يبدو أن الرئيس المصري الجديد والمنتخب، الدكتور محمد مرسي، بدأ يستعيد دور بلاده القيادي في المنطقة بصورة أسرع مما توقعه الكثيرون، خاصة أن هذا الدور انكمش بل واختفى من دائرة الفعل طوال الأربعين عاما الماضية، سواء بسبب عزلة مصر في عهد أنور السادات بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد، أو لتنازل خلفه الرئيس حسني مبارك عن هذا الدور لقوى إقليمية أخرى. الرئيس مرسي وبعد سيطرته على القوات المسلحة والإعلام، والإطاحة بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، واستعادة السلطتين التنفيذية والتشريعية على إثر ذلك، بدأ ينشط على الصعيد الإقليمي ليقول لمن اختطفوا الدور المصري: نحن هنا. فالمبادرة التي طرحها الرئيس مرسي لمعالجة الوضع السوري وإيجاد حل سلمي يحقن الدماء، وتتمثل في تشكيل «مجموعة اتصال رباعية» تتكون من تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية إلى جانب مصر، تأتي تكريسا لهذا النهج المصري الجديد الذي يريد إحياء الزعامة المصرية مجددا. الدول الأربع هي المراكز ذات الثقل الإقليمي الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط، وهي الوحيدة، مجتمعة، القادرة على التدخل بفاعلية وحسم في الملف السوري، بعد أن فشلت جميع المبادرات الأخرى، سواء تلك الصادرة عن جامعة الدول العربية أو الأممالمتحدة. الأزمة السورية تؤثر بشكل مباشر على جميع هذه الدول، باستثناء مصر، لأن الدول الثلاث الأخرى، أي السعودية وإيران وتركيا، متورطة فيها بشكل مباشر، سواء بتزويد الأطراف الرئيسية بالسلاح والمال، مثلما هو حال كل من إيران والسعودية، أو بالتسهيلات اللوجستية العملياتية، مثلما هو حال تركيا التي باتت قاعدة رئيسية للمعارضة وقواعد تدريبها وتسليحها. الدور المصري غاب، أو بالأحرى «غُيّبَ»، لأسباب عديدة منها الانشغال بترتيب البيت المصري الداخلي، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على ضوء نتائج الانتخابات الديمقراطية، وتنظيف المؤسستين العسكرية والأمنية من بعض رموز النظام القديم. ولعل العناق الحار بين الرئيس مرسي ونظيره الإيراني على هامش قمة مكة الإسلامية الاستثنائية، هو أول رسالة قوية وبليغة تؤشر على استرداد مصر لعافيتها، وتأكيد رغبتها في لعب دور نشط في قضايا المنطقة. إن عدم تورط مصر في الأزمة السورية يؤهلها لكي تكون وسيطا محايدا ومقبولا من طرفي الأزمة، السلطة والمعارضة، وإن كان النظام السوري قد هاجم الرئيس مرسي بطريقة متسرعة وغير دبلوماسية، عندما أيّد في أحد خطاباته الثورة السورية، ووصف مطالبها بالتغيير الديمقراطي بكونها مطالب مشروعة، ونقول إنه هجوم متسرع وغير دبلوماسي لأن الرئيس أحمدي نجاد كرر الشيء نفسه، وأكد على مشروعية مطالب الثوار السوريين بالإصلاح والتغيير الديمقراطي، ولكن أجهزة الإعلام السورية الرسمية لم تتعرض له مطلقا بأي نقد لأسباب معروفة للجميع. فرص نجاح هذه المبادرة المصرية تبدو أفضل كثيرا من كل المبادرات السابقة، ليس لأن الأخيرة قد فشلت في حقن الدماء، بل زادت الأوضاع تعقيدا، مما أدخل البلاد في صراع مسلح، وحرب أهلية طائفية يتفق النظام والمعارضة معا على إنكار وجودها. فرص النجاح أفضل لأنها تبدو مبادرة تعترف بالحقائق على الأرض، والتدخلات الإقليمية في الأزمة، مضافا إلى كل ذلك عدم وجود أطراف أجنبية تقف خلفها مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الأوربية الأخرى. جميع المبادرات السابقة استثنت إيران من أي دور في الحل وعملت على إبعادها كليا من الاتصالات الجارية. وعندما أدرك كوفي عنان هذا الخلل الاستراتيجي وبدأ يعمل على إصلاحه من خلال رفع هذا «الفيتو» الأمريكي والغربي عنها، قررت واشنطن وبعض الدول الأوربية والعربية الأخرى إفشال مهمته، واستبعدته كليا من آخر اجتماع لمنظومة «أصدقاء سورية» في باريس، الأمر الذي دفع الرجل إلى فهم الرسالة وقرر الاستقالة من مهمته كمبعوث للأمم المتحدة والجامعة العربية. يوم الجمعة، أعلن السيد الأخضر الإبراهيمي، الدبلوماسي الجزائري المعروف، قبول قرار تكليفه من قبل الأمين العام للأمم المتحدة بخلافة كوفي عنان، رغم التحذيرات العديدة التي تطالبه بالبقاء بعيدا عن هذه المهمة المحكومة بالفشل، فالرجل الذي أسس للمحاصصة الطائفية والعرقية في العراق، التي قادت إلى تقسيمه إلى عدة كيانات وحلّ جيشه، يريد أن يجرّب حظه مرة أخرى في سورية التي باتت حقل تجارب وأرضية للصراع بين القوى العظمى التي تخوض حربا بالوكالة على أرضها. المبادرة المصرية يجب أن تجبّ ما قبلها من مبادرات، بما في ذلك مبادرة السيد عنان التي سيرثها السيد الإبراهيمي. فحل الأزمة السورية يجب أن يكون إقليميا، وأي دور للأمم المتحدة، أو حتى جامعة الدول العربية يجب أن يكون مساعدا وعن بُعد، لأن المطلوب بداية جديدة وجدية، بعيدا عن أجندات الغرب والشرق معا وبما يوفر الحد الأدنى من فرص النجاح. وإذا كانت بعض الدول العربية والغربية تفرض «فيتو» على أي مشاركة إيرانية في جهود الحل في سورية، فإن العناق الحار الذي حظي به الرئيس الإيراني أحمدي نجاد من قبل العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز أثناء قمة مكة الاستثنائية، من المفروض أن يكون أسقط هذا «الفيتو» وأزال العوائق من أمام أي مشاركة إيرانية في الحل. إيجاد حل سياسي للأزمة السورية يرضي جميع الأطراف، ويعيد إلى الشعب السوري كرامته وحقوقه المشروعة كاملة في إدارة شؤون بلده، ويوقف نزيف الدم، ويحول دون تحوّل البلاد إلى دولة فاشلة تسودها الفوضى، هذا الحلّ في مصلحة دول الجوار السوري، قبل أن يكون في مصلحة سورية نفسها؛ فسورية تعرضت للدمار واستشهد أكثر من عشرين ألفا من أبنائها، ولكن دول الجوار هي التي ستواجه تدميرا أكبر في حال وصول نيران الأزمة إلى ثوبها. الدول العربية التي استخدمت التحريض الطائفي لإشعال نيران الحرب الأهلية في سورية لا بدّ أنها أدركت حجم الخطيئة التي ارتكبتها وبدت تهددها بالخطر نفسه. ولعل المبادرة المصرية هي طوق نجاة لها من خطر التقسيم والتفتيت على أسس طائفية وعرقية الذي بات يهددها انطلاقا من الأزمة السورية. الخلل الاستراتيجي، الذي جمّد المنطقة طوال الأربعين عاما بسبب غياب مصر، بدأ يتآكل تدريجيا وبسرعة؛ فمن كان يتصور أن يفرض الرئيس المصري الجديد تعديلا، بل تجميدا لاتفاق كامب ديفيد وإرسال قوات مصرية مدرعة وطائرات عمودية إلى سيناء رغم أنف إسرائيل ودون موافقتها، ومن كان يحلم بأن تتحرك مصر الجديدة لتطرح مبادرة إقليمية خلاقة لحلّ الأزمة السورية بعد فشل الجميع؟ المارد المصري بدأ يخرج من القمقم بقوة وثقة، ويستعيد زمام المبادرة والزعامة معا، مؤسسا لمشروع عربي جديد يملأ الفراغ، ويكون ندّا للمشاريع الأخرى غير العربية، ولا نملك إلا أن نصلي من أجل نجاحه.