الأيديولوجيات وهو الذي دخل عالم الثقافة والأدب في تلك الفترة. قال عنه المفكر المغربي؛ الدكتور عباس رحيلة في كلمة ألقيت بمناسبة تكريم الخرشي رحمه الله: «عاصر التقلبات والإيديولوجيات في مطالع سبعينيات القرن الماضي، وعايش لحظات الإغراء والانزلاقات، فكان يُراقب ما يجري في الساحة الثقافية بمراكش وهي تطفح بالإيديولوجيات، وتغمرها الانحرافات، فما جرفتْه الأهواءُ والتيارات»، مضيفا «ظل واثقا من نفسه، يسير وحيداً عكس التيار، تتهاوى أمام حواراتِه أوهامُ المادّيين الجدليين، ومن مشى في ركابهم من التائهين. حلَّقَ في تلك الأجواء في غير سربه بشموخ، واتسعت قراءاتُه في مواقف الإسلام من قضايا العصر وما يمور فيه من دعاوَى وانحرافات، ولعلّ أطروحته حول الفقراء والمساكين من آثار تلك السنين، أمّا مجادلوه بالأمس فقد توارى أكثرُهم اليوم، وظلوا على اختلاف ما عرفتْه أحوالُهم يحملون التبجيل لمواقف عبد السلام والاحترام لشخصه». كان رحمه الله شغوفا بالكتاب؛ يتتبعه في السفر والحضر، ويبذل فيه كثيرا، حتى أنه كان يزور المكتبة ثلاث مرات في الأسبوع، وكان يقتني لنفسه، كما يقتني المصاحف والكتب لإهدائها لغيره. عرف بولعه ب «تحفة الأشراف» للحافظ المزي، وغرامه بكتاب «تجارب الأمم» لابن مسكويه، إذ كان يقول دائما: «هو أحسن ما كتب في التاريخ». ومن شغفه بكتب الأدب وشعر الحكمة؛ جَهِد في البحث عن «ديوان صالح عبد القدوس» فوجده في الخزانة العامرية للشيخ أبي عامر، ففرح بذلك فرحا عجيبا، وصوره وجلده. وكان يقول: «ما يذكر عن صالح عبد القدوس من الزندقة، يرده شعره»، وقد كان يستظهر الديوان كاملا. أحداث لا تنسى لما توفيت زوجته رحمها الله (حفيدة العلامة المراكشي القاضي عمر الجراري؛ تلميذ العلامة أبي شعيب الدكالي رحمهما الله) قبل نحو ثلاث سنوات؛ ظهر منه وفاء عجيب، فقد كان كثير البكاء عليها، يذكرها كل حين. وقبل وفاته بأربعة أيام، اتصل الأستاذ الخرشي بالقارئ عمر القزابري وعزاه في عمه، محمد القزابري رحمه الله، مؤذن مسجد حي «أسيف»، قائلا له: «أشهد أنك كنت بارا بعمك». ظل في دروسه ومحاضراته الجامعية شلالا منهمرا، ترتوي منه العقول والنفوس. تتسارع المعارف على لسانه، وتنساب محاضراته في أجواء كلية الآداب، توقِظُ الصمتَ، وتوقظُ الهِمم، وتُذكِّرُ بشموخ مجالس العلم ويشعر النفوسُ مسؤوليتها فيما هي مطالَبَةٌ به في دنياها، وما أعدَّتْه من عُدَّة لأخراها. طبع له كتاب ضخم ماتع مفيد بعنوان: «فقه الفقراء والمساكين في ضوء القرآن والسنة، أو الحل الإسلامي لمعضلة الفقر». ومن مؤلفاته المخطوطة: جزء في المداراة، وكتاب في أحوال النفس في السنة النبوية، وله تقييدات في الأدب ..وله دروس ومواعظ ومحاضرات ذات قيمة علمية وأدبية رفيعة؛ كثير منها مسجل. توفي ليلة الخميس الثاني من شهر ذي القعدة 1432ه، الموافق 29 شتنبر 2011. شيعه الآلاف من محبيه ورفقائه وتلامذته في جنازة متواضعة لشخص شمخ بتواضعه. شيعه علماء وقراء ودعاة وأدباء وسياسيون ومفكرون وممثلو السلطات وأعيان التجار والحرفيين ورجال الأعمال أبرزهم الدكتور لحسن وجاج، والشيخ المربي محمد زهرات، والقارئ الشهير عمر القزابري، والشيخ الواعظ محمد العدناني، والأستاذ الدكتور توفيق عبقري، والشيخ المقرئ عبد الكبير أكبوب، والمقرئ الدكتور عبد الرحيم نابلسي، والأستاذ الدكتور أحمد متفكر، ومحمد بلقايد القيادي في حزب العدالة والتنمية، والحاج محمد شاكر صديق الفقيد ...