«بعض الرجال، سياسيين كانوا أو أدباء، ملوكاً أو رؤساء، عامة أم علماء، أغنياء أم فقراء... لا يستطيعون مقاومة عيون النساء ولالهن، ولا طلعتهن، ولا أصواتهن، وهنّ اللواتي يدخلن إلى القلوب بدون استئذان، فسقط البعض منهم أرضاً من أول نظرة أو كلمة أو ابتسامة، والبعض الآخر بقي يتوهم كالشعراء أن كل امرأة في الدنيا تهيم به وبجماله وبسواد عينيه وأنها لا تستطيع الفرار من بين يديه، فتخلوا عن مبادئ وقيم وعادات وتقاليد وأخلاق من أجل لحظة نشوة وشهوة عابرة، لتظهر خبايا حياتهم التنكرية، التي تحمل ألف وجه ووجه بين ثكنات الحكم والسلطة وبين الجنس، الذي لا ينتهي بعد أن فعلوا أي شيء من أجل رغبتهم الجنسية ومن أجل التخبط في عتمة الليل فوق صدر غانية أو امرأة جميلة أفقدتهم الاحترام وهوت بهم إلى دهاليز النسيان والعالم المجهول، حتى ولو كان ذلك ضد القانون، فقبل البعض منهم أن يكون صفرا، وقبل آخر بأن يكون فاعلا لا مفعولا به. بقيت قصصهم تكبر وتصغر مثل كرة الثلج، منهم من ظلمته الشائعات وأصيب في مقتل، ومنهم من لبس ثوب الحقيقة وعرّى نفسه أمام الجميع دون أن يغطي نفسه بورق التوت، فسقطوا من فوق عروشهم في مستنقعات الرذيلة وحكموا في مواخير الجنس والطرب، حتى أضاع بعضهم حكمه. إنهم ملوك وملكات اختاروا الجنس واللذة على السلطة والحكم. يروي محمد حسنين هيكل في كتابه «الانفجار» على لسان صلاح نصر حسب ما جاء ي مذكراته «... بعد أسبوع فقط من ذلك الحفل طلب المشير من مدير مكتبه عبد المنعم أبو زيد أن يبحث له عن مسكن آمن بحجة إيواء خبير ألماني (كانت مصر قد استعانت بعدد من الخبراء الألمان للعمل في الصناعات الحربية لكن (إسرائيل) كانت ترصد نشاطاتهم عن طريق عملائها ودبّرت لهم العديد من المؤامرات والاغتيالات) وأن يكرّس كل جهده للبحث عن هذا السكن وفي اقرب وقت ممكن ...، ولم تمضي سوى أيام قليلة حتى عثر أبو زيد على فيلا يملكها رجل قطري ولا يسكنها ووجدها بأنها ملائمة وقام بإخبار المشير بذلك أثناء مرافقته له في رحلة إلى اليمن مخبرا إياه بأن الفيلا قد قاربت على الانتهاء من الإجراءات الأمنية المطلوبة، فما كان من المشير إلا أن قال له حينها خذ الطيارة الصبح وانزل في مصر وتيجيني بكره ومعاك خبر الفيلا وقد أنهيت كليا، فنزل أبو زيد إلى مصر وخلال 24 ساعة فقط عاد وقد اتفق مع المالك على عقد الإيجار ورتبت كافة الالتزامات الخاصة بها ليعود بعد ذلك لرؤيتها رفقة المشير.... كنت اجلس بجانيه في سيارتي وأنا انظر إليه وقد كان مبتسما خائفا مصدوما، وقد حاولت أن أجد تفسير لذلك التعبير الذي كان يرسم وجهه حينها، وحينما وصلنا طفنا حولها ثم دخلنا فوجدها مؤسسة ونظيفة وكاملة من كل شيء فنظر اليّ أبو زيد وقال شكرا لك لقد أتعبتك معي لكنها المسؤولية وأنت بإمكانك الذهاب الآن لأنني سأمكث هنا لبعض الوقت...(لم يصرح لي بأنه ينتظر برلنتي). ويمضي صلاح نصر في كشف ما جرى في فيلا الهرم بالقول كما يرويها هيكل «... كنت أتردد على الفيلا لإجراء إصلاحات الكهرباء والأثاث كما طلب مني المشير، وأحسست بان شيئا ما يحدث داخلها فهناك مناديل المشير التي كنت اشتريها له متناثرة هناك وهناك في أركان الصالة، وعندما كنت اذهب إلى الفيلا لم أكن أجد فيها أحدا وكنت أتساءل مع نفسي إذا كان الرجال الألمان قد ذهبوا إلى العمل فأين النساء؟ حينها بدأت الشكوك تساورني للحظات ولكنني قلت لنفسي مرة أخرى ما اغباني فربما خرجوا لقضاء بعض الأعمال أو لربما ذهبوا إلى أحد ما .... وبينما كنت أهمّ بالخروج من الفيلا إذ بسيّدة ترتدي بلوزة وبنطلونا وتضع نظارة سوداء على عينها تناديني أستاذ عبده.... أستاذ عبده لو سمحت!!، فاندهشت حول كيفية معرفتها لي، لكنها صافحتني بدبلوماسية وقالت:متشكرة جدا!!، لم أتفوه حينها بكلمة واحدة وكان يمكن أن ألاحظ بأنها ليست خواجاية (يعني أجنبية) لأنها تتكلم عربي ولكن تفكيري أصابه الشلل حينما سمعتها تقول أنا متشكرة وأنا قلت للدكتور يتشكرّك عني سلفا!!،حينها نسيت كل شيء وبدأت أفكر في كلمة الدكتور إلا أنها واصلت بالقول أنا مكنتش متوقعة الذوق والجمال ده، السّت ازيها؟، فأجبتها السّت مين؟، فقالت لي أم نبيل زوجتك!!،هي كويسه، جنبها لسّه تاعبها!! واستمرت بسؤالي عن الأولاد واحد واحد على التوالي قبل أن تتركني غارقا في دهشتي واستغرابي لمعرفة هذه المرأة لكل تفاصيل حياتي...، هنا سارعت بالاتصال بعلي شفيق (مدير مكتب المشير عبد الحكيم) وقلت له: لماذا لم تخبرني بحقيقة سكان الفيلا، أنت قلت لي أنهم ألمان لكن الست اللي شفتها مش ألمانية دي عربية أصلية وبتعرف تفاصيل حياتي، فما كان من علي شفيق إلا أن أجابني إذن هي برلنتي عبد الحميد!!، فأجبته هي دي الخبيرة أنا مش مسئول عنها..... وعندما رأيت المشير عبد الحكيم قال لي شفت الست اللي كنت بتشتم فيها لعلي شفيق بكرة لما تعرفها حتلاقيها طيبة وحتبدّل النظرة التي أنت شايفها دللوقتي ...،لم أكن حينها أعي جيدا بأن تلك المرأة قد أضحت زوجة المشير وقد أضحت تعرف كل شيء عن تحركاته وأسراره وأموره السياسية. وعندما وصل الأمر إلى القيادة العامة للثورة استدعيت المخابرات المصرية برلنتي عبد الحميد للاستجواب ومعرفة طبيعة علاقاتها بالمشير، حينها علم المشير فقام باعتزال جميع مناصبه في الدولة 10/6/1967 بعد أن شعر بأنه أصبح وحيدا في تحمل مسؤولياته الهزيمة وبأنه سيواجه الشعب وحده معزولا عن أي مساندة من القوات المسلحة التي كان قد ابْعِد عنها بأمر من جمال عبد الناصر وقلّصت اختصاصاته وصلاحياته إلى ابعد حد.... في مواجهة الرئيس وبعد أن علم عبد الناصر بحقيقة العلاقة التي تربط المشير ببرلنتي استشاط غضبا بعد أن وضعه بالإقامة الجبرية ببيته بالجيزة (حاول المشير قيادة انقلاب على عبد الناصر 11 6 67 رفقة بعض ألوية وعمداء وعقداء القوات المسلحة المقربين إليه مطالبين بحضور المشير لقيادة وممارسة السلطة) فقمت شخصيا بنقل المشير من بيته إلى استراحة المريوطية وكان برفقتي عدد من الضباط على رأسهم عبد المنعم رياض، طرقنا باب فدخل عبد المنعم رياض إلى الصالون الذي يجلس فيه المشير وطلب منه بلطف الخروج والتوجه معنا إلى مكان جديد...، رفض المشير في البدء ثم تناول شيئا ما ووضعه في فمه وأخذ يلوكه فصرخت ابنته نجيّة قائلة بأن أباها قد وضع سمّا في فمه، وفي الطريق بدأ المشير يدخل في مرحلة فقدان الاتزان، فاتصلنا بعبد الناصر حينها واخبرنا أن ننقله إلى المستشفى، وبعد أن أشار الأطباء إلى أن حاله المشير جيّده أخذناه وتوجهنا إلى استراحة المريوطية، وأثناء الطريق دخن المشير سيجارة دون أن يتبادل معنا أي حديث، وعند وصولنا جلسنا معه بعض الوقت قبل أن نتركه هناك تحت الحراسة المشددة إلى حين العثور على فيلا جديدة التي ذهبنا للبحث عنها لوضع المشير بها في انتظار مقابلته مع عبد الناصر، وبينما أنا في الطريق وصلني إخطار عاجل يفيد انتحار المشير عامر بمادة سامه تناولها يوم 13 /9/1967 قضى بسببها نحبه في اليوم التالي .... يقول حسنين هيكل عن اللحظات التي عرف بها عبد الناصر بعلاقته المشير وزواجه من برلنتي عبد الحميد «....في 20 فبراير 1967 قرأ عبد الناصر تقريراً كان بمثابة صدمة، كان التقرير عن زواج عامر وبرلنتي وأنهما ينتظران مولوداً نتيجة لهذا الزواج....، ورأى عبد الناصر أن ينتظر أياماً قبل أن يفاتح عامر في الموضوع حتى لا تملكه انفعالات الغضب وتصعب المناقشة الجادة في تصرف يصعب السكوت عليه.....،كان شعور عبد الناصر لأول وهلة أن عبد الحكيم عامر يجب أن يبتعد عن منصبه وما دام قد اختار أن يغلب ضعفه الإنساني على شعوره بالواجب فإن الأمور تقتضي حسماً، وقام عبد الناصر باستدعائه لمقابلته يوم أول مارس 1967، وكانت مشاعره مختلطة بين الأسى والغضب، فقد كان عبد الحكيم عامر أقرب الناس إليه منذ كانا في عز الشباب ضابطين بالقوات المسلحة، ثم خدما معاً في السودان قرابة عامين.....، ثم كان عبد الحكيم عامر ساعده الأيمن في تنظيم الضباط الأحرار، وكان هو الذي يتولى الإشراف على شؤون التنظيم بما فيها الاتصال مع الضباط الذين انضموا إلى صفوفه وكان عبد الحكيم عامر بطبيعته إنساناً ودوداً قادراً على كسب ثقة زملائه والاحتفاظ بودّهم....، وليلة الثورة كان بجانب عبد الناصر طوال الوقت وفيما بعد....،لكن لصلته بتنظيم الضباط الأحرار ولمعرفته الواسعة بهم، وبغيرهم من المتعاطفين مع الثورة أو الذين ساعدوا على قيامها واستقرارها رقيّ إلى رتبة اللواء وأصبح قائداً عاماً للقوات المسلحة وقد ساعده في هذه المهمة وتولى وزارة الحربية بعد شمس بدران. ويضيف هيكل «... ومع أن عبد الحكيم عامر لم يكن في أحسن أحواله أثناء معركة سنة 1956 إلا أن ظروف العدوان الثلاثي كانت تغلب على أعصابه، ثم إن تجربته في سوريا لم تكن ناجحة....، وبرغم ذلك فإن عبد الناصر كان دائماً على استعداد لأن يعطيه فرصة أخرى وكان عبد الحكيم عامر من ناحيته يشعر بهذه الحقيقة ومن ثم فإنه أصبح في بعض الأحيان حساساً بأكثر من اللازم....، وحين وصل عبد الحكيم عامر إلى مكتب جمال عبد الناصر في بيته في منشية البكري فإنه أحس على الفور بأن هناك شيئاً غير عادي في الجو، وبدأ من بعض تصرفاته أن لديه فكرة عن الموضوع الذي استدعى من أجله....،كان أسلوب عبد الحكيم عامر المعتاد عندما يوجه إليه أي تساؤل عن تصرف من تصرفاته أن يبدأ بإثارة زوابع صغيرة ويتخذ مظهر الغاضب المجروح المعتدى عليه، وهكذا عندما سأله جمال عبد الناصر في موضوع زواجه السري بدأ غاضباً ومتألماً وقائلاً: «إنه سئم هذه الحملات الموجهة ضده والتي تثور من وقت لآخر وإنه لم يعد يطلب غير أن يبتعد وإنه يفضل أن يعود إلى قريته «أسطال» بالمنيا ويعيش هناك فلاحاً عادياً، يزرع ويقلع ولا يكون نائباً لرئيس الجمهورية أو نائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة.... انتظره جمال عبد الناصر حتى أفرغ ما لديه ثم كان تعليقه أن كل ما سمعه من المشير خارج الموضوع، وأن سؤاله كان سؤالاً محدداً، وليست هناك جدوى من تجنب الرد عليه مباشرة.....، وهكذا هبط عبد الحكيم عامر فوراً من الغضب إلى التظاهر به دفاعاً عن النفس، واعترف بعلاقته مع السيدة برلنتي عبد الحميد، ولم يجد ما يبرر به تصرفه سوى أنه وجد أخيراً إنسانة تستطيع أن تفهمه....، وكانت الدموع تلوح في عينيه وهو يحاول أن يكتمها....، ثم لم يتمالك نفسه وراحت دموعه تجري على خدّيه في صمت، وسأل جمال عبد الناصر عن الظروف التي تعرف فيها عليها وكان ردّ عبد الحكيم عامر أنه تعرف بها عن طريق صلاح نصر...، فسارع عبد الناصر إلى استدعاء صلاح نصر ودار بينهما الحوار التالي: صلاح نصر: صدقني يا سيادة الرئيس إنني أحاول بكل جهدي أن أساعد على حل مشاكل كثيرة دون أن أزعج سيادتك..... عبد الناصر: مشاكل إيه؟ صلاح نصر: إنني كنت طوال الوقت أخشى من انفلات عبد الحكيم عامر إلى تصرفات لا تحمد عواقبها. عبد الناصر: إنك أنت شخصياً أحد المسئولين عما جرى لعبد الحكيم عامر. . إنه كان قطة مغمضة حتى توليت أنت فتح عينيه في ما لم يكن يجوز أن يتورط فيه. صلاح نصر: أقسم لك أنا لا ذنب لي فيما تورط فيه عبد الحكيم عامر.. إنني أعترف بحقيقة أنني أنا الذي قدمت إليه برلنتي، لكن لم أكن أتصور أن تصل الأمور إلى هذا الحد. عبد الناصر: لماذا أخفيت الأمر عني وأنت مدير المخابرات العامة؟ صلاح نصر: لقد تصورت أن المشير سوف يفوق بعد وقت قصير، وينتهي الأمر وننسى الموضوع كله. . لكن ما توقعته لم يحدث، وغاص المشير في ورطته إلى شوشته. عبد الناصر: هذا لا ينفي أنك أخطأت؟ صلاح نصر: إن عبد الحكيم عامر كان تحت ضغط عنيف في ظروف بداية النكسة. . فقد أنجبت برلنتي منه طفلاً وراحت تطالبه بأن يعلن زواجه منها لكي تجعل وضعها في المجتمع محتملاً. . وكانت على استعداد لأن تذهب إلى أسرته وتشرح موقفها وتطلب قبولها في الأسرة بحق الشريعة التي لا تحول بينها وبين هذا الطلب. هكذا إذن كانت النهاية للمشير عبد الحكيم عامر ...، نهاية كانت أشبة بنهاية الملك فاروق الذي أضاع فلسطين من اجل إشباع رغبته الجنسية مع الجاسوسة ليليان كوهين ...، انتهى المشير عامر وانتهت معه كل الأحلام التي رسمها جمال عبد الناصر بعد أن بدأها بالوحدة العربية التي كان يريد منها وحدة عامة من الخليج إلى الخليج ...،انتهى المشير عبد الحكيم عامر وانتهت زوجته (توفيت في 1 ديسمبر 2010 بعد أصابتها بجلطة في الدماغ) التي هزت عرش ثورة يوليوز وبقيت كلماتها الأخيرة التي أخرجتها للوجود عبر كتابيها «المشير وأنا في العام 1993، «والطريق إلى قدري ...إلى عامر» 2002 لتذكر الأجيال بمأساة مصر النازفة حتى الآن..... كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب