رجال صدقوا ما عاهدوا الله والشعب عليه، منهم من لقي ربه ومنهم من ينتظر. أسماء دوى صداها في أرجاء المدينة الحمراء وخارجها وشمخوا شموخ صومعة «الكتبية» أو أكثر، وبصموا بأناملهم وكتبهم تاريخا ظل عصيا على المحو. لكن فئة قليلة من الجيل الحالي من تعرفهم أو تعرف إنجازاتهم. غير أن الذين عاصروهم أو الذين تتلمذوا على أيديهم يعتبرون أن هذا الرعيل صنع ما لم يصنعه أحد ممن سبقوهم كل في تخصصه. «المساء» نبشت في ذكرياتهم في مراكش وخارجها، وجالست من بقي منهم على قيد الحياة، واستمعت إلى تلامذتهم، الذين لا زالوا يعيشون جمالية تلك اللحظات التي لازالت منقوشة في أذهانهم وقلوبهم. شخصية فذة جمعت العلم والخلق والنسب الشريف.. هو أحمد بن العباس بن الجيلالي الشرقاوي، وصل اسمه إلى بيوت منازل المدينة الحمراء واخترق قلوب كل أصحاب الكلمة الصادقة والأبيات الموزونة. يتحدر نسبه من أبي عبد الله محمد الشرقي، الذي يرتقي نسبه إلى الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.. واسمه العائلي في الأخير وهو ما اشتهر به في الوسط المراكشي هو الشرقاوي إقبال.. أمهات المتون في 10 سنوات ولد الشرقاوي إقبال سنة 1927 في درب المجاط في حي باب هيلانة (باب إيلان)، وهو أحد الأحياء القديمة، التي تخرّج منها خيرة علماء الحمراء، واحتضن زمرة من النبغاء كالقاضي عياض وابن البناء ومحمد بن المعطي السرغيني وللا محلة، التي كانت حافظة لمتن الإمام مالك، وغيرهم كثير.. تربى الشرقاوي إقبال في بيت سقفه الإيمان وأرضه الإسلام وجدران العلم والأخلاق، تربى تربية إسلامية صرفة. تدرج بشكل طبيعي في مراحله الأولى من عمره إلى أن وصل إلى سنه الرابعة، حيث أدخله والده إلى كتاب الحي، عند الفقيه علال التكاني، الذي عرف بعلمه المقدر، فحفظ القرآن الكريم كاملا. ولما انتقلت أسرته الصغيرة إلى حي حارة الصورة، أدخله والده إلى مدرسة أخرى تسمى «سيدي بوحربة»، التي كان يشرف عليها العلامة أحمد أكرام، فأعاد قراءة القرآن الكريم على يدي الفقيه الشريف سعيد المصلوحي، الملقب ب «السبيع»، إضافة إلى حفظ بعض المتون المهمة، كالمرشد المعين وجزء من تحفة ابن عاصم وابن آجروم وجمل المجرادى ونظم الزواوى في الجمل،ولامية الأفعال، لابن مالك، وشافية بن الحاجب في التصريف وخلاصة ابن مالك ومقدمة ابن الجزري في التجويد، إلى غير ذلك من المتون، التي تضلع فيها الشرقاوي إقبال واشتد عوده فيها وصار أحد النوابغ الكبار. وقد شكّل الفقيه الشريف سعيد المصلوحي، الملقب ب»السبيع»، الفقيه الأول الذي ولّد فيه حب اللغة بشرحه كلَّ لفظ غريب يحتويه نص من نصوص القرآن أو السيرة النبوية، إلى جانب الاستشهاد لهم بأقوال الشعراء. وشكّل تنقل أسرة الشرقاوي بين أحياء المدينة العتيقة بالنسبة إلى إقبال، صغير السن، لحظة مهمة في حياته، حيث سيطّلع على أنواع وأنماط من الكتاتيب القرآنية وطبائع مختلفة للفقهاء والحُفّاظ. فقد انتقلت أسرة الشرقاوي، مرة أخرى، إلى درب ضباشي، لينتقل الابن الصغير إلى كتاب ثالث في هذا الحي، عند الشيخ البركة أحماد السوسي، الذي بدأ معه قراءة القرآن برواية قالون، لكن إقامته لم تدم إلا بضعة شهور، حيث التحق إقبال بالسنة الأولى ابتدائي في جامعة ابن يوسف، بعد أن تمكّن من استظهار القرآن الكريم، ومعه طائفة من المتون العلمية، واجتاز امتحان الكتابي والشفوي بتفوق كبير، وأصبح منذ ذلك اليوم محط أنظار شيوخه، وفي مقدمتهم رئيس الكلية اليوسفية العلامة محمد بن عثمان، الذي اختبره في ذاكرته الحافظة للشعر والنثر مرات عديدة. حفظ آلاف الأبيات الشعرية في صغره في السنة الثالثة ابتدائي، قدّم الشرقاوي إقبال لرئيس الكلية اليوسفية دفترا يضمّ مطالع عدد من القصائد والمقطعات، وإلى جانبها عدد أبياتها، فكان مجموع ما قدّم 10 آلاف بيت من الشعر العربي، استظهرها بسرعة كبيرة، مُحافظاً على نبرة الصوت الشعري وطريقة الإلقاء البارعة، فاندهش الرئيس حتى كاد أن يجن مما يرى ويسمع.. لم يصدق رئيس الكلية ما تلتقطه أذناه من فم هذه التلميذ الصغير، ولا ما تراه عينيه من صغر هذا الفتى ليجري عليه اختبارا، كي يتيقن من أمره وحقيقة دعواه مرة أخرى، فانبهر المسؤول من قوة حافظته ونبوغه المبكر، وأصبح يُنوّه به في المحافل العلمية وبين جموع الطلبة وفتح له خزانته التي قرأ منها بعض الكتب.. ومن البواعث التي دفعت هذا التلميذ الصغير إلى الاهتمام بحفظ النصوص الشعرية والنثرية كثرة ما قرأ وسمع عن الحفاظ وما كانوا يستظهرونه من النصوص أمامه، فقوى عزيمته وشحذ ذهنه ليقتفي أثرهم، ومما ساعده على ذلك بعد المنة الإلهية، قوة إرادته، مما جعل ذاكرته وحافظته تخزّن آلاف الأبيات الشعرية وهو طري العود. فقد وهبه الله صبرا وجلدا على القراءة، فكان يقرأ ثمان ساعات متواصلة، دون ضجر ولا سآمة، لا يتوقف إلا لأداء فريضة دينية أو لقضاء حاجة بشرية. الإدمان على القراءة والفاقة كان هذا الفتى مدمنا على القراءة، حتى إنه قرأ وهو ابن عشر سنوات كتاب «مجربات الديربي»، تلاه بكتاب «تاج الملوك»، ثم كتاب «الرحمة في الطب والحكمة». هذه الكتب الثلاث التي وقعت في يده بالصدفة، ودون سابق علم أو اختيار ودون أن يجد من يوجهه أو يأخذ بيده، قد ارتسمت في ذهنه واختزنتها ذاكرته إلى كهولته.. بدأت دائرة القراءة تتسع في شتى صنوف العلوم وضروب المعارف، فكان حريصا على أن يقرأ كل شيء، فأمعن في القراءة حتى صار ناهما لآلاف من الكتب والرسائل في شتى أنواع العرفان. نشأ محمد إقبال عصاميا بما حصّل من العلم والأدب، مما جعله يتخطى عددا من المراحل ويلتحق بإحدى المدارس الحرة، بعدما عانى كثيرا من الحاجة وضيق العيش، الأمر الذي دفعه إلى مغادرة الكلية اليوسفية سعيا وراء العيش، وهكذا التحق، في سنة 1946، بمدرسة الحياة للتعليم الحر، التي كان يرأسها الفقيه الأستاذ مْبارك الغراس، ليلتحق، بعدها بسنة واحدة، بالتعليم الحكومي (كما كان يسمى آنذاك) وتحديدا بمدرسة عرصة المعاش الصناعية، حيث درّس فيها اللغة العربية والدين، واستمر فيها إلى سنة 1956، حيث التحق بمدرسة المعلمين الإقليمية، التي قضى فيها بقية حياته التدريسية. وقد استمر الشرقاوي إقبال، مربي الأجيال، في درب التعليم والكلمة الطيبة والموزونة إلى أن لقيّ ربه في شتنبر 2001.