في مؤتمر صحفي عقد بمدريد في فاتح غشت الجاري، أعلن وزير الدفاع الإسباني صدور التوجيه الاستراتيجي حول الدفاع الوطني والذي وقعه رئيس الحكومة ماريانو راخوي. هذه الوثيقة، التي تحدد الملامح العامة لسياسة إسبانيا الدفاعية، ركزت بصورة خاصة على وضع المدن والثغور المتنازع عليها مع المغرب، وما اعتُبر مخاطر أمنية ناشئة عن التحولات التي تشهدها البلدان العربية. يأتي هذا التطور أسابيع بعد زيارة أداها وزير الداخلية الإسباني لمدينة مليلية حيث أدلى بتصريحات حول «حرب الريف»، اعتبرت مستفزة للمغاربة؛ كما أعلن في سياق نفس الزيارة عزم إسبانيا على نشر قوة من الحرس المدني في الجزر الجعفرية ابتداء من فاتح غشت. قد يكون من باب المصادفة تزامن هذه التطورات مع حلول الذكرى العاشرة لأزمة جزيرة ليلى، لكنها تنم عن تحول في رؤية مدريد لعلاقتها بالرباط، تلك العلاقة التي مرت خلال العقود الأخيرة بعدة أطوار تبعا لتقلبات الأوضاع وتحولات السلطة. مسيرة علاقات متقلبة غداة نهاية حكم فرانكو، ورثت حكومة أدولفو سواريث تبعات اتفاقيات مدريد بشأن الصحراء، وقد حرصت في مواقفها على أن تحتفظ بتوازنات ظرفية بين مطالب طرفي النزاع الناشب حينها في منطقة المغرب العربي، وكان كل همها أن تتفادى أي خطوة يمكن أن تستفز المغرب أو الجزائر أو تفسر على أنها انحياز إلى أحد الطرفين. ساعد على اعتماد هذا التوجه عاملان: أولهما أن أولويات السياسة الخارجية كانت تنصب على إعادة تطبيع وضع إسبانيا دوليا، واستعادة موقعها ضمن منظومة البلدان الغربية بالاندماج في تكتلاتها الاقتصادية والاستراتيجية؛ والثاني أن اهتماما أكبر بالمغرب العربي كانت ستنجر عنه خلافات سياسية داخلية. هذا التوجه، الذي استمر في ظل حكومة كالبو سوتيلو العابرة (1981-1982)، بدأ يتغير مع وصول الاشتراكيين إلى السلطة أواخر عام 1982، حيث تبلورت ملامح سياسة جديدة تحظى بتوافق داخلي واسع وتقوم على منح الأولوية لتطوير العلاقات الثنائية ببلدان الجوار المغاربي في إطار رؤية إقليمية متوازنة. وقد أسهمت هذه السياسة في تنشيط عدد من المنتديات متعددة الأطراف، لكن الأهم من ذلك أنها عززت العلاقات الثنائية، خاصة مع المغرب الذي تربطه بإسبانيا أواصر القرب الجغرافي ومصالح مشتركة عديدة، وفي نفس الوقت تقوم بينهما أسباب عديدة للنزاع وتجمعهما مجالات واسعة للتنافس. بلغ التقارب بين البلدين أوْجَه بتوقيع معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون في يوليوز 1991، والتي سمحت بفتح قنوات للاتصال المستمر وتنظيم لقاءات دورية للتشاور والتنسيق على أعلى المستويات. ولم تقتصر فوائد هذا الإطار على زيادة التبادل ودعم الشراكة والتعاون في المجال الاقتصادي والوصول إلى تفاهمات بشأن الموضوعات التي تهم البلدين كمشكلات الهجرة ومكافحة الجريمة المنظمة واتفاقات الصيد وتنافس المنتوجات الزراعية للبلدين على السوق الأوربية، بل إنه أيضا سمح في مناسبات عديدة بتلطيف الأجواء وتيسير التعامل الهادئ مع ملفات حساسة كالخلاف حول سبتة ومليلية والتنقيب عن النفط قبالة سواحل المغرب وجزر الكناري، فضلا عن المواقف من تطورات قضية الصحراء. غير أن العلاقات المغربية الإسبانية تعرضت ابتداء من أواخر عام 2000 لتوتر لم تعرف له مثيلا منذ نهاية عهد فرانكو. هذا التوتر الذي يعتبر أطول أزمة مرت بها العلاقات بين البلدين، استمر على امتداد الولاية الثانية لأثنار (2000-2004) الذي انتهج خلال هذه الفترة سلوكا أقل ودا وأكثر تعاليا نحو الجار الجنوبي. هكذا كانت الخلافات حول قضايا الهجرة وامتناع المغرب عن تجديد اتفاق الصيد مع الاتحاد الأوربي، كافية لاندلاع أزمةٍ تراشَق البلدان أثناءها بالاتهامات بمناسبةٍ وبدونها، وتعطلت معظم قنوات التنسيق ووصل أثنار حد التهديد بوقف برامج التعاون مع المغرب. طال أمد الأزمة وعرفت تطورات خطيرة بلغت ذروتها صيف عام 2002 عندما أقدمت إسبانيا على إنزال قوات خاصة لإخلاء جزيرة ليلى -الصغيرة المهجورة- من ستة عناصر من الدرك المغربي اعتبرت مدريد وصولهم إلى الجزيرة المتنازع عليها عدوانا على سيادتها وخرقا للقانون الدولي. وقد أفلحت المساعي التي بذلتها أطراف دولية في احتواء هذا التطور الخطير، لكنها لم تنجح في حل الأزمة أو إزالة التوتر الذي استمر إلى حين خروج أثنار من السلطة وخسارة حزبه للانتخابات. أما على امتداد سنوات حكم الاشتراكي ثاباتيرو (2004-2011)، فقد شهدت العلاقات المغربية الإسبانية قدرا من الاستقرار لم تؤثر عليه -إلا في حدود ضيقة- الأزمات التي تحدث من حين إلى آخر على خلفية تباين وجهات النظر بشأن قضايا كأوضاع الجالية المغربية في إسبانيا ومكافحة الهجرة السرية والعلاقات الاقتصادية بين المغرب والاتحاد الأوربي، فضلا عن تطورات قضية الصحراء. تحولات المنظور الاستراتيجي لا يمكن استيعاب مسار العلاقات الإسبانية المغربية وفهم تقلباتها دون إلقاء نظرة على التحولات التي مر بها المنظور الاستراتيجي الذي يحكم سياسة إسبانيا الخارجية. لقد شكَّل الموقع المتميز والتاريخ الحافل والعلاقات الثقافية الممتدة عوامل وفقت إسبانيا في توظيفها بنجاح ابتداء من أواسط الثمانينيات، لإعادة تطبيع وضعها الدولي، مستفيدة من اطراد النمو الاقتصادي وتطور التجربة الديمقراطية، فضلا عن الاندماج في تكتلات اقتصادية واستراتيجية هامة، كالاتحاد الأوربي وحلف الناتو. وهكذا كرست إسبانيا دورها كقوة دولية متوسطة الوزن تضطلع بأدوار رئيسة في المجالات الطبيعية لنشاطها الدبلوماسي، مثل الفضاء المتوسطي وأمريكا اللاتينية، مستندة في ذلك إلى مباركة شركائها الغربيين وترحيب وتعاون أصدقائها في المناطق المذكورة. غير أن السياسة الخارجية لإسبانيا عرفت انقلابا جذريا مع مطلع القرن الحالي، عندما وضع رئيس الحكومة السابق خوسيه ماريا أثنار نصب عينيه احتلال موقع أكثر تقدما على الساحة الدولية. ولتحقيق ذلك الهدف، راهن على الاقتراب أكثر من بوش الابن، كما سعى إلى زيادة نفوذه داخل أوربا عبر التنافس مع القوى التقليدية في القارة، خاصة فرنسا. وقد تهيأت ظروف دفعت في هذا الاتجاه مع ظهور أطروحة رامسفيلد حول أوربا العجوز وغريمتها الفتية التي خُيل لأثنار أن حمل رايتها سيقربه أكثر من أهدافه. تسببت مغامرة أثنار الدولية ورهانه المصيري على بوش كما هو معروف، في خسارة حزبه لانتخابات 2004 وخروجه من السلطة. لكنها أدت قبل ذلك إلى خسارة المجالات التقليدية لنفوذ الدبلوماسية الإسبانية، نتيجة إهمالها والانصراف عنها إلا في حدود ما يتطلبه دعم سياسات بوش أو يمليه هوس التنافس مع فرنسا. في المقابل، باشر الاشتراكيون فور عودتهم إلى السلطة العمل على إعادة بناء سياسة إسبانيا الخارجية وفق أسس جديدة، ساعين إلى تعزيز مكانة إسبانيا الدولية عبر التطلع إلى أدوار أكثر قبولا وباعتماد سلوك أقل صِدامية. وفي هذا السياق، تندرج العديد من الخطوات التي اتخذها ثاباتيرو بدءا بقرار الانسحاب من العراق وانتهاء بمبادرة تحالف الحضارات. لقد أظهرت إسبانيا غداة عودة الاشتراكيين إلى السلطة حماسا للعب دور متميز في منطقة المغرب العربي، سواء على مستوى البحث عن حل لقضية الصحراء، أو من خلال دعم مسارات الإصلاح السياسي والتنمية الاقتصادية في إطار الشراكة الأورومتوسطية. لكن هذا الطموح اصطدم مبكرا بعقبات عديدة، أهمها تعقيدات ملف الصحراء وغياب سياسة خارجية فعالة للاتحاد الأوربي، فضلا عن المقاطعة الأمريكية لثاباتيرو. ورغم ذلك، فقد تحقق بصورة خاصة تقدم كبير على مستوى العلاقات بالمغرب، حيث عاد الدفء إلى العلاقات الدبلوماسية واختفت مظاهر التراشق الإعلامي وأعيد تفعيل قنوات التشاور والتنسيق. متغيرات الوضع الراهن لعل المتغير الأبرز ضمن محددات علاقة البلدين خلال الأشهر الأخيرة هو وصول حكومتين جديدتين إلى السلطة في كل من مدريد والرباط. وهذا المتغير يمكن أن يدفع باتجاه التفاهم كما يمكن أن يقود إلى التصادم، حسب احتياجات وخيارات كل طرف وكذا الظروف التي تكتنف العلاقة. هناك قاسم مشترك بين الحكومتين هو استلامهما السلطة في ظروف تتميز بأوضاع اقتصادية واجتماعية ضاغطة تقتضي انصراف كل حكومة إلى الاهتمام بالأوضاع الداخلية التي تتطلب جهودا استثنائية لتجاوز آثار الأزمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة، وتلبية بعض المطالب الاجتماعية الملحة التي باتت تعبر عن نفسها عبر مظاهر احتجاجية لم يعد بالإمكان تجاهلها. بنفس المنطق، تحتاج كلتا الحكومتين إلى مزيد من التكامل والتعاون والتنسيق مع شركائها وجيرانها الأقربين، حتى تعززا قدراتهما على مواجهة التحديات الداخلية، من جهة، وتتجنبا في الوقت نفسه الدخول في أزمات يمكن أن تستنزف طاقات وموارد لا تملك أي حكومة أن تسمح لنفسها بترف المجازفة بهدرها في الظروف الراهنة. غير أن تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بقدر ما يشكل حافزا يدفع الحكومات لتجنب أي احتكاكات لا ضرورة لها مع دول الجوار، قد يكون -عند مستوى معين من تطور التحديات وأمام العجز عن تقديم حلول عملية- دافعا إلى البحث عن مثل تلك الاحتكاكات، باعتبارها أداة ملائمة لصرف الأنظار عن فشل السياسات المتبعة، ولتجييش الرأي العام الداخلي في مواجهة تحد أجنبي. وهي استراتيجية تلجأ إليها أحيانا بعض الأنظمة عندما تحاصرها الأزمات الداخلية فتعجز عن التوصل إلى حلول فعالة تواجهها بها. وتدل شواهد التاريخ على أن تلك الاستراتيجية تكون أكثر إغراء وأبعد أثرا متى تعلق الأمر بمجتمعات لها تقاليد قائمة على تمجيد هويتها الوطنية، خاصة عندما توضع في مواجهة بلدان ذات تاريخ عريق في الصراع والتنافس معها. هناك متغير بارز آخر هو أن الحكومة المغربية الحالية تختلف عن سابقاتها بِسِمتين يفترض أن يكون لهما تأثير معتبر على إدارتها للسياسة الخارجية، وعلى علاقتها بالشركاء الأوربيين وتعامل هؤلاء معها. السمة الأولى أنها وصلت إلى السلطة إثر إصلاح مؤسسي منح الحكومة قدرا أكبر من الصلاحيات، وهامشا أوسع للتصرف في السياسة الخارجية التي كانت إلى هذا الحين داخلة في اختصاص القصر الملكي ولا تملك أي حكومة حرية التصرف بشأنها إلا في حدود ضيقة؛ والثانية أنها حكومة يقودها حزب ذو مرجعية إسلامية، وهو وضع غير مألوف لدى البلدان الأوربية التي تولي عادة عناية خاصة للعلاقة بالمغرب. من المفترض أن يترتب عن هذا الوضع غير المسبوق تغير في رؤية الدبلوماسية المغربية ونهجها إزاء الشركاء الغربيين، لكن الأهم أنه سيؤدي حتما إلى اختلاف في نظرة العواصم الأوربية وتعاملها عما كان عليه الأمر مع التشكيلات الوزارية التقليدية في المغرب. حتى الآن ما تزال الرسائل السياسية المتبادلة بين ضفتي المضيق تحمل -في الغالب- من دفء مياه المتوسط أكثر مما تحمل من عنفوان أمواج المحيط. وما تزال الاستفزازات محسوبة وردود الأفعال متزنة، لكن ذلك لا يعني استبعاد تطور الأمور في اتجاه مختلف، بالنظر إلى تقلبات تاريخ العلاقة بين البلدين، وضغط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخل كل منهما، وتسارع التحولات السياسية والاستراتيجية من حولهما.