«بعض الرجال، سياسيين كانوا أو أدباء، ملوكاً أو رؤساء، عامة أم علماء، أغنياء أم فقراء... لا يستطيعون مقاومة عيون النساء ولالهن، ولا طلعتهن، ولا أصواتهن، وهنّ اللواتي يدخلن إلى القلوب بدون استئذان، فسقط البعض منهم أرضاً من أول نظرة أو كلمة أو ابتسامة، والبعض الآخر بقي يتوهم كالشعراء أن كل امرأة في الدنيا تهيم به وبجماله وبسواد عينيه وأنها لا تستطيع الفرار من بين يديه، فتخلوا عن مبادئ وقيم وعادات وتقاليد وأخلاق من أجل لحظة نشوة وشهوة عابرة، لتظهر خبايا حياتهم التنكرية، التي تحمل ألف وجه ووجه بين ثكنات الحكم والسلطة وبين الجنس، الذي لا ينتهي بعد أن فعلوا أي شيء من أجل رغبتهم الجنسية ومن أجل التخبط في عتمة الليل فوق صدر غانية أو امرأة جميلة أفقدتهم الاحترام وهوت بهم إلى دهاليز النسيان والعالم المجهول، حتى ولو كان ذلك ضد القانون، فقبل البعض منهم أن يكون صفرا، وقبل آخر بأن يكون فاعلا لا مفعولا به. بقيت قصصهم تكبر وتصغر مثل كرة الثلج، منهم من ظلمته الشائعات وأصيب في مقتل، ومنهم من لبس ثوب الحقيقة وعرّى نفسه أمام الجميع دون أن يغطي نفسه بورق التوت، فسقطوا من فوق عروشهم في مستنقعات الرذيلة وحكموا في مواخير الجنس والطرب، حتى أضاع بعضهم حكمه. إنهم ملوك وملكات اختاروا الجنس واللذة على السلطة والحكم. دخل الحياة السياسية من أوسع أبوابها وأكبر مناصبها وأصبح من الشخصيات الهامة والمرموقة وأقرب المقربين إلى جمال عبد الناصر، لكنه سرعان ما سقط في مستنقع الليالي الحمراء بألاعيب الأصدقاء الكارهين قبل أن يسقط في مستنقع الهزيمة، التي حدثت عام 1967 وأدت به إلى الانتحار، بعد أن أحدثت فجوة كبيرة بينه وبين الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. إنه المشير عبد الحكيم عامر( ولد محمد عبد الحكيم علي عامر في الحادي عشر من ديسمبر 1919 بقرية «اسطال» بمحافظة المنيا بصعيد مصر) أحد رجالات عبد الناصر، الذين أسسّوا معه ثورة يوليوز 1952 التي أطاحت بعرش الملك فاروق وحرّرت مصر من قبضة الانجليز والإقطاع والفساد، وأقرب المقربين إلى عبد الناصر وتوأم روحه، الذي فضله على كل رفاقه من أعضاء مجلس الثورة ودفع به إلى أعلى المناصب في الجيش بعد أن منحه رتبة المشير ونائب القائد العام للقوات المسلحة، وفي هذا يقول عبد الناصر «...كان المشير رجلا طيب القلب شهما كريما، يحمل في نفسه طيبة الفلاح المصري البسيط وصفاء السريرة وملامح الظرفاء، كان رجلا من الأوفياء لمصر ومن صناع تاريخها الحديث، وهب نفسه وحياته لمصر وثورتها إلى أن وقع أسير فئة من المحيطين به، الذين نقلوه من طريق الثورة إلى طريق الضياع، ومن جنود عبد الناصر إلى أعدائه ومن النعيم إلى الجحيم ... فضيحة في مكتب المشير كان عبد الناصر يكن احتراما شديدا لصديقه عبد الحكيم عامر، الذي بدأت علاقته به في منقباد سنة 1947 لحظة الخدمة العسكرية واستمرت تلك العلاقة حتى هزيمتهما في حرب 1967، يقول محمد حسنين هيكل في كتابه (الانفجار) «.. كان يبدو على عبد الناصر حبّه الشديد لعبد الحكيم وكان حبه هذا قد أفسد عامر ومن حوله الضباط، فقد أخذ عبد الحكيم يدللهم كثيرا حتى تحوّل رجال مكتبه إلى تجار ومهربين، فكانوا يأتون بالبضائع (ثلاجات وأجهزة تكييف وتلفزيونات) من اليمن ويبيعونها في السوق السوداء في القاهرة، الشيء الذي أثار عبد الناصر حول إدارة المشير لمكتبه وصرح حينها : «إنني لا أريد أن يدخل عبد الحكيم في هذه القضية بسلطته أو سلطة الحكومة حتى لا يحرج المشير، ولهذا فإنني أطلب منه شخصيا تصفية هذه الانحرافات ومعاقبة المسؤولين عنها فورا..»، وعند مثول عامر أمامه قال له عبد الناصر: «إنني أريد أن تأمر بنفسك بالتحقيق في هذه الموضوعات ولا أريد أن تتصرف بمنطق الصعيدي الذي يتصور أنه مكلف بحماية رجاله فهذا منطق مشايخ غفر لا يليق بك». «كان عبد الناصر يعرف أن أسلوب عامر هو أسلوب العمد وشيوخ البلد(يضيف هيكل) وأن منطقه كان منطق الصعيدي وليس أسلوب مؤسسة منضبطة لها تراث وتقاليد، ولا هو منطق القائد الذي يلتزم باللوائح والقوانين، ففضيحة المشير كانت نموذجاً لأخطاء السلطة الأبوية في المؤسسة العسكرية وهي السلطة التي ضيّعت الجيش في يونيو 1967 قبل أن تضيع أعصاب قائده، بل إن الهزيمة لم تعلمه كيف يتخلص من هذا الطراز من السلطة، ولعلّ هذا ما وجدته كذلك في كتاب أنور السادات «البحث عن الذات» حينما يقول :«كان لعبد الحكيم عامر أخطاؤه بطبيعة الحال، ولكن الأهم من ذلك أنه كان يسيء اختيار معاونيه بشكل فاضح، وكان من أبرز ملامح شخصيته روح القبيلة، فهو يساند معاونيه بالحق أو الباطل». عامر ووردة الجزائرية بعد سنة تقريباً على فضيحة مكتب المشير وتحديدا في العام 1960، انفجرت قنبلة أخرى من العيار الثقيل وهو زواجه السرّي من إحدى الفنانات، وأنه يعيش معها بإحدى الفيلات التي اشتراها لهذا الغرض ، لم تلك الأنباء قد وصلت بعد إلى جمال عبد الناصر، الذي كان قد علم سابقا بأن هناك علاقة تربط المشير بإحدى المطربات العربيات وسارع إلى إبعادها عن مصر ومنع عودتها إليها لحماية ظهر المشير من الهمس والغمز، خاصة وأنه الرجل الثاني بعده. لم تكن تلك المطربة سوى وردة الجزائرية. كان المشير عبد الحكيم قد تعرّف عليها(وزير الحربية آنذاك) عندما كان عائدا لدمشق أيام الوحدة مع سوريا وقد صادفها في الطريق حينما كانت وردة في طريقها إلى دمشق وقد تعطلت سيارتها فأمر المشير بتوصيل السيدة إلى المكان الذي تريده، كانت وردة الجزائرية حينئذ غير معروفة في مصر ولكنها عرّفت بنفسها أثناء الحديث وألحّت أن تنقل للمشير رغبتها في مقابلته لتقدم له الشكر، وبالفعل حضرت وردة في منطقة أبو رمّانة بدمشق، كان اللقاء في وضح النهار حيث يجلس المشير عامر على كرسيه وبجانبه أنور السادات واللواء أحمد علوي وعبد الحميد السراج، فتقدمت منه وأعربت له عن شكرها الجزيل عن شهامته ونبل أخلاقه، وعندما وصل تقرير سرّي إلى مكتب الرئيس عبد الناصر وانتشرت الإشاعات وقتها بوجود علاقة بين وردة وبين المشير وزادت حدة الشائعات (يقال إن وردة الجزائرية انتهزت فرصة لقائها بالمشير عامر وحاولت استغلالها لصالحها بعد مجيئها للقاهرة وبدأت توهم المحيطين بها بأنها على علاقة بالمشير وأنها تتصل به هاتفيا...)، قام جمال عبد الناصر بإصدار قرار بإبعاد المطربة إلى خارج البلاد وأعطى تعليماته للأجهزة المختصة بمنعها من دخول مصر بحيث لم ترجع إليها إلا في مطلع السبعينيات خلال حكم الرئيس السادات. عامر وبرلنتي عبد الحميد..«المشير وأنا» بعد إغلاق الملف الساخن الذي أثير في وجه المشير عامر بعد الأنباء التي أفادت بارتباطه بالمطربة الجزائرية وردة، عادت القصة تروى من جديد عن علاقة المشير ببعض الفنانات التي كان على رأسها علاقته بالفنانة برلنتي عبد الحميد (نفيسة عبد الحميد حواس، ممثلة مصرية ولدت بالسيدة زينب بالقاهرة في 25 ابريل 1935، عرفت بتقديم ادوار الإغراء والإثارة وبدأت أولى أدوارها السينمائي من خلال فيلم شم النسيم 1952) التي تزوجها وأضحى يعيش معها سرا بإحدى الفيلات الخاصة بعد أن كان عبد الحكيم عامر قد تعرف عليها في إحدى الحفلات التي نظمها له أصدقاؤه بعد عودته جريحا من سوريا عقب الانفصال (كانت الوحدة قد أعلنت بين مصر وسوريا في 22 فبراير 1958، وأنهيت بالانقلاب العسكري بدمشق يوم 28 سبتمبر 1961) حسب ما جاء في مذكرات صلاح نصر، مدير المخابرات زمن عبد الناصر وصديق عبد الحكيم عامر، التي نشرتها جريدة العربي المصرية بتاريخ 18 غشت 1997 في عددها 227 حين وصفه لتلك الإحداث حيث يقول «....في ليلة عودة المشير عبد الحكيم عامر جريحا من سوريا عقب الانفصال تعرّف على الفنانة برلنتي عبد الحميد عن طريق أصدقائه الذين أقاموا له حفل شاي متواضعا لرفع معنوياته وليثبتوا له أنهم لازالوا إلى جانبه واثبات ولائهم له وأنهم يشاركونه أزمته النفسية، وخلال هذا الحفل رأى عبد الحكيم برلنتي وجلس معها لأول مرة فبهر بثقافتها وسحرها الجذاب خاصة أمام ثقافتها البارزة التي كانت قد اكتسبتها من خلال لقاءاتها المتعددة بالأدباء والمفكرين ... تقول برلنتي في مذكراتها التي حملت عنوان (المشير وأنا) عن علاقتها بعبد الحكيم عامر «كانت أول مرة أرى فيها عبد الحكيم بعد الثورة مباشرة (دون أن يعرفني حينها ودون أن أتحدث إليه)، فقد دعتني إحدى صديقاتي لحضور الندوة التي دعت إليها قيادات الثورة لمعرفة ردّة فعل الشعب عليها وآرائهم وليصححوا أي أخطاء في قراراتهم، فاستغربت وقتها وقلت لها يعني حنرجع إلى زمن عمر بن الخطاب، وعندما ذهبت إلى الندوة كان المشير عامر يجلس إلى جوار عبد الناصر وعباس رضوان وصلاح نصر بشكل طبيعي جدا، كنت حينها معجبة بالمشير وبرجالات الثورة بعد ما سمعته من الناس عن الشكر والثناء لتخليصهم من حكم فاروق، لكنني رغم إعجابي به لم أكن أحلم بأنني سأكون زوجة له، كنت حينها قد شعرت بأنني لفتت انتباهه إلي حينما قمت بتوجيه سؤال له حول السبب في سجن والد صديقتي بدون سبب، والغريب أنه لم يغضب وقبل كلامي بهدوء ووعدني بالنظر بالأمر». وتابعت برلنتي قائلة: «... بعد انتهاء الندوة عدت إلى بيتي مقرّرة ألا أحضر مثل هذه الاجتماعات مرة أخرى لأنها لا تستهويني، وفي اليوم التالي فوجئت بمكالمة صلاح نصر، مدير المخابرات المصرية، يدعوني إلى اجتماع آخر قائلا لي إن المشير سيكون حاضرا، استغربت الأمر كثيرا حينها وبدأت أسأل نفسي كيف عرف صلاح نصر بإعجابي بعبد الحكيم؟ صمتُُّ فجأة وقلت له بأنني سأحضر الندوة، كانت تلك الندوة وغيرها من الندوات التي داومت على حضورها قد عرفتني بعبد الحكيم عامر جيدا دون أن أكلمه أو أتحدث إليه على الإطلاق بصفة شخصية ومنفردة إلا يوم دعيت إلى الحفل الذي أقامه له أصدقاؤه بعد الانفصال عندما عاد من سوريا ، حينها فقط كان أول حديث لي معه مباشرة ، وأثناء حديثي معه قال لي: إن المثقف هو من يتعرف على محيطه أولا، ويومها شعرت بأنني جاهلة لعدم قدرتي على الرد على الأسئلة التي وجهها إلي، وبعدها بيوم أرسل لي مصحفا وكتابا عن العقاد.» كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب