بعد استقلال المغرب، قام عدد من الرجال بأخذ زمام الأمور بعد زوال عهد الحماية لبناء مغرب عصري. من بينهم مولاي أحمد العراقي، الطبيب الذي صار دبلوماسيا. كان سفيرا في السادسة والعشرين من عمره، وبعدها وزيرا للخارجية في السادسة والثلاثين، وأخيرا وزيرا أول قبل أن يعود إلى الدبلوماسية مرة أخرى ويهتم بملف الصحراء. كان العراقي شاهدا على حقبة مهمة من تاريخ المغرب، غير أنه ظل كتوما منذ 1978، ولم يقم بأي خروج إعلامي، لكنه اليوم، من خلال هذه المقابلة المطولة، يكشف مولاي أحمد العراقي عن بعض التفاصيل التي ظل يحتفظ بها لنفسه، من أبرزها ما وقع بعد انقلاب الصخيرات. - ما هي حصيلة سياسة الحسن الثاني؟ < سياسة السدود هي من بين النقط المهمة في رصيده. لهذا قلت إن الحسن الثاني كانت له رؤية. وبطبيعة الحال، فإن الميسورين هم الذين استفادوا أكثر منها. لكن رغم ذلك، فإنها خلقت دينامية في العمل وتحسينا في الإنتاج والتي يستفيد منها كل المغاربة. على المستوى الدولي، فقد كانت له هالة لا يملكها إلا قليل من القادة. أما في مجال التعليم، فقد كان فشلا تاما. كانت هناك ديموغاجية. هل يمكن تصور تعريب التعليم الابتدائي بدون تأهيل المعلمين؟ - كيف ترك الحسن الثاني، الذي كان ذكيا وذا رؤية، ذلك يحصل؟ < ضغط الاستقلال هو السبب. - ما هي في رأيكم آفاق السلام في الصحراء؟ < لقد قمنا بعدد من الأخطاء. ففي غمرة الفرح بنجاح المسيرة الخضراء، كان لابد أن نقوم بأنفسنا بالاستفتاء. وقد قمنا بخطأ بعدم دخولنا لبئر لحلو في 1975 عندما كان محاصرا فيها ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف جندي جزائري. في تلك اللحظة، كل رؤساء الدول هوفويت بواني سنغور، مللك العربية السعودية وملك الأردن وغيرهم قاموا بالتدخل. وقد قام الرئيس المصري الحالي حسني مبارك بأربع أو خمس رحلات بين الجزائر العاصمة وفاس. كانوا كلهم يقولون الشيء نفسه: « لقد ربحتم على كل المستويات. يجب حفظ ماء وجه بومدين». اجتمع الحسن الثاني برؤساء الأحزاب الذين كانوا كلهم موافقين على انسحاب قواتنا لأن كل الجيش كان مستنفرا في الجنوب بينما ظلت وجدة في الشرق بدون حماية، وإذا تم أخذ تهور الجزائريين في عين الاعتبار، فيمكن أن يدخلوا إلى المغرب عبرها. ما زلت أذكر حرب الرمال سنة 1963، الجنرال ادريس بن عمر، رئيس القيادة العليا للقوات المسلحة، كان يمكنه الوصول إلى غاية تندوف. قال لي: «عندما توصلت بأمر التوقف والرجوع إلى الحدود، كنت أريد تهشيم الراديو»، مضيفا: «لكنني امتثلت للأوامر». سألت الحسن الثاني بعدها عن السبب الذي قمنا من أجله بالتوقف، فأجابني: «يمكننا أن نفوز مؤقتا لكنني أفكر في من سيأتي بعدي. لا أريد أن يعلن يحارب الجزائريون ابني وحفيدي لكي ينتقموا، لهذا أفضل التفاوض». - كيف مر الملف أمام الأممالمتحدة؟ < كانت لدى الإسبان نية تنظيم استفتاء لخلق دولة وهمية في الصحراء أو أن تكون الصحراء أرضا تابعة لهم. قرر صاحب الجلالة عرض المشكل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، لكن لكي تقبل المحكمة بالنظر في الملف كان لابد أن تقوم اسبانيا بتقديم طلب مماثل إلى المحكمة. وبما أن إسبانيا رفضت الأمر، كان لابد من المرور عبر الجمع العام للأمم المتحدة، وقد بعث جلالته وفودا إلى مختلف أنحاء العالم. لكننا فوجئنا بأنه لا أحد من المتدخلين قد أشار إلى طلب التحكيم المقدم من طرف المغرب، رغم أن وفودنا زاروا القارات الخمس، وذلك بسبب ضغط اللوبي الجزائري. هذا رغم أن بومدين قال في المؤتمر العربي في 1974:«إذا اتفق كل من المغرب وموريتانيا فليس لدي أي تطلع نحو هذه الأرض». وصلت إلى نيويورك مع بوستة، بوعبيد، يعتة وأحرضان، وقد فوجئنا بما وقع. اتصلت بوزير الشؤون الخارجية الموريتاني، بدون إعلام رؤساء الأحزاب. اقترح علي توقيع اتفاق يقضي بمنح موريتانيا جزءا من الصحراء سنتفاوض حوله فيما بعد. عرضت بعدها الاتفاق على أنظار رؤساء الأحزاب والذين دعموني بقولهم: «بطبيعة الحال، حتى الدول العربية كالمملكة العربية السعودية لم ينطقوا بكلمة واحدة لصالح الاقتراح المغربي». تقدمنا معا للمحكمة وتم قبول التوسط من قبل محكمة العدل الدولية. - لماذا لم تعط هذه الخطوة أكلها؟ < في 1975، وجدنا أنفسنا أمام مشكل آخر، فقد قامت الجزائر بتقديم مشروع حل مدعم من طرف 85 بلدا يشملون كل دول الاتحاد السوفياتي ومجموع دول عدم الانحياز تطالب فيه بانسحاب القوات المغربية المستعمرة بدون شروط من الصحراء وتنظيم استفتاء لتقرير المصير. كنا نواجه مشكلا كبيرا لكون كل الأشخاص الذين اتصلت بهم لم يجيبوا. في النهاية، قررت التقدم بقرار ينص في مجمله على وجوب احترام مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها مع الأخذ بعين الاعتبار اتفاقية مدريد. حصلنا عندها على دعم أربع دول فقط هي السنغال، الغابون، الكاميرون والنيجر. حتى تونس لم ترد دعمنا. عندما تفاوضت، كان الوقت قد فات للاتصال بصاحب الجلالة. - ماذا حصل بعد ذلك مع الدول الإفريقية؟ < عندما غادرت الشؤون الخارجية سنة 1978، لم تكن هناك سوى سبع دول فقط هي التي اعترفت بالجمهورية الصحراوية وهي الجزائر، رواندا، بوروندي، فيتنام الشمالية، كوريا الشمالية، جمهورية الرأس الأخضر، وليبيا. وبطبيعة الحال، كانت هناك مفاوضات على حساب المغرب ووصلنا إلى 43 بلدا، مما أجبر صاحب الجلالة على اقتراح الاستفتاء. - هل تظنون أن الجزائر ستقوم في النهاية بقبول الاقتراح المغربي؟ < أتمنى أن أكون على خطأ لكنني أرى أن الجزائر لن تغير موقفها أبدا لكونه متجذرا في ذهنها. لقد تعاملت مع الرئيس بوتفليقة عندما كان وزيرا للشؤون الخارجية، وللأسف فإنهم يكرهون المغرب ولا أعلم لماذا. في الحقيقة، أكبر خطأ قمنا به هو عدم قبولنا التفاوض مع فرنسا سنة 1958. إنها فرصة ضائعة دفعنا ثمنها باهظا. الصحراء لنا وسنظل متواجدين فيها، فموقف كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية، فرنسا، ودول أوروبية أخرى قد أراح المغرب، لكن ما أخشاه هو أن تقوم مناطق أخرى بالمطالبة بالحكم الذاتي. - ما هي التغييرات التي حصلت في المغرب في السنوات الأخيرة؟ < منذ أحداث الصخيرات، تضاعف عدد السكان ورأى جيلان النور. وأعطت سياسة السدود أكلها، فلا أحد يموت جوعا في بلادنا. عرف المغرب حكومة التناوب، برئاسة عبد الرحمان اليوسفي، أحد أبرز وجوه المعارضة منذ الاستقلال وذلك في نهاية حكم الحسن الثاني. كان المغرب في الماضي يتوفر على أربعة أحزاب فقط، بينما نتوفر حاليا على أكثر من ثلاثين حزبا. كما أن جلالة الملك الشاب محمد السادس قام بإصلاحات وتغييرات في عدد من المجالات من خلال سياسة جديدة لم يكن ممكنا تطبيقها سابقا. كما تم إنشاء عدد من المؤسسات من أبرزها هيئة الإنصاف والمصالحة التي تدارست حوالي 160 ألف ملف منها 10 آلاف ملف ستنتج عنها تعويضات مادية. كما أن رئاسة هذه الهيئة تم إسنادها للمرحوم ادريس بنزكري، رمز الكرامة الإنسانية، الذي قضى سبع عشرة سنة في السجن بسبب أفكاره. هناك أيضا الهيئة المكلفة بالنظر في المجال التعليمي، الذي يعتبر نقطة ضعف الحكومات المختلفة التي عرفها المغرب منذ الاستقلال والتي دعت إلى مجموعة من الإصلاحات التي يجب القيام بها. كما تم إطلاق برنامج واسع من الاستثمارات، كما تم تدشين أوراش كبرى (طنجة ميد، أبو رقراق)، بنيات تحتية جديدة، موانئ جديدة، طرق جديدة، إيصال الكهرباء إلى المناطق القروية، السياحة ... وقد أدى تحسين المناخ الاستثماري إلى جلب رؤوس أموال مهمة خلال الخمس سنوات الأخيرة. كما أنني أحيي برنامج الإصلاحات الاجتماعية، ومنها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التحدي الكبير الذي يواجه المغرب المعاصر والذي ستكون له انعكاسات اجتماعية واقتصادية إيجابية بالنسبة إلى الطبقة الأكثر فقرا. وأخيرا، هناك تعزيز مكانة المرأة عن طريق المدونة، التي تمثل أول إنجاز في مجال حقوق المرأة في المغرب، والتي ساهمت في تراجع تعدد الزوجات. لكن يظل هذا غير كاف. ففي أيامنا هذه، تلعب المرأة المغربية دورا يوازي أهمية الدور الذي يلعبه الرجل. - هل ندمتم على شيء قمتم به خلال حياتكم كشخصية عامة؟ < نعم، إني نادم على تصرف قمت به. ثلاثة أيام بعد الصخيرات، تم استدعائي مع كل من ادريس السلاوي والجنرال أوفقير من طرف جلالة الملك للالتحاق به في ثكنة عسكرية قديمة قرب الشاطئ. قال لنا إنه تم تشكيل محكمة عسكرية ليلا برئاسة الجنرال أوفقير وتتكون من دليمي وثلاثة ضباط آخرين رفيعي المستوى، وإنه تم الحكم على الانقلابيين بالموت ضربا بالرصاص. وخلافا لما قيل فإن الملك لم يكن حاضرا في عملية الإعدام. الوحيديون الذين كانوا حاضرين هم الجنرال ادريس، الجنرال أوفقير، ادريس السلاوي وأنا. ندمت على تصرف قمت به تجاه أحد الانقلابيين. فقد قال لي: «لا تظن أنك نفذت بجلدك أنت والحسن الثاني، فالشعب سيتخلص منكم». في تلك اللحظة، بصقت على الأرض. وأنا نادم الآن على ذلك، وأعتذر لعائلته. عن «فيرسيون أوم»