كانت مصالح مديرية الشؤون العامة بوزارة الداخلية تراهن على هذا الحدث لرص الصفوف وترميم ما أفسدته أحداث الصخيرات ومولاي بوعزة والطرد البريدي الملغوم، وهي أحداث لا دخل فيها لوزارة الداخلية ومصالحها الاستعلاماتية. لذا حرصت على نجاح المسيرة الخضراء واستنفرت لهذه الغاية كل إمكانياتها البشرية واللوجستيكية، كما اخترقت المنظومة الديبلوماسية التي عملت على تنفيذ تعليمات الملك بحذر وتكتم شديدين، بعد أداء القسم أمام الملك على عدم إفشاء سر الزحف السلمي، خاصة في مواجهة الجزائر بوزير خارجيتها الداهية عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان مطلب استعادة التراب الصحراوي يؤرقه ويبعد النوم عن جفونه، لاسيما وأن وجود المغرب في الصحراء قد يعيق مشروع هواري بومدين، الرامي إلى جعل الجزائر قوة صناعية في المنطقة. وزع الحسن الثاني الأدوار بدقة، استنادا إلى مبدأ الرجل المناسب للمهمة المناسبة، فما أن اختمرت فكرة المسيرة في ذهنه، حتى شرع في التعبئة من أجل نيل دعم المنتظم الدولي، خاصة في محفل كبير كالأمم المتحدة، وتقرر إيفاد المحجوبي أحرضان وعبد الكريم الخطيب إلى مجموعة من دول إفريقيا السوداء، وتم التركيز في البداية على الدول التي كانت عبارة عن مستعمرات برتغالية، حيث ساند المغرب حركاتها التحررية ودعمها ماديا. ووجدت «الرسالة» التي حملها موفدا الملك صدى كبيرا لدى موبوتو سي سي سيكو في الزايير، الذي استقطب دعما إضافيا للقضية. لم يكن الحسن الثاني مقتنعا بالسند الفوري للزعماء العرب، كان يعرف أن الدول العربية ستتعامل مع المسألة كنزاع عربي/عربي، وستتحاشى إغضاب الجزائر، رغم ذلك أرسل عبد الرحيم بوعبيد الاتحادي وامحمد بوستة الاستقلالي في جولة عربية، ربما من هنا بدأ هذا الأخير يتمرس على المفاوضات الديبلوماسية، قبل أن يعين في فترة زمنية لاحقة وزيرا للخارجية. وفي نيويورك تم استنفار فريق عمل مكون من وزير الخارجية مولاي أحمد العراقي وإدريس السلاوي ومجيد بنجلون، أستاذ القانون، والجعايدي والصفريوي، حيث قاموا بحملة واسعة النطاق للتعريف بالقضية. وطار علي يعته صوب المعسكر الشيوعي نظرا إلى مرجعيته وعلاقته بالروس، قبل أن يتوجه إلى نيويورك. ولم تقف الخارجية الجزائرية مكتوفة الأيدي أمام الاستنفار الديبلوماسي المغربي، بل قام عبد العزيز بوتفليقة برحلات مكوكية إلى كثير من الدول التي كان يعرف مدى تجاوبها مع المطلب المغربي، بل إنه التقى بصفته طرفا محوريا في النزاع، قبل المسيرة الخضراء، بوزير الخارجية الأمريكي هنري كيسينجر، وأبدى مخاوفه من سيادة المغرب على الصحراء بدعم أمريكي، وحرص الحسن الثاني على طرق باب الجزائر، فأرسل في مرحلة أولى عبد الكريم الخطيب، نظرا إلى علاقاته مع أقطاب النظام خاصة صناع الاستقلال، وكان برفقته المحجوبي أحرضان، الذي اصطدم خلال جلسة حوار مع بوتفليقة، حين ذكره بأفضال المغرب على الجزائر ودور جيش التحرير المغربي في استعادة الجار لاستقلاله، وهو النزاع الذي وصل إلى الملك الذي هنأه على موقفه بعد العودة إلى الرباط. وقبل انطلاق المسيرة، أرسل الحسن الثاني وفدا مكونا من أحمد باحنيني، التقى بومدين وكان معه سفير المغرب في الجزائر أحمد السنوسي، الذي أبلغ الجزائريين بقرار الزحف على الصحراء، الذي قوبل بقلق ظاهر على محيا بومدين ووزيره بوتفليقة، ولم يتوقف التواصل مع إسبانيا التي كانت تعيش آخر أيام فرانكو، حيث زار وفد مكون من أحمد عصمان الوزير الأول، ووزير الخارجية أحمد العراقي والعربي الخطابي وكريم العمراني وعبد السلام زنيند، حيث تم التفاوض مع رئيس الحكومة الإسبانية نافارو ومجموعة من السياسيين، بينما كان وزير الخارجية الإسباني يتعاطف مع أطروحة زميله بوتفليقة. بموازاة مع التحركات الديبلوماسية، توجه بعض ضباط القوات المسلحة الملكية المغربية إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، في زيارة تفقدية لمستودعات الجيش الأمريكي، للوقوف على تقنيات العمليات التموينية في حدث كالمسيرة الخضراء. كانت حالة الاستنفار والوحدة الوطنية تبعث على الارتياح، لأن الانسجام الذي عشناه خلال نشر رسالة المسيرة الخضراء، مكن المغرب من تحقيق نوع من المصالحة الوطنية، وابتلاع أحداث الصخيرات ومولاي بوعزة. لقد وقفت على وطنية الاتحادي عمر بنجلون، الذي كان الخلف الصالح لبن بركة، بل تفوق عليه في كثير من القضايا، لأنه يؤمن بالميدان وليس التنظير، بينما كان محمد البصري وعبد الرحمن اليوسفي يفضلون «النضال عن بعد»، فيما كان ود متبادل بين القصر وعبد الرحيم بوعبيد، مع الحفاظ على مبادئه الثابتة. لقد ضخ عمر في عروق الحزب اليساري دما جديدا في لحظة هوانه، وشارك في توظيف الشباب الاتحادي في صلب القضية الوطنية، بينما سعى النقابي المحجوب بن الصديق إلى كسر الإجماع حين استعمل النقابة سلاحا ضد الدولة وورقة ضغط شلت الاقتصاد المغربي، بدعم وتأثير من عبد الله إبراهيم. في ظل هذا الوضع، قررنا في المديرية إرسال مذكرة إلى الملك الحسن الثاني نحيطه علما بالوضع في الجبهة الداخلية، تضمنت قلق الداخلية من النقابة الوحيدة، واقترحنا عليه الموافقة على خلق كيان نقابي جديد يعيد المحجوب بن الصديق إلى صف الإجماع، لكنه أجابنا بالرفض وردد كلمة «لا» أكثر من مرة، بل وقال لنا مازحا: -المحجوب بن الصديق هو بمثابة الحسن الثالث.