من الصعب الجزم بأن قمة مكة الاستثنائية، التي اختتمت أعمالها مساء الأربعاء، ستحقق كل أهدافها في تحقيق التضامن الإسلامي وحل القضايا الرئيسية المطروحة على جدول أعمالها، وأبرزها الأزمة السورية، ولكنها تعتبر خطوة صغيرة أو اجتهادا محمودا يعكس نوايا حسنة في هذا الإطار، وإن كنا نعتقد أن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي في هذا الزمن الذي تسوده الصراعات من أجل تأمين المصالح حتى لو تأتى ذلك بالحروب وسفك الدماء. متابعة أعمال هذه القمة ووقائعها يخرج المرءُ منها بالعديد من الملاحظات ويرصد بعض التوجهات، فهناك عناقان وتجاهل، ومفارقة تلفزيونية، يمكننا من خلالها جميعا محاولة استقراء ما يمكن أن تشهده المنطقة من تطورات ومفاجآت مقبلة: العناق الأول: تم بحرارة شديدة، بل ملتهبة، بين العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وضيفه الإيراني محمد أحمدي نجاد، آخر المدعوين إلى هذه القمة. فمن كان يصدق أن الزعيمين، اللذين يخوضان حربا شرسة بالنيابة في ما بينهما على الأرض السورية، يمكن أن يكونا على هذه الدرجة من الود والحميمية؟ فهل هذا العناق نموذج للنفاق السياسي أم بداية انفراج في العلاقات يقود إلى تنفيس حالة الاحتقان الطائفي المتصاعدة، ويحول دون حدوث المواجهة الأكبر في المنطقة تحت عنوان تدمير المنشآت النووية الإيرانية؟ العاهل السعودي وفي برقيات السفارة الأمريكية في الرياض التي نشرها موقع «ويكيليكس» وصف إيران بكونها رأس الأفعى الذي يجب قطعه، أثناء استقباله لوزيرة الخارجية الأمريكية؛ فهل عملية شحذ السكاكين لقطع هذا الرأس، والتي تتمثل في حشد حاملات الطائرات في الخليج ونصب بطاريات صواريخ باتريوت لحماية دولها من أي انتقام صاروخي إيراني، مستمرة أم إن هناك استراتيجية جديدة للتعايش مع إيران كقوة إقليمية نووية قد بدأ تطبيقها، وكانت قمة مكة الإسلامية هذه هي أول قفزة في هذا الاتجاه؟ العناق الثاني: هو الذي تم بين الرئيس المصري الجديد محمد مرسي والسيد نجاد، فهذه هي المرة الأولى التي يتصافح فيها زعيما مصر وإيران، ناهيك عن عناقهما، منذ أربعين عاما تقريبا، وبالتحديد منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. فهل هذه الأذرع المفتوحة التي سبقت هذا العناق ستؤدي إلى فتح سفارتي البلدين في كل من القاهرة وطهران، ووصل ما انقطع، بعد نجاح الثورة المصرية ووصول مرشح حركة الإخوان المسلمين إلى سدة الرئاسة؟ أم إنها مجرد مجاملة عابرة أملتها ظروف اللقاء؟ الإجابة الأكثر ترجيحا هي «نعم» لأن النظام المصري الذي كان يصرّ على استمرار القطيعة سقط، والنظام الجديد الذي تتبلور هويته الإسلامية يوما بعد يوم، يرسّخ وجوده من خلال «تنظيف» المؤسسة العسكرية من بقايا «ثقافة كامب ديفيد» السياسية ورموزها، ولهذا فإننا لا نستغرب أو لا نستبعد قرارا قريبا بحدوث تقارب مصري إيراني، يتوازى مع التباعد المصري الأمريكي الإسرائيلي المتنامي بسرعة هذه الأيام. التجاهل: إهمال العاهل السعودي الواضح للرئيس المصري، وعدم تقديره ودولته التقدير الذي يستحقه، فقد جلس بعيدا مثله مثل الزعماء الآخرين، بينما حرص العاهل السعودي على أن يكون أمير قطر على يمينه والرئيس الإيراني على يساره أثناء ترتيب الجلوس، والأكثر من ذلك أنه وقف يستقبل الضيوف وإلى جانبه الرئيس الإيراني. فهل هذا من قبيل الصدفة أم بقرار متعمد؟ في السياسة، لا شيء يأتي من قبيل الصدفة، والبروتوكول يرتب كل صغيرة وكبيرة. اللقطة التلفزيونية: حدثت أثناء افتتاح القمة الإسلامية عندما وقف السيد نجاد ملوحا بإشارة النصر أمام عدسة محطة تلفزيون «العربية» الفضائية، وسؤاله للمصور عما إذا كان قد سجّل هذه اللقطة ووثقها فعلا. الرئيس نجاد تعمّد التلويح بالإشارة، مثلما تعمد السؤال، لأنه يعرف قناة «العربية» ومواقفها التحريضية المعادية لإيران جيدا، ومساندتها الملحوظة لأي ضربة أمريكية، وربما إسرائيلية، لتدمير منشآتها النووية وفتح أستديوهاتها، أي العربية، لجميع المؤيدين، بل والمحرضين عليها من الخبراء والباحثين والمعلقين. لا نعرف ماذا جرى من محادثات وتفاهمات وصدامات في الغرف المغلقة والاجتماعات الجانبية التي انعقدت على هامش القمة الإسلامية الاستثنائية في مكةالمكرمة، خاصة بين العاهل السعودي والرئيس الإيراني، لكننا نختلف مع بعض التحليلات التي تفيد بأن أي تفاهم بين الرجلين يمكن أن يؤدي إلى حل الأزمة السورية وحقن دماء الشعب السوري. خلافنا نابع من استنتاج أساسي مفاده أن الدولتين لم تعودا اللاعبين الرئيسيين في هذه الأزمة، وإن كانتا من أهمهم، وأن هناك لاعبين آخرين. والأمر الأهم في رأينا أن الأوضاع على الأرض السورية توحي بأن هناك طرفا ثالثا، وهو الجماعات الإسلامية المتشددة التي باتت من بين القوى الرئيسية التي لا يمكن تجاهلها، بعد أن عززت وجودها، وأسست قواعدها، وأقامت مناطق آمنة خاصة بها، بل وأقامت سلطتها، والأخطر من كل ذلك أنها خارج أي سيطرة محلية أو إقليمية أو حتى دولية. إيران، وبسبب أخطاء السياسات العربية، والسعودية منها خاصة، في العراق وسورية وفلسطين ولبنان، باتت قوة عسكرية إقليمية عظمى، تسيطر حاليا على ثلثي العراق ومعظم لبنان وكل سورية الرسمية، ونصّبت نفسها القوة الإسلامية الرئيسية التي تحمل لواء العداء لإسرائيل، وتحقق توازنا استراتيجيا عسكريا ملحوظا في مواجهتها، وتملك خلايا نائمة وصاحية في معظم دول الجوار الخليجي، وترسانة ضخمة من الصواريخ. لا نعتقد أن الرئيس نجاد يمكن أن يتنازل، إن أراد، أو تسمح له قيادته العليا، بالتنازل عن كل هذه المكاسب الاستراتيجية في لقاء عابر مع العاهل السعودي انعقد في مكةالمكرمة، وفي ليلة القدر، رغم قداسة المكان وروحانية الزمان؛ فالإيرانيون أثبتوا أن دولتهم دولة مؤسسات، وصناعة القرار ليست في يد فرد واحد مثلما هو الحال في معظم الدول العربية. إن أكثر ما يمكن أن تتمخض عنه قمة مكة الإسلامية هو مشروع هدنة إعلامية، وربما سياسية، ولكنها تظل هدنة مؤقتة، سرعان ما تتبخر في ظل قرع طبول الحرب من قبل الإسرائيليين والأمريكيين في المنطقة، وتصاعد عمليات التحشيد الطائفي غير المسبوقة، لتوفير غطاء لتبريرها، وتعبئة الجانبين العربي والإيراني للانخراط فيها، وهما على أي حال سيكونان حطب أي حرب تنفجر نتيجة لها. الإسرائيليون، العنصر الحاضر الغائب عن قمة مكة الإسلامية، يستعدون للحرب ويطلقون إشارات يجب دراستها بعناية في هذا المضمار، فالمناورات التي لم تتوقف لتحضير الجبهة الداخلية، وتعيين آفي ديختر رئيس جهاز الموساد السابق كوزير لحماية الجبهة الداخلية، وضمه إلى مجلس الوزراء المصغر الذي يتخذ قرار الحرب، وتعزيز القبة الدفاعية للتصدي لأي صواريخ إيرانية، وإقامة قبة أخرى مماثلة، ولكن من صواريخ باتريوت الأمريكية فوق دول الخليج كلها، مؤشرات حرب وليست مؤشرات سلام. نجمان سطعا في هذه القمة، الأول هو الرئيس أحمدي نجاد، والثاني هو نظيره المصري محمد مرسي، القواسم المشتركة بينهما عديدة، أولها العداء لإسرائيل، وثانيها الانتماء الحزبي الإسلامي، وثالثها التواضع والخلفية القروية البسيطة، ورابعها أنهما منتخبان من قبل شعبيهما في انتخابات حرة ونزيهة، وخامسها الثقل البشري والخلفية الحضارية لبلديهما. التضامن الإسلامي الحقيقي يتحقق عندما تتوقف كل أشكال الشحن والتحريض الطائفي والعرقي، ويتعلم أبناء المنطقة قبل حكامها أبجديات التعايش على قدم المساواة في إطار ديمقراطي، يرتكز على العدالة والمحاسبة، ويتم توظيف كل الطاقات الإسلامية نحو هدف واحد يتصدر سلّم الأولويات، وهو التصدي للمشروع التوسعي الإسرائيلي، أما غير ذلك فإنه ضحك على الذقون.. وكل عام وأنتم بألف خير.