«... اكتفت بدور الزوجة والأم قبل أن يختار لها الآخرون لقب زوجة الزعيم.. قررت أن تلتصق ببطلها كالخيال وتواجه معه الكثير من العواصف والأعاصير والزلازل السياسية، التي اهتز لها العالم بأسره. سكنت قلبه وسكن قلبها قبل أن تسكن معه في عش الزوجية الصغير المتواضع بالإيجار بعيدا عن صور البهرجة والبروتوكولات الفارطة.. لم تصطنع لنفسها دورا كبيرا ولم تقتطع لنفسها أيضا مساحة في التاريخ واكتفت بأن تبقى خلف الستار كزوجة للرئيس فقط، قبل أن تقرر إزالة هذا الستار وتكشف عن أسرار مفجر الثورة الكبرى في النصف الأخير من القرن العشرين، وتكتب مذكراتها وتروي لنا الأحداث التي مرت بها مصر منذ حرب فلسطين وحتى رحيل عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970. مذكرات تسرد محطات تاريخية ظلت محاطة بهالة من الغموض لتضيف جديدا إلى ما استقر في الذاكرة العربية والمصرية من أحداث اكتسبت صيغة اليقين والحقيقة التاريخية.. مذكرات تكشف لنا المشهد الأول والأخير في حياة الزعيم جمال عبد الناصر وتضفي عليه دراما تاريخية لقصة المشروب الأخير، الذي تناوله ومن الذي صنعه ومن قدمه له وهو على فراش الموت.. إنها مذكرات تحية عبد الناصر...» يقول حسنين هيكل عن اللحظات التي عرف فيها عبد الناصر بعلاقة المشير وزواجه من برلنتي عبد الحميد «... في 20 فبراير 1967 قرأ عبد الناصر تقريرا كان بمثابة صدمة، كان التقرير عن زواج عامر وبرلنتي وأنهما ينتظران مولودا نتيجة لهذا الزواج، ورأى عبد الناصر أن ينتظر أياما قبل أن يفاتح عامر في الموضوع حتى لا تملكه انفعالات الغضب وتصعب المناقشة الجادة حول تصرف يصعب السكوت عنه، كان عبد الناصر يرى أن عبد الحكيم عامر يجب أن يبتعد عن منصبه وما دام قد اختار أن يغلب ضعفه الإنساني على شعوره بالواجب فإن الأمور تقتضي حسما، وقام عبد الناصر باستدعائه لمقابلته يوم أول مارس 1967، وكانت مشاعره مختلطة بين الأسى والغضب، فقد كان عبد الحكيم عامر أقرب الناس إليه منذ كانا في عز الشباب ضابطين بالقوات المسلحة، ثم خدما معا في السودان قرابة عامين، ثم كان عبد الحكيم عامر ساعده الأيمن في تنظيم الضباط الأحرار، وكان هو الذي يتولى الإشراف على شؤون التنظيم بما فيها الاتصال مع الضباط الذين انضموا إلى صفوفه، وكان عبد الحكيم عامر بطبيعته إنسانا ودودا قادرا على كسب ثقة زملائه والاحتفاظ بودّهم، وليلة الثورة كان بجانب عبد الناصر طوال الوقت، وفيما بعد ولصلته بتنظيم الضباط الأحرار ولمعرفته الواسعة بهم، وبغيرهم من المتعاطفين مع الثورة أو الذين ساعدوا على قيامها واستقرارها رقي إلى رتبة اللواء وأصبح قائدا عاما للقوات المسلحة وقد ساعده في هذه المهمة وتولى وزارة الحربية بعد شمس بدران. ويضيف هيكل «ومع أن عبد الحكيم عامر لم يكن في أحسن أحواله أثناء معركة سنة 1956 إلا أن ظروف العدوان الثلاثي كانت تغلب على أعصابه، ثم إن تجربته في سوريا لم تكن ناجحة، وبرغم ذلك فإن عبد الناصر كان دائما على استعداد لأن يعطيه فرصة أخرى، وكان عبد الحكيم عامر من ناحيته يشعر بهذه الحقيقة، ومن ثم فإنه أصبح في بعض الأحيان حساسا أكثر من اللازم، وحين وصل عبد الحكيم عامر إلى مكتب جمال عبد الناصر في بيته في منشية البكري أحسّ على الفور بأن هناك شيئا غير عادي في الجو، وبدا من بعض تصرفاته أن لديه فكرة عن الموضوع الذي استدعي من أجله، كان أسلوب عبد الحكيم عامر المعتاد عندما يوجه إليه أي تساؤل عن تصرف من تصرفاته أن يبدأ بإثارة زوابع صغيرة ويتخذ مظهر الغاضب المجروح المعتدى عليه، وهكذا عندما سأله جمال عبد الناصر عن موضوع زواجه السري بدا غاضبا ومتألما وقال: «لقد سئمت من هذه الحملات الموجهة ضدي والتي تثور من وقت لآخر وأنا لم يعد لي طلب غير الابتعاد والعودة إلى قريتي «أسطال» بالمنيا لأعيش هناك فلاحا عاديا، يزرع ويقلع ولا يكون نائبا لرئيس الجمهورية أو نائبا للقائد الأعلى للقوات المسلحة....». انتظره جمال عبد الناصر حتى أفرغ ما لديه ثم كان تعليقه أن كل ما سمعه من المشير خارج الموضوع، وأن سؤاله كان سؤالا محددا، وليست هناك جدوى من تجنب الرّد عليه مباشرة، وهكذا هبط عبد الحكيم عامر فورا من الغضب إلى التظاهر به دفاعا عن النفس، واعترف بعلاقته مع السيدة برلنتي عبد الحميد، ولم يجد ما يبرّر به تصرفه سوى أنه وجد أخيرا إنسانة تستطيع أن تفهمه... وكانت الدموع تلوح في عينيه وهو يحاول أن يكتمها... ثم لم يتمالك نفسه وراحت دموعه تجري على خدّيه في صمت، وسأل جمال عبد الناصر عن الظروف التي تعرف فيها عليها وكان ردّ عبد الحكيم عامر أنه تعرف عليها عن طريق صلاح نصر... رواية أخرى للقصة ذات يوم من أيام الأسبوع الصافية وبينما كنت أجلس إلى جانب جمال وأحيك بعضا من الصوف إذ بباب البيت وقد أخذ يقرع من طرف رجل خمسيني أخذ يطلب بإلحاح شديد مقابلة عبد الناصر لأمر هام، وعندما سئل عن هذا الأمر الهام أفاد بأنه لا يمكنه البوح به إلا أمام الرئيس عبد الناصر وحده، حينها سمح جمال بدخول هذا الرجل الخمسيني الذي بدأ يسرد قصته الغريبة قائلا: لقد دعيت مع زوجتي إلى نزهة في إحدى استراحات الفيوم التي كانت ضمن أملاك الملك فاروق وهناك وجدت أن تلك السهرة تضم عددا من الضباط والفنانات ووجدت في مقدمة الحاضرين والمدعوين المشير عبد الحكيم عامر رفقة الفنانة برلنتي عبد الحميد، كنت في بداية الأمر أجلس مثل الآخرين رفقة زوجتي قبل أن يبدأ أحد الضباط المرافقين للمشير عبد الحكيم بمغازلة زوجتي بطريقة لا تليق بهم، وعندما اعترضت على ذلك زجرني المشير زجرا مؤلما وأفهمني أن مجرد إعجاب الضابط بزوجتي هو شرف كبير لي، وعندما واصلت الاعتراض أمسك بي الجميع وأخذوا بضربي بشكل مؤلم قبل أن يتم طردي خارج الاستراحة بدون زوجتي التي أصرّوا على بقائها معهم... كنت أستمع إلى كلام هذا الرجل الخمسيني (تروي تحيّة) وقد علت الدهشة محياي رفقة جمال (كان قد سمح لي ببقائي إلى جانبه هذه المرّة) الذي كان يجلس بجانبي واضعا رأسه على راحة يده مشدوها ومصدوما مما يسمع، فقد كان من الصعب والمحال أن تروى قصص كهذه لجمال عبد الناصر الذي يعرف لدى الجميع بأنه أكثر حكّام مصر عفّة ونزاهة من الناحية النسائية، يشمئز من أن يتزوج الرجل امرأة أخرى غير زوجته، فما بالك إذا عرف امرأة أخرى بغير الزواج أو كانت تلك العلاقة تشير إلى تورط أحد المقربين إليه وهو المشير عبد الحكيم.... بعد أن أكمل الرجل قصته قام جمال وربت على كتفه بعد أن أرضى خاطره ووعده بالنظر سريعا في موضوعه وشكايته وأرسل مدير مكتبة الجيار (جي) لمقابلة المشير عبد الحكيم ومصارحته بما سمع ومطالبته بتفسير المسألة، (كان (جي) يعلم من بعض تقارير المخابرات بأن هناك علاقة بين المشير وبرلنتي عبد الحميد، وكان يخفيها حتى يتم التأكد منها والبحث في حيثياتها وإيجاد الأدلة المناسبة قبل البوح بها لعبد الناصر...)، وفي هذا يروي (جي) عن تفاصيل تلك المقابلة مع المشير قائلا: «عند وصولي إلى بيت المشير ومصارحته بما وصل إلى علمنا قام بقلب المائدة وأخذ يفاجئني بما لم يخطر على البال ويضيف بكبرياء الصعيدي الأصيل قائلا: عيب الكلام ده يا جي أنا رجل صعيدي ولا أقبل الزنا وبرلنتي عبد الحميد هي زوجتي على سنة الله ورسوله! لقد ذهلت حينها كثيرا لسماعي هذا الكلام لأنني لم أكن أعتقد للحظة واحدة رغم التقارير التي كانت تصلني أن يكون المشير قد تزوج فعلا من امرأة أخرى على زوجته، كنت قد بدأت أشعر بالشلل في أطرافي السفلى دون أن أستطيع الرد إلا بكلمات قليلة، قاطعني المشير قبل أن أكمل حديثي الذي قلت فيه: وحكاية الرجل الخمسيني وزوجته والضابط الذي! هذه حكاية ألفها تأليفا، لقد طرد من الاستراحة فعلا ولكن ليس لأن أحدا غازل زوجته التي كان يعلم بعلاقتها بأحد الضباط وإنما طرد لكونه رفض حلّ المسألة ودّيا وإجراء الطلاق، لقد كانت هذه الجلسة للتفاهم على الطلاق ليس إلا لكنه رفض ذلك عندما تم رفض شروطه التي كان منها طلبه المتعلق بمبلغ ضخم لا يستطيع أحد دفعه، وعندما عدت لإخبار الرئيس عبد الناصر كان قد تبين أن برلنتي هي زوجة المشير وليست عشيقته كما ثبت بأن الرجل الخمسيني قد بالغ في سرد قصته....