بعد استقلال المغرب، قام عدد من الرجال بأخذ زمام الأمور بعد زوال عهد الحماية لبناء مغرب عصري. من بينهم مولاي أحمد العراقي، الطبيب الذي صار دبلوماسيا. كان سفيرا في السادسة والعشرين من عمره، وبعدها وزيرا للخارجية في السادسة والثلاثين، وأخيرا وزيرا أول قبل أن يعود إلى الدبلوماسية مرة أخرى ويهتم بملف الصحراء. كان العراقي شاهدا على حقبة مهمة من تاريخ المغرب، غير أنه ظل كتوما منذ 1978، ولم يقم بأي خروج إعلامي، لكنه اليوم، من خلال هذه المقابلة المطولة، يكشف مولاي أحمد العراقي عن بعض التفاصيل التي ظل يحتفظ بها لنفسه، من أبرزها ما وقع بعد انقلاب الصخيرات. - ما هي الأجواء التي تم في ظلها تعيينكم وزيرا للشؤون الخارجية؟ < لم أطلب شيئا. تم الأمر بعد الزيارة الرسمية لجلالة الملك إلى واشنطن في فبراير 1967 بدعوة من الرئيس الأمريكي ليندون جونسون. بعد أيام من عودته إلى المغرب، طلب مني جلالته القدوم بشكل عاجل إلى الرباط. كنت أظن أنني قد قمت بخطأ ما خلال الزيارة، رغم أنه بدا لي أنه راض عن عملي. ركبت الطائرة في اليوم نفسه. لم يكن هناك خط جوي مباشر وكان لابد من المرور عبر باريس. عند وصولي إلى الدارالبيضاء، وجدت ضابطا عسكريا بانتظاري مع طائرة مروحية. لم يتركني حتى آخذ حقائبي معي قائلا: «جلالة الملك بانتظارك». كنت أظن حينها أن الأمر خطير جدا. في ملعب الهوكي بجوار فيلته، رأيته يبتسم، وقلت في نفسي إن الأمر لا يبدو في النهاية بالخطورة التي تصورتها. التفت إلى كديرة، والمحمدي وادريس السلاوي الذين كانوا يرافقونه وقال لهم: «أقدم لكم وزير الشؤون الخارجية الجديد». كانت هذه إشارة إلي مفادها أنه: «ليس لهم يد في تعيينك». كنت عندها في السادسة والثلاثين من عمري. - هل يمكنك أن تحدثنا عن نشأة الدبلوماسية المغربية، هل كان لها مذهب معين؟ هل تم تطويرها؟ < كنا آنذاك في بداية الاستقلال. كل الوزراء ورثوا إدارات كانت قائمة أصلا كالمالية والأشغال العمومية والداخلية وغيرها، لكن وزارة الشؤون الخارجية لم تكن موجودة. كان يجب علينا أولا أن نجد مقرا. وجدنا فيلا لوريش التي كانت تؤوي المقر السابق للمجلس في عهد الحماية. كان يجب علينا إيجاد أطر. ويجب هنا التأكيد على أن السيد بلافريج كان رجلا عظيما وكان دبلوماسيا بالفطرة. كانت من أولويات الدبلوماسية التفاوض مع قوى الحماية السابقة حول الاتفاقيات التي تحدد علاقاتنا بها، وخاصة إعادة إدماج طنجة التي كانت آنذاك «دولية». دامت المفاوضات حوالي شهر أو شهر ونصف لأنه كان علينا الدخول في مفاوضات مع الثلاثة عشر بلدا الموقعين على اتفاقية الجزيرة الخضراء، وكان كل واحد منهم يطرح مشاكله. ما تم تقريره في عهد جلالة الملك محمد الخامس هو أن تحتفظ طنجة بنظامها الاقتصادي المتميز، لكن تم إلغاء هذا النظام من طرف السيد عبد الله إبراهيم رئيس المجلس وعبد الرحيم بوعبيد نائبه، ففي تلك الفترة كانت السلط التقنينية في يد رئيس المجلس. - ألم يكن ذلك خطأ؟ < كل البنوك وكل الشركات التي كانت متواجدة في طنجة كانت سببا في الأيام الجميلة التي مر بها كل من جبل طارق وبيروت اللتين كانتا تتمتعان بنظام خاص. لقد خسرنا الكثير بإلغائنا للنظام الاقتصادي الخاص الذي كانت تتمتع به طنجة. - في عهد حكومة عبد الله إبراهيم، عندما كانت سلطات رئيس المجلس واسعة، هل كنت كدبلوماسي تحت وصاية المجلس أو أن مجال الدبلوماسية كان مخصصا للملك؟ < بطبيعة الحال، لقد كان جلالة الملك هو الذي يحدد التوجهات الكبرى، لكن هذا لا يمنع وزراء الشؤون الخارجية من اتخاذ المبادرات، وقد ظل هذا الأمر ساري المفعول بعد ذلك. عندما عينني جلالة الملك الحسن الثاني قال لي: «عندما يكون هناك أمر مستعجل لا يحتمل الانتظار فلتبعث إلي رسالة مكتوبة بخط يدك، وابعثها مع شخص ليسلمها إلى مساعدي والذي سيسلمها بدوره إلى معاوني الذي سيسلمها بدوره إلى رحال الذي يمكنه أن يدخل علي أينما كنا حتى في الحمام. وإذا لم تتوصل برد مني في غضون ساعتين، فيمكنك القيام بما تراه مناسبا». لكنني نادرا ما كنت أقوم بذلك، إلا مرتين أو ثلاثا في السنة. أظن أن الوزراء كانوا يريدون غطاء يمكنهم من الاستمرار في مناصبهم، لكنهم بهذه الطريقة يعجلون برحيلهم.. - وماذا كانت أولويات الدبلوماسية المغربية آنذاك ؟ < كانت في البداية استكمال وحدتنا الترابية لأن المغرب تم تقسيمه في 1912 إلى منطقة فرنسية وأخرى إسبانية في الشمال والجنوب (طرفاية وسيدي إفني)، ومنطقة دولية والصحراء التي كانت تابعة مباشرة لإسبانيا. إضافة إلى ذلك، فالحدود مع الجزائر لم تكن محددة في جنوب فكيك ( اتفاقية للا مغنية في 1885). في سنة 1958، بعثت فرنسا سفيرها ألكسندر برودي حاملا رسالة من الجنرال ديغول يقول فيها إن فرنسا مستعدة لفتح مفاوضات حول الحدود ما بعد فكيك. لكن بعض الأشخاص في الحكومة قالوا للملك محمد الخامس: «لقد اعترفتم بالحكومة الانتقالية لفرحات عباس، لذلك فبدء مفاوضات مع فرنسا سيكون كطعنة خنجر في ظهر عباس والحكومة الجزائرية». هؤلاء الأشخاص نفسهم قاموا بدعوة حكومة عباس، الذي قدم واجتمعنا به في المحمدية برئاسة محمد الخامس بفندق ميرامار. وهناك تم التوقيع على إعلان ينص على كون الحدود الموروثة عن الاستعمار غير سارية المفعول. قمنا بذلك لأن ميثاق مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية الذي انعقد في أديس أبابا سنة 1963 نص على كون الحدود الاستعمارية غير شرعية. وعندما تم تبني ميثاق المنظمة كان لنا تحفظ حول هذا البند. لكن بعد أن تم تغيير عباس وحل محله بن خدة، جاء هذا الأخير بكل فريقه الحكومي وصادق على الاتفاق حول الحدود الموقع من طرف سلفه. لكنهم لم يفوا بالعهد. - كيف عشتم فترة 1964-1965 التي أثبت فيها المغرب حضوره على الساحة الدولية؟ < كنا أول المعترفين بنظام «ماو زيدونغ»، وتبادلنا السفراء مع الصين. هذا يدل على أننا كنا منفتحين. - بعد اندلاع حرب 1967، كنت آنذاك وزيرا للشؤون الخارجية. ما هي ذكرياتك حول هذه الفترة؟ < عندما طلب عبد الناصر انسحاب قوات الأممالمتحدة من خليج العقبة، بعثني صاحب الجلالة لأطلب منه ما إذا كان يحتاج إلى أي شيء. فأجابني عبد الناصر حرفيا: «إنني أحضر لهذه الساعة وهذا اليوم منذ خمس عشرة سنة. لست بحاجة إلى أي شيء أو إلى أحد. عندي جيش»، وهنا بدأ يعدد لي الدبابات والطائرات التي يملكها في نهاية لقائنا، عندما وقفنا وهممت بالانصراف، قال لي: «لا. يمكن لجلالة الملك الحسن الثاني أن يسدي لي خدمة. إنه صديق لشاه إيران. هل يمكن أن يعد بأنه لن يزود إسرائيل بالنفط إن هي هاجمتني». لأنه في ذلك الوقت، كانت إيران هي التي تزود إسرائيل بالنفط. عدت إلى المغرب وبعدما أخبرت جلالة الملك بما دار بيني وبين عبد الناصر قال لي: «ستذهب لمقابلة شاه إيران، وستخبره بما قاله لك عبد الناصر». كان شاه إيران حينها في باريس لحضور حفل زفاف إحدى قريباته، استقبلني على الفور وقال لي: «إذا هاجمت إسرائيل مصر فسأقطع عنها إمدادات النفط». وبطبيعة الحال، فإن إسرائيل هاجمت مصر لكن الحرب لم تستمر أكثر من ساعة من الزمن، لكون إسرائيل أسقطت الطائرات المصرية أرضا منذ الساعات الأولى من الصباح، ولم تنشب أي معارك. لذلك، لم يتم توقيف التزويد بالنفط. - على المستوى الدبلوماسي، عندما نطلب انسحاب القبعات الزرق فإننا نحضر لحرب... < لم أكن أظن أن الرئيس عبد الناصر كان ينوي مهاجمة إسرائيل. هذا على الأقل ما أحسست به عندها. إسرائيل هي التي أخذت المبادرة. كان عبد الناصر يعلم مسبقا بأنه غير مستعد لمثل هذه المواجهة. كنت متواجدا حينها في باريس، وكانت البيانات الأولى إلى غاية الساعة السادسة مساء كلها تؤكد النصر وذلك لجر كل من الأردن وسوريا اللتين كانتا قد هاجمتا إسرائيل إلى الحرب. - بعد ذلك، أخذت الدبلوماسية المغربية حجما أكبر، لأن الدول الغربية كانت تظن أن السلام بين الدول العربية وإسرائيل يمر بالضرورة عبر المغرب. ما هو الدور الحقيقي الذي لعبه هذا الأخير؟ < كانت لدى جلالة الملك الحسن الثاني، رحمه الله، رؤية بعيدة وكان ذا بصيرة. فأول اللقاءات التي تمت بين الفلسطينيين والإسرائيليين تمت هنا. كما أن أول لقاء بين حسن توهامي، نائب الرئيس السادات، وبين موشي ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي، تمت هنا أيضا. كنت حينها أتنقل بين المغرب والقاهرة. وخلال شهر رمضان من سنة 1978، أرسل السادات حسن التوهامي إلى الحسن الثاني ليعلن له أنه سيذهب إلى تل أبيب بعد ثلاثة أيام ويطلب منه رأيه في الموضوع. لم يعط الملك جوابا، بل قال له: «سأبعث مولاي أحمد». وفي الغد، ذهبت للقاء السادات الذي كان متواجدا آنذاك في الإسكندرية، وسلمته رسالة الحسن الثاني التي تقول: «لو كنت في الوضعية نفسها التي توجد عليها الآن، بقناة السويس المغلقة وسيناء المحتلة، لكنت تحملت مسؤولياتي دون أخذ رأي أحد». وكلنا نعلم ما الذي حدث بعدها... - وبخصوص التدخلات العسكرية في إفريقيا، هل كانت تمثل رؤية للحسن الثاني، أم إنها كانت خدمات مقدمة لأصدقائه؟ < أظن أنها كانت خدمات مقدمة لأصدقائه مثل جيسكار ديستان. أتذكر عندما كنت عائدا من مهمة أنني رأيت طائرات عسكرية من نوع ترانسال وهي تقوم بتحميل جنود مغاربة إلى الزايير. نصحني عندها مولاي حفيظ بأن لا تكون لي ردة فعل سلبية تجاه الموضوع. ذهبت والتقيت بجلالة الملك الذي شرح لي الموقف قائلا: «سنبعث جيشنا، لقد طلب مني جيسكار ديستان ذلك»، فرددت عليه قائلا: «لكن، يا جلالة الملك، إن جيشنا سيكون متواجدا في الزايير بطريقة غير شرعية، لأنه ليست فرنسا من عليها طلب ذلك ولكن على موبوتو إعلام السكرتير العام للأمم المتحدة بأنه يطلب المساعدة المغربية لإخماد ثورة كتانفا». اتصل جلالة الملك في حضوري بجيسكار ديستان ليقول له إن العملية يجب أن تتم عن طريق الأممالمتحدة. وبعد ذلك، قدم موبوتو طلبا إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، وفي ظل هذه الظروف ذهبت قواتنا إلى الزايير. عن مجلة «فيرسيون أوم»