إصلاح عميق وجوهري ينتظر مدونة الأسرة تحت رعاية ملكية سامية        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء        أخبار الساحة    الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب        بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مناهج تلقين القرآن الكريم
نشر في ميثاق الرابطة يوم 10 - 12 - 2010

يعتبر تلقين القرآن الكريم عبادة في الإسلام يؤجر عليها الملقن والمتلقن وكل من له صلة بهما وخلصت نيته في النهوض بهذه المهمة الشريفة. وهي مهمة من أعظم المهام التي حظيت باهتمام المسلمين عبر التاريخ الإسلامي، فلماذا بدأ يبهت هذا الاهتمام في الوقت الذي يفترض أن يتقوى ويتطور؟ أليس من الواجب على المسلمين اليوم العناية البالغة والاهتمام المتزايد بتعليم القرآن الكريم وتلقينه للصغار حتى يشبوا وينشأوا على تعاليمه، فيرتبطوا به ويعملوا به؟
لماذا لا نستفيد من وسائل العصر الميسرة في تطوير تعليم القرآن الكريم وتلقين علومه؟ لما لا نجهز دور القرآن والكتاتيب بما يتيسر من وسائل التحفيز والتشجيع للصغار والكبار على السواء في ولوجها لتعليم القرآن الكريم وحفظه والتمكن من علومه؟
لماذا لا يكون لدور القرآن ومدارسه بنايات جميلة ومريحة تبعث على جلب الطلبة والمتعلمين، وترغبهم في متابعة الدراسة بها؟ لماذا لا نوفر لهم المآوي والمطاعم النظيفة والملائمة التي تساعدهم على الحفظ والاستذكار وعلى الدرس والتحصيل بالطرق الجيدة؟
بل لماذا لا يكون لهذه الدور القرآنية فنادق خاصة بروادها تضمن لهم المسكن المريح والتغذية الجيدة؟ ألا يستحقون ذلك وهم يشتغلون على أفضل الكتب وخير العلوم؟ ألا يليق بكتاب الله تعالى أن توفر لطلابه مثل هذه الوسائل من أجل تحقيق أهدافه التي لا تقتصر على الدنيا بل تتجاوزها إلى سعادة الدارين؟
ومن سر القرآن الكريم، هذه العناية التي يوليها المسلمون لحفظه في مختلف بقاع العالم وتعليمه، وتوريث حفظه وعلمه للأجيال من بعدهم، على اختلاف بينهم في الكيفيات والوسائل. وقد ذكر ابن خلدون أن تعليم القرآن الكريم شعيرة من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم. ويستعرض ابن خلدون في مقدمته مختلف الطرق والمناهج التي حفظ بها المسلمون القرآن الكريم وتعلموه، فبين أن طريقة أهل المغرب في حفظ القرآن الكريم مكنتهم من أن يكونوا أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم، ويقول: "فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه، أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه انقطاعا عن العلم بالجملة. وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة، وكذا في الكبر إذا رجَّع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره، فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم". مقدمة ابن خلدون: 538، دار الفكر بدون طبعة ولا تاريخ.
وأما أهل الأندلس فيقدمون على حفظ القرآن تعلم اللغة العربية والشعر والآداب، حتى إذا ما برع الطفل في هذه العلوم انتقل إلى دراسة القرآن الكريم. وحجتهم في ذلك أن الطفل لا يستطيع فهم وإدراك معاني القرآن الكريم ما لم يلم بأصول اللغة العربية وآدابها.
تصدير المناهج المغربية في حفظ القرآن الكريم:
تعتبر منهجية المغاربة في تعاملهم مع كتاب الله تعالى داخل الكتاب القرآني نموذجا ومثالا عند كثير من الدول الإسلامية، لذلك استعارها فقهاء البلدان المجاورة كأهل تونس مثلا، فاسترشدوا بها ورجحوها على غيرها، وتقوم هذه المنهجية على عناية طالب القرآن بكتاب الله دون أن يتجاوزه إلى غيره في الحفظ أو العناية، حتى إذا أتقن الحفظ، وأكمل "السلكة"، تطلّع بعد ذلك إلى متن ابن عاشر في الفقه وألفية ابن مالك في النحو وبعض الأصول الأخرى كالآجرومية وغيرها.
ومن المعلوم أن هذه المناهج المغربية في تحفيظ القرآن وتلقين علومه قد لقيت عناية وإقبالا منقطعي النظير في المغرب وخارجه، لما تتمتع به من مرونة في التعليم مناسبة لكل فئات الناس، على اختلاف أعمارهم وقدراتهم الفكرية والعقلية، فهي متضمنة لبعض القوانين البيداغوجية المهمة التي ينبغي اعتمادها وتطويرها.‏ ونستعرض نجاحها في مجال تحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه من خلال رصد خطواتها المنهجية على الشكل التالي:
1. البداية بسورة الناس (الدفة الأخيرة):
الهدف من هذه البداية هو مراعاة ذهنية الطالب الذي يكون في سن مبكرة لا يستطيع استيعاب مقاطع طوال السور إلى جانب الفوائد الموضوعية الآتية:‏
أ‌. كون أغلب هذه السور مكية ومعلوم أن القرآن المكي في غالبه يركز على ترسيخ العقيدة؛
ب‌. قصر فواصل هذه السور؛
ت‌. اشتمالها على قصص يستطيع الطالب استيعابها كسور الشرح والفيل والمسد؛
ث‌. كون الطالب مأموراً بالصلاة لسبع وهو أمر يناسب استعداده بحفظ سور من القرآن يقرؤها في صلاته؛‏
ج‌. قصر السور يجنبه الملل ويعينه على الحفظ.‏
ويجمل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي هذه المزايا في قوله البليغ، ويعتبره ضربا من إعجاز القرآن، حيث تناول الإعجاز في قصار السور فقال: "إن لهذه القصار لأمرا، وإن لها في القرآن لحكمة هي من أعجب ما ينتهي إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلا موقع الأدلة الإلهية المعجزة. فقد علم الله أن كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول، فيسره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها في المنفعة، وأولها في المنزلة هذه السور القصار التي تخرج من الكلمات المعدودة إلى الآيات القليلة، وهي مع ذلك أكثر ما تجيء آياتها على فاصلة واحدة، أو فواصل قليلة، مع ما بين الفاصلة والفاصلة، فكل آية في وضعها كأنها سورة من كلمات قليلة، لا يضيق بها نفس الطفل الصغير، وهي تتماسك في ذاكرته بهذه الفواصل التي تأتي على حرف واحد أو حرفين أو حروف قليلة متقاربة، فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه، ويثبت أثره في نفسه، فلا يكون بعد إلا أن يمر فيه مرا، وهو كلما تقدم وجده أسهل، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ، فهذا من معاني قوله تعالى: "وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمومنين" [سورة الإسراء: الآية: 82]. وهي لعمر الله رحمة وأي رحمة.
وإذا علمنا بأن ترتيب القرآن توفيقي، أدركنا فضل الله في تيسير حفظ كتابه على الناس، حيث جعل هذه السور آخر القرآن كتابة، وهي أول ما يحفظ الصبي من القرآن، وكلما تمرن على الحفظ اتسعت السور واتسع معها ذهن الصبي واستعداده.
وإذا أردت أن تبلغ عجبا من ذلك، فتأمل آخر سورة من القرآن، وهي أول ما يحفظه الأطفال، تلك سورة "قل اعوذ برب الناس"، وانظر كيف جاءت في نظمها، وكيف تكررت الفاصلة وهي لفظة (الناس)، وفيها السين أشد الحروف صفيرا، وأطربها موقعا من سمع الطفل الصغير، وأبعثها لنشاطه واجتماعه، وكيف تناسب مقاطع السورة عند النطق بها تردد النفس في أصغر طفل يقوى على الكلام، حتى كأنها تجري معه وكأنها فصلت على مقداره، وكيف تطابق هذا الأمر كله من جميع جهاته في أحرفها ونظمها ومعانيها". إعجاز القرآن للرافعي: 262، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة سنة 2005/1425.
2. استعمال اللوح ولوازمه من الصلصال و"الكراك"، و"الصمق"...:
أ‌. يمكن من مراعاة الفروق الذهنية واستغلال الطاقات؛‏
ب‌. يمكن من تعلم رسم الحروف؛‏
ت‌. يساعد على التدرج في حفظ السورة بخلاف الرجوع إلى المصحف الذي يضم السورة كاملة، والتي قد يتهيبها الطالب.‏
3. الاستظهار:
ويمكن تقسيمه إلى قسمين:‏
أ‌. استظهار أولي: حيث يسمع الطالب الآية صحيحة بعد تلقيها مكتوبة في لوحه من قبل الفقيه، وهذا ما يساعد على تصحيح أخطاء النطق؛
ب‌. استظهار نهائي: عندما يستظهر الطالب الآية أو السورة من أجل المحو بعد الحفظ.‏
4. التكرار:
وهو مراجعة دورية يستطيع الطالب من خلالها أن يربط بين الأجزاء التي حفظها خلال المدة السابقة للتكرار. ومن فوائده ترسيخ الحفظ، وكذا حضور الذهن عند رفع الصوت بالقراءة بخلاف لو كانت القراءة صامتة.‏
5. الإملاء:
عند بلوغ الطالب مرحلة متقدمة في الحفظ وتمكنه من الخط، ويكون ذلك غالبا عند (سورة يس) يبدأ في الإملاء، حيث يجمع الفقيه حوله مجموعة من الطلبة فيُملي عليهم كل واحد في موضع. وبهذه الطريقة يزداد الطالب ضبطا للرسم وطريقة الكتابة، كما يبدأ الفقيه في هذه المرحلة في تلقين بعض العبارات والمتون التي تفيد في الرسم والحفظ معا.
6. القراءة الجماعية:
ومن أهم مظاهرها الحزب اليومي الذي يقرأ في المساجد بين المغرب والعشاء، وهو غير قاصر على المتعلمين بل يحضره المعلمون والمتعلمون وعموم الناس، ومن فوائده عند العامة:‏
أ‌. القيام بشعيرة المواظبة على القرآن الكريم وعدم هجره؛‏
ب‌.‏ مساعدة حفظة القرآن الكريم على مراجعته باستمرار وترسيخه؛ لأنه أشد تفلتا من الإبل في عقلها.‏
اقتراحات للتطوير والتحسين
لقد أثبتت المناهج التعليمية التقليدية نجاعتها في الواقع العملي، بدليل عدد المتخرجين من الزوايا والمدارس القرآنية الذين هم أطر يشغلون مناصب مهمة في المجتمع. ولهذا فهذه الملاحظات لا تحل محل هذه المناهج بل تعتمدها أساسا في البناء الجديد. ولكن إيمانا منا بضرورة التجديد بمعنى التطوير لا بمعنى النسخ نقول إن هذه المناهج تحتاج إلى تجديد وفق الملاحظات الآتية:‏
أ‌. ضرورة الاستفادة من خدمات الحاسوب (الإعلام الآلي) في هذه المؤسسات؛ لأنها وسيلة مربحة للوقت والطاقة، ومسعفة في التطوير والجودة في الخدمات العامة، والاحتياجات التربوية؛‏
ب‌. تكوين المديرين والمدرسين والحفظة تكوينا شاملا يستجيب لمقتضيات العصر؛
ت‌. الاهتمام بالجانب التطبيقي، وتنزيل الحفظ والعلم إلى الواقع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قرآنا يمشي بين الناس.‏
ينبغي ألا يبقى منهج التلقين جامدا، لاسيما وهو يحمل عوامل التطور والحيوية في ذاته، وحتى لا يقال: "إن هذا الأسلوب التلقيني الذي يعتمد على الحفظ الخارجي لا يعطي مفهوما حقيقيا للعقيدة، ولا يحرك الفكر والوجدان لدى الإنسان. لقد كان الأزهر وغيره من المدارس في السابق يعتمدون أسلوب التلقين في تدريس منظومات لا تفيد شيئا؛ لأنها تعرض قضايا قديمة شغلت الناس في عصر معين مضى؛ لذا كان لزاما علينا اللجوء إلى التجديد والتحديث حتى نتمكن بالفعل من تكوين مفهوم حقيقي للعقيدة وتكوين عقيدة واضحة للمسلم". وحتى لا تلمز المناهج التقليدية بمثل هذا التحقيق الذي لا يخلو من موضوعية ومن غيرة على القرآن الكريم خاصة والإسلام عامة، لابد من مراعاة ما يلي:
إذا كان الله تعالى قد تكفل بحفظ القرآن فقيض له أناسا هم أهل الله وخاصته فعليهم أن يستشعروا منزلة هذه المهمة.
وأن يعلموا أن نجاح المناهج التقليدية كان منبعثا من إخلاص أهلها في تبليغهم للعلم مما ولد الثقة بينهم وبين المتعلمين فآتت تلك الطرق والمناهج أكلها.

فلنبادر جميعا إلى مزيد الاهتمام بالقرآن حفظا وتدبرا وتعليما، ولنسخر في سبيل ذلك كافة الوسائل المادية والبشرية، ونسعى جاهدين في تذليل العوائق والصعوبات التي تحول دون نجاعة هذه الوسائل التعليمية حتى نحقق رضا الله سبحانه وتعالى عنا. وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
يعتبر تلقين القرآن الكريم عبادة في الإسلام يؤجر عليها الملقن والمتلقن وكل من له صلة بهما وخلصت نيته في النهوض بهذه المهمة الشريفة. وهي مهمة من أعظم المهام التي حظيت باهتمام المسلمين عبر التاريخ الإسلامي، فلماذا بدأ يبهت هذا الاهتمام في الوقت الذي يفترض أن يتقوى ويتطور؟ أليس من الواجب على المسلمين اليوم العناية البالغة والاهتمام المتزايد بتعليم القرآن الكريم وتلقينه للصغار حتى يشبوا وينشأوا على تعاليمه، فيرتبطوا به ويعملوا به؟
لماذا لا نستفيد من وسائل العصر الميسرة في تطوير تعليم القرآن الكريم وتلقين علومه؟ لما لا نجهز دور القرآن والكتاتيب بما يتيسر من وسائل التحفيز والتشجيع للصغار والكبار على السواء في ولوجها لتعليم القرآن الكريم وحفظه والتمكن من علومه؟
لماذا لا يكون لدور القرآن ومدارسه بنايات جميلة ومريحة تبعث على جلب الطلبة والمتعلمين، وترغبهم في متابعة الدراسة بها؟ لماذا لا نوفر لهم المآوي والمطاعم النظيفة والملائمة التي تساعدهم على الحفظ والاستذكار وعلى الدرس والتحصيل بالطرق الجيدة؟
بل لماذا لا يكون لهذه الدور القرآنية فنادق خاصة بروادها تضمن لهم المسكن المريح والتغذية الجيدة؟ ألا يستحقون ذلك وهم يشتغلون على أفضل الكتب وخير العلوم؟ ألا يليق بكتاب الله تعالى أن توفر لطلابه مثل هذه الوسائل من أجل تحقيق أهدافه التي لا تقتصر على الدنيا بل تتجاوزها إلى سعادة الدارين؟
ومن سر القرآن الكريم، هذه العناية التي يوليها المسلمون لحفظه في مختلف بقاع العالم وتعليمه، وتوريث حفظه وعلمه للأجيال من بعدهم، على اختلاف بينهم في الكيفيات والوسائل. وقد ذكر ابن خلدون أن تعليم القرآن الكريم شعيرة من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم. ويستعرض ابن خلدون في مقدمته مختلف الطرق والمناهج التي حفظ بها المسلمون القرآن الكريم وتعلموه، فبين أن طريقة أهل المغرب في حفظ القرآن الكريم مكنتهم من أن يكونوا أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم، ويقول: "فأما أهل المغرب فمذهبهم في الوالدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه، أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه انقطاعا عن العلم بالجملة. وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة، وكذا في الكبر إذا رجَّع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره، فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم". مقدمة ابن خلدون: 538، دار الفكر بدون طبعة ولا تاريخ.
وأما أهل الأندلس فيقدمون على حفظ القرآن تعلم اللغة العربية والشعر والآداب، حتى إذا ما برع الطفل في هذه العلوم انتقل إلى دراسة القرآن الكريم. وحجتهم في ذلك أن الطفل لا يستطيع فهم وإدراك معاني القرآن الكريم ما لم يلم بأصول اللغة العربية وآدابها.
تصدير المناهج المغربية في حفظ القرآن الكريم:
تعتبر منهجية المغاربة في تعاملهم مع كتاب الله تعالى داخل الكتاب القرآني نموذجا ومثالا عند كثير من الدول الإسلامية، لذلك استعارها فقهاء البلدان المجاورة كأهل تونس مثلا، فاسترشدوا بها ورجحوها على غيرها، وتقوم هذه المنهجية على عناية طالب القرآن بكتاب الله دون أن يتجاوزه إلى غيره في الحفظ أو العناية، حتى إذا أتقن الحفظ، وأكمل "السلكة"، تطلّع بعد ذلك إلى متن ابن عاشر في الفقه وألفية ابن مالك في النحو وبعض الأصول الأخرى كالآجرومية وغيرها.
ومن المعلوم أن هذه المناهج المغربية في تحفيظ القرآن وتلقين علومه قد لقيت عناية وإقبالا منقطعي النظير في المغرب وخارجه، لما تتمتع به من مرونة في التعليم مناسبة لكل فئات الناس، على اختلاف أعمارهم وقدراتهم الفكرية والعقلية، فهي متضمنة لبعض القوانين البيداغوجية المهمة التي ينبغي اعتمادها وتطويرها.‏ ونستعرض نجاحها في مجال تحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه من خلال رصد خطواتها المنهجية على الشكل التالي:
1. البداية بسورة الناس (الدفة الأخيرة):
الهدف من هذه البداية هو مراعاة ذهنية الطالب الذي يكون في سن مبكرة لا يستطيع استيعاب مقاطع طوال السور إلى جانب الفوائد الموضوعية الآتية:‏
أ‌. كون أغلب هذه السور مكية ومعلوم أن القرآن المكي في غالبه يركز على ترسيخ العقيدة؛
ب‌. قصر فواصل هذه السور؛
ت‌. اشتمالها على قصص يستطيع الطالب استيعابها كسور الشرح والفيل والمسد؛
ث‌. كون الطالب مأموراً بالصلاة لسبع وهو أمر يناسب استعداده بحفظ سور من القرآن يقرؤها في صلاته؛‏
ج‌. قصر السور يجنبه الملل ويعينه على الحفظ.‏
ويجمل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي هذه المزايا في قوله البليغ، ويعتبره ضربا من إعجاز القرآن، حيث تناول الإعجاز في قصار السور فقال: "إن لهذه القصار لأمرا، وإن لها في القرآن لحكمة هي من أعجب ما ينتهي إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلا موقع الأدلة الإلهية المعجزة. فقد علم الله أن كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول، فيسره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها في المنفعة، وأولها في المنزلة هذه السور القصار التي تخرج من الكلمات المعدودة إلى الآيات القليلة، وهي مع ذلك أكثر ما تجيء آياتها على فاصلة واحدة، أو فواصل قليلة، مع ما بين الفاصلة والفاصلة، فكل آية في وضعها كأنها سورة من كلمات قليلة، لا يضيق بها نفس الطفل الصغير، وهي تتماسك في ذاكرته بهذه الفواصل التي تأتي على حرف واحد أو حرفين أو حروف قليلة متقاربة، فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه، ويثبت أثره في نفسه، فلا يكون بعد إلا أن يمر فيه مرا، وهو كلما تقدم وجده أسهل، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ، فهذا من معاني قوله تعالى: "وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمومنين"[سورة الإسراء: الآية: 82]. وهي لعمر الله رحمة وأي رحمة.
وإذا علمنا بأن ترتيب القرآن توفيقي، أدركنا فضل الله في تيسير حفظ كتابه على الناس، حيث جعل هذه السور آخر القرآن كتابة، وهي أول ما يحفظ الصبي من القرآن، وكلما تمرن على الحفظ اتسعت السور واتسع معها ذهن الصبي واستعداده.
وإذا أردت أن تبلغ عجبا من ذلك، فتأمل آخر سورة من القرآن، وهي أول ما يحفظه الأطفال، تلك سورة "قل اعوذ برب الناس"، وانظر كيف جاءت في نظمها، وكيف تكررت الفاصلة وهي لفظة (الناس)، وفيها السين أشد الحروف صفيرا، وأطربها موقعا من سمع الطفل الصغير، وأبعثها لنشاطه واجتماعه، وكيف تناسب مقاطع السورة عند النطق بها تردد النفس في أصغر طفل يقوى على الكلام، حتى كأنها تجري معه وكأنها فصلت على مقداره، وكيف تطابق هذا الأمر كله من جميع جهاته في أحرفها ونظمها ومعانيها". إعجاز القرآن للرافعي: 262، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة سنة 2005/1425.
2. استعمال اللوح ولوازمه من الصلصال و"الكراك"، و"الصمق"...:
أ‌. يمكن من مراعاة الفروق الذهنية واستغلال الطاقات؛‏
ب‌. يمكن من تعلم رسم الحروف؛‏
ت‌. يساعد على التدرج في حفظ السورة بخلاف الرجوع إلى المصحف الذي يضم السورة كاملة، والتي قد يتهيبها الطالب.‏
3. الاستظهار:
ويمكن تقسيمه إلى قسمين:‏
أ‌. استظهار أولي: حيث يسمع الطالب الآية صحيحة بعد تلقيها مكتوبة في لوحه من قبل الفقيه، وهذا ما يساعد على تصحيح أخطاء النطق؛
ب‌. استظهار نهائي: عندما يستظهر الطالب الآية أو السورة من أجل المحو بعد الحفظ.‏
4. التكرار:
وهو مراجعة دورية يستطيع الطالب من خلالها أن يربط بين الأجزاء التي حفظها خلال المدة السابقة للتكرار. ومن فوائده ترسيخ الحفظ، وكذا حضور الذهن عند رفع الصوت بالقراءة بخلاف لو كانت القراءة صامتة.‏
5. الإملاء:
عند بلوغ الطالب مرحلة متقدمة في الحفظ وتمكنه من الخط، ويكون ذلك غالبا عند (سورة يس) يبدأ في الإملاء، حيث يجمع الفقيه حوله مجموعة من الطلبة فيُملي عليهم كل واحد في موضع. وبهذه الطريقة يزداد الطالب ضبطا للرسم وطريقة الكتابة، كما يبدأ الفقيه في هذه المرحلة في تلقين بعض العبارات والمتون التي تفيد في الرسم والحفظ معا.
6. القراءة الجماعية:
ومن أهم مظاهرها الحزب اليومي الذي يقرأ في المساجد بين المغرب والعشاء، وهو غير قاصر على المتعلمين بل يحضره المعلمون والمتعلمون وعموم الناس، ومن فوائده عند العامة:‏
أ‌- القيام بشعيرة المواظبة على القرآن الكريم وعدم هجره؛‏
ب‌.‏ مساعدة حفظة القرآن الكريم على مراجعته باستمرار وترسيخه؛ لأنه أشد تفلتا من الإبل في عقلها.‏
اقتراحات للتطوير والتحسين
لقد أثبتت المناهج التعليمية التقليدية نجاعتها في الواقع العملي، بدليل عدد المتخرجين من الزوايا والمدارس القرآنية الذين هم أطر يشغلون مناصب مهمة في المجتمع. ولهذا فهذه الملاحظات لا تحل محل هذه المناهج بل تعتمدها أساسا في البناء الجديد. ولكن إيمانا منا بضرورة التجديد بمعنى التطوير لا بمعنى النسخ نقول إن هذه المناهج تحتاج إلى تجديد وفق الملاحظات الآتية:‏
أ‌. ضرورة الاستفادة من خدمات الحاسوب (الإعلام الآلي) في هذه المؤسسات؛ لأنها وسيلة مربحة للوقت والطاقة، ومسعفة في التطوير والجودة في الخدمات العامة، والاحتياجات التربوية؛‏
ب‌. تكوين المديرين والمدرسين والحفظة تكوينا شاملا يستجيب لمقتضيات العصر؛
ت‌. الاهتمام بالجانب التطبيقي، وتنزيل الحفظ والعلم إلى الواقع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قرآنا يمشي بين الناس.‏
ينبغي ألا يبقى منهج التلقين جامدا، لاسيما وهو يحمل عوامل التطور والحيوية في ذاته، وحتى لا يقال: "إن هذا الأسلوب التلقيني الذي يعتمد على الحفظ الخارجي لا يعطي مفهوما حقيقيا للعقيدة، ولا يحرك الفكر والوجدان لدى الإنسان. لقد كان الأزهر وغيره من المدارس في السابق يعتمدون أسلوب التلقين في تدريس منظومات لا تفيد شيئا؛ لأنها تعرض قضايا قديمة شغلت الناس في عصر معين مضى؛ لذا كان لزاما علينا اللجوء إلى التجديد والتحديث حتى نتمكن بالفعل من تكوين مفهوم حقيقي للعقيدة وتكوين عقيدة واضحة للمسلم". وحتى لا تلمز المناهج التقليدية بمثل هذا التحقيق الذي لا يخلو من موضوعية ومن غيرة على القرآن الكريم خاصة والإسلام عامة، لابد من مراعاة ما يلي:
إذا كان الله تعالى قد تكفل بحفظ القرآن فقيض له أناسا هم أهل الله وخاصته فعليهم أن يستشعروا منزلة هذه المهمة.
وأن يعلموا أن نجاح المناهج التقليدية كان منبعثا من إخلاص أهلها في تبليغهم للعلم مما ولد الثقة بينهم وبين المتعلمين فآتت تلك الطرق والمناهج أكلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.