يوسف الحلوي ليست النساء سواء في اقتحام أهوال السياسة وتجشم عناء المثابرة في طلب العلم، ولسن سواء في البذل والتضحية وتحمل تبعات الجهر بالحق بين يدي أولياء أمورهن بَلهَ الجهر به بين يدي سلطان ترتعد في حضرته فرائص أشجع الفرسان، ولسن سواء في بعد النظر والصبر على قطاف ثمار جهودهن إن كن من اللائي يزرعن الفضيلة ويترقبن نمو غرسها، وإذا تحققنا أن غالبية المتدرجات في مراقي الرياسة والمجد تسمو بهن موهبة الجمال وصنعة الغنج والدلال قبل كل شيء، حق علينا أن نحني رؤوسنا إجلالا لمن اتخذت من عقيدتها الدينية وعزيمتها سببا في الارتقاء إلى سنيات الرتب، وفي تاريخ أمتنا المجيد أمثلة مشرقة من أولئك النساء، نستحضر منهن اسم الفاضلة خناثة بنت بكار، تلك التي اشتق اسمها من معاني الخنث والأنوثة وكانت أحزم الناس طرا في مواقفها، وأسبغ الله عليها من نعم الجمال ما حرم منه كثيرات غيرها فسلكت سبيل التقوى من حيث سلكن سبل الغواية. نبدأ رحلتنا في الحديث عن هذه الفاضلة من زمن نشأتها، فقد نشأت في بيت علم وفضل ورياسة، أبوها الشيخ بكار بن علي بن عبد الله المغافري أمير لبراكنة، لقبَ بالغول لشجاعته ولجهورية صوته، فكان كما يقال إذا تكلم أسمع وإذا ضرب أوجع، حرص على تربية ابنته أشد الحرص فحفظت القرآن ببيته وأحسنت القراءات السبع، وأخذت حظا من العلوم الشرعية وقسطا من الأدب، وكان لهذه النشأة فضل كبير على هذه المرأة الفاضلة في كل أطوار حياتها ولا نبالغ إذا قلنا أن لتربيتها أثرا عظيما في حياة الأمة بأكملها، ونواصل رحلة التنقيب في حياة خناثة التي صارت بعد جد وكد فقيهة ملمة وأديبة بارعة، جاء في «نشر المثاني» لصاحبه القادري أن خناثة كانت تكتب بيدها في اللوح ثم ترسله إلى الشيخ المكي الدكالي ليصحح لها، لكن هذا كان في أيام الطلب الأولى فما لبثت أن ارتقت إلى مصاف العلماء، تمعن النظر وتحقق وتبدي ملاحظاتها في مصنفات فحول الفقهاء والمحدثين، ولها في هذا المقام تعليقات على «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر العسقلاني، يقول أكنسوس: «وخناثة هذه هي أم السلاطين أعزهم الله، وكانت صالحة عابدة عالمة حصلت العلوم في كفالة والدها الشيخ بكار... رأيت خطها على هامش نسخة من الإصابة لابن حجر وعرف به بعضهم فقال هذا خط السيدة خناثة أم السلاطين» والحق أن صورة خناثة لا تكتمل في أذهاننا واضحة المعالم ما لم نلق نظرة على وضع المغرب في أول عهدها بالدنيا وأثرها في تغييره، فهي فتحت عينيها على وطن ممزق يموج بالفتن تعقب فيه الثورةُ التمرّدَ، وتلي الحربُ فترات السلم المتقطعة، وكأن الهدوء لا يعم أرجاء البلاد إلا ليعد كل طرف من الخصوم عدته لمعارك أشد ضراوة من سابقتها، وظروف اقترانها بالسلطان إسماعيل العلوي نفسها لم تخل من آثار هذه الفتن الهوجاء. جاء في الاستقصا أن السلطان حين جرد حملته على تخوم السودان وشنقيط وطاطا قدمت عليه وفود العرب من أهل الساحل والقبلة ودليم والمغاورة وغيرهم فأدوا فروض الولاء والطاعة، وكان منهم الشيخ بكار المغافري، الذي أهدى خناثة للسلطان عام 1089ه، وكأن الأمر يتعلق بصفقة سياسية تضمن للشيخ بكار الحفاظ على مكانته في قبيلته بعد أن قويت شوكة السلطان إسماعيل العلوي، وامتد نفوذه في كل الاتجاهات فهو عقد تحالف سياسي في طي عقد نكاح. انتقلت خناثة من بيتها إلى قصر السلطان الذي كان يعج عن آخره بالحريم السلطاني حيث فاق عدد نسائه الخمسمائة، لكنها ليست كغيرها من النساء إذ سرعان ما بزغ نجمها في سماء القصر فحظيت لدى السلطان بعلمها الغزير وأدبها الرفيع، والذي يدعونا إلى هذا الظن أن القصر ولا شك كان يضم بين أرجائه يومها العشرات من الكواعب الحسان فما الذي قدمها وأخرهن إن لم يكن حسن الخلق ورجاحة العقل ؟ لم تذب خناثة في حياتها الجديدة كلية كما يفترض أن يحدث مع نساء كثيرات شهدن تلك الطفرة العظيمة التي شهدتها حين انتقلت من مقام الخمول إلى مقام الحل والعقد، ومرد ذلك ولا شك إلى تربيتها القرآنية، فهذه العالمة الفاضلة سيسجل التاريخ أنها أقدمت في مواطن يحجم فيها أشد الرجال بأسا، ونشير هنا إلى أن السلطان إسماعيل غضب على أحد أقاربها وهم به فاحتالت في إبعاده عن القصر حفاظا على حياته وهي تدرك أن شرة غضب السلطان قد تصيبها بأشد أنواع الأذى، فهو الذي حصد اثني عشر ألف رأس من كروان وأمر قادته فحملوا إليه رؤوسهم ليشفي منهم غل صدره، وهو الذي ضيق على اليوسي العالم الجليل حتى قيل أن له يدا في قتله، وهو الذي سام العالم الفقيه محمد بن عبد السلام بن حمدون سوء العذاب وأوعز إلى أتباعه باغتياله، وهو الذي قطع أطراف ولده وفلذة كبده محمد العالم من خلاف فكان في ذلك هلاكه، فأي قوة تحمل هذه المرأة العظيمة على الوقوف في وجه مبتغاه؟ إن خناثة لم تكن واحدة كباقي حريم السلطان تقف حياتها على تنفيذ رغباته وتجهد نفسها في منافسة بقية النساء على الظفر بحظوته، بل كان لها دور عظيم في الحياة السياسية في عصرها، حتى وصفها الملك الفرنسي لويس الخامس عشر بالسلطانة العظيمة، وتصل رحلتنا في رحاب سيرة هذه المرأة الفاضلة إلى ذروة إثارتها ونحن نشاهدها تسعى في تثبيت اتفاقية للسلام والتجارة بين المغرب وانجلترا وحين نطلع على مراسلاتها مع السفير شارل ستيوارت الذي صار يتشفع بها في إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، ثم نلحظ أهمية دورها في تشكيل جيش الودايا الذي شكل المغافرة معظم عناصره فنزداد إجلالا لها، خاصة وأن هذا الجيش سيلعب دورا حاسما في إخماد الفتن بعد وفاة زوجها، كانت هذه السيدة الفاضلة تنظر إلى مجد أمتها نظرة من يعي مكامن الداء في نسيج الدولة ويسعى إلى البحث عن الدواء، فأكبت على تربية حفيدها محمد بن عبد الله تربية صالحة ولقنته مبادئ العلوم لتعده لمستقبل الأيام، فنما الحفيد محبا للخير مستكثرا منه، مقبلا على طلب العلم ومجالسة العلماء، صحب جدته في رحلتها إلى الحج عام 1143ه والتي دونها الإسحاقي وساقها بنصها العلامة عبد الهادي التازي في كتاب «مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة» فشاهد من حرصها على مرضاة الله العجب وهو بعد في الثالثة عشرة من العمر، جاء في شهادة محمد بن علي بن فضل الحسيني الطبري المسلمة لخناثة «وفي مدة إقامتها بمكة كانت تنزل في جنح الظلام وتطوف بالبيت الحرام وتكثر من الصدقات على الدوام، وبذلت بغير حصر وأعطت عطاء من لا يخاف الفقر»، وسجل الإسحاقي في هذه الرحلة أيضا «أن الأميرة المغربية حبست دارا بمكة على من يتلو القرآن، ويدرس صحيح الإمام البخاري بالحرم الشريف، وقد كانت تقع بباب العمرة اشترتها من أبناء العلامة الشيخ عبد الله بن سالم المصري بثمن يقرب من ألف مثقال مطبوعة». ويحق لنا هنا أن نقول أن خناثة كانت تولي لمحمد حفيدها من العناية ما لم تول لولدها عبد الله، وأن ارتباط هذا الحفيد بجدته كان وثيقا فهي أمام ناظريه مثال المرأة الصالحة وحسبك بمواقفها التي سارت بذكرها الركبان، تعلقت خناثة بالعلم وأجلت أهله ومما يروى عنها بهذا الصدد أنها التمست من زوجها أن يبني ضريحا على قبر العلامة الجليل أبي بكر بن العربي وأن يحبس عليه أوقافا تنفق على من يقرأ فيه القرآن، وما يزال هذا الضريح موجودا إلى اليوم بفاس في المقبرة المجاورة لباب «أبي الجنود» وكان من شأنها أيضا إنقاذ العالم الجليل لوقش التطواني الذي وشى به مبغضوه لولدها عبد الله. كان بلاء خناثة شديدا بعد وفاة زوجها وعزل ولدها، يروي الناصري أن السلطان أبو الحسن الأعرج ألقى عليها القبض برفقة حفيدها وامتحنها لتدله على الأماكن التي خبأت فيها أموال زوجها فلم يحصل منها على طائل، إن أهم ما تبادر إلى ذهنها في محنتها أن تجنب حفيدها الأذى وأن تدخره لقادم الأيام فبعثت إليهم تقول «بأن حفيدها صغير السن لم يجاوز الثالثة عشرة وما فعل ذنبا يستحق عليه العقوبة والسجن» وأما مصيرها فلم تكن قلقة بشأنه أو بعبارتها «ها أنا في السجن حتى يحكم الله بيني وبينه (أي الأعرج) ». ونأتي إلى نهاية رحلتنا فننيخ بروضة الأشراف من المدينةالبيضاء بفاس الجديد حيث دفنت العالمة العاملة الصالحة عام 1159ه مذكرين بأن جهودها في تنشئة حفيدها لم تذهب أدراج الرياح، فإن كانت قد ترعرعت في زمن فشى فيه القتل واستبيحت الدماء بغير وجه حق وعاينت عن كثب تصفية بعلها لخصومه دون رحمة، فإن النبت الذي تعهدته بالرعاية وسقته من علمها وصلاحها صغيرا اشتد عوده واستوى على سوقه، فلم يكد يحل عام 1171ه حتى بويع حفيدها سلطانا على المغرب لينشر القيم التي آمنت بها في حياتها ويبثها في ربوع البلاد ولا نعجب من نجاحه في سياسة رعيته بالعدل ما دمنا نعلم أنه تلميذ تلك الفاضلة «خناثة بنت بكار».