بعد استقلال المغرب، قام عدد من الرجال بأخذ زمام الأمور بعد زوال عهد الحماية لبناء مغرب عصري. من بينهم مولاي أحمد العراقي، الطبيب الذي صار دبلوماسيا. كان سفيرا في السادسة والعشرين من عمره، وبعدها وزيرا للخارجية في السادسة والثلاثين، وأخيرا وزيرا أول قبل أن يعود إلى الدبلوماسية مرة أخرى ويهتم بملف الصحراء. كان العراقي شاهدا على حقبة مهمة من تاريخ المغرب، غير أنه ظل كتوما منذ 1978، ولم يقم بأي خروج إعلامي، لكنه اليوم، من خلال هذه المقابلة المطولة، يكشف مولاي أحمد العراقي عن بعض التفاصيل التي ظل يحتفظ بها لنفسه، من أبرزها ما وقع بعد انقلاب الصخيرات. } احك لنا عن أحداث الصخيرات. - كانت الساعة تشير تقريبا إلى الثانية والنصف ظهرا عندما سمعت طلقات الرشاشات. كنا جالسين في الطاولات مع أصدقاء الملك، منهم ابن الحبيب بورقيبة. ظل الملك محافظا على هدوئه، حتى ألقيت قنبلة يدوية قرب قدمي ابن الحبيب بورقيبة الذي دفعها برجله قبل أن تنفجر. عندها قام الملك وقمنا معه وتبعناه. ذهبنا إلى قاعة المجلس حيث وضعت الهدايا. كانت الغرفة مغلقة، وقد قام أحمد السنوسي بتكسير النافذة بكرسي. وصل الجنرال مدبوح ووجهه كظيم، واللعاب يحيط بفمه وقال للملك: «أعلم من قام بالانقلاب، إنه عبابو هرمومو، هل يسمح لي جلالتكم بأن أتفاوض معه، هل تعطونه الأمان؟». فأجابه الملك بشكل عفوي: «إذا كنت تريد التفاوض فافعل ذلك، أما بالنسبة إلى «الأمان» فسنرى ذلك فيما بعد». دخلنا إلى غرفة المجلس، واتجهنا إلى الحمام. في تلك اللحظة، أغلق مدبوح الباب بالمفتاح وأوكل إلى جندي مهمة حراسته وقال له: «لا تترك أحدا يدخل أو يخرج من هذا المكان». } كيف كانت نفسية الحسن الثاني حينها؟ - كان الملك مصدوما لكنه حافظ على هدوئه وبقي متماسكا. الشيء الوحيد الذي كان يقلقه هو مصير أبنائه الذين كانوا بجوار المسبح. بجوار الملك كان إدريس السلاوي، بلافريج، السنوسي، أنا، وفرنسيان اثنان، والدكتور بنييش، الجنرال مولاي حفيظ والجنرال أوفقير. أراد الجنرال أوفقير الخروج قائلا: «يجب أن أذهب لأرى ما يحدث». قال له الملك: «فلتهدأ، ستظل معي». هل كان يظن حينها أنه متورط في المحاولة؟ لا أعلم. اقترح الدكتور بنييش أن يذهب ليطمئن على الأولاد. خرج من الباب الخلفي الذي كان مفتوحا. وقد وجدناه ميتا قرب المسبح وإلى جانبه جثة مدبوح. ما حصل هو أن مدبوح كان موكلا إليه مهمة القبض على الملك، وقد التقى بعبابو بعد أن تركنا. وحسب شهود عيان، فقد سأله عبابو عن المكان الذي يوجد فيه الملك، فأجابه مدبوح بأن الملك قد فر باتجاه الشاطئ. في تلك اللحظة، طلب عبابو من حارسه الشخصي عكا قتل مدبوح. بقينا محبوسين من الثانية وعشر دقائق ظهرا إلى الخامسة والربع. عند حوالي الثالثة والنصف. خف صوت طلقات الرصاص، وسمعنا أصوات محركات الشاحنات وهي تغادر المكان، ثم بعدها صمت تام. لم نكن نعلم ماذا كان يحدث. حسب الشهادات التي استقيناها في وقت لاحق، تبين أنه بعد مقتل مدبوح، كان اعبابو يريد احتلال القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية، الإذاعة، والنقط الاستراتيجية في العاصمة، لذلك، نادى على أسماء جنرالات الجيش الذين كانوا منبطحين على الأرض وأيديهم وراء رؤوسهم. أول من تمت المناداة عليه هو رئيس الدرك الملكي الجنرال بولهميس، حيث أعلن له اعبابو أن النظام الملكي قد تمت إزالته وأنه يجب عليه الانصياع لأوامره، غير أن بولهميس رفض ذلك، فتمت تصفيته على الفور. بعدها أكمل الجنرال اعبابو المناداة على الجنرالات، الذين عندما رأوا ما حصل لبولهميس أصابهم الخوف، فوافقوا على الانصياع لأوامره والذهاب معه على الرباط. لم يبق في المكان سوى بعض الجنود الذين كانوا متيقنين أن الملك قد فر. } كيف خرجتم من هناك؟ - لم يكن قد بقي في المكان سوى قلة من الجنود. في تلك اللحظة، سمعنا أحدا خلف الباب يسأل: «ماذا تحرس هنا؟»، فأجابه الجندي: «إن مدبوح هو الذي أمرني بأن أمكث هنا». عندها أفرغ الجنود رشاشاتهم على الباب لفتحه، وقد مرت إحدى الرصاصات بالقرب من السيد بلافريج وقد تسببت له بحروق لعدة أيام. تم بعدها إخراجنا من الغرفة وإجلاسنا على الأرض. كنت جالسا أمام صاحب الجلالة، قرب الجنرال مولاي حفيظ. رأيت جنديا يشير إلي، سألته: «هل تقصدني أنا؟»، فأجابني: «لا، أنا أقصد الشخص الذي يجلس وراءك». نهض الملك من مكانه، فقال له الجندي: « لقد أتينا لإنقاذك، فقد قيل لنا إنكم في خطر»، فقال له الملك على الفور: «كارد أفو» ((Garde à vous، فنفذ الجندي الأمر. في تلك اللحظة، نهض مولاي أحمد العلوي وبدأ يصيح: «عاش الملك»، والكل قام بالشيء نفسه، فانقلبت الوضعية. أوكل جلالة الملك على الفور إلى الجنرال إدريس بنعمور قيادة الصخيرات، وبما أنه كان يلبس لباسا مدنيا، فقد علقت على كتفيه شارة رتبة جندي كان موجودا حينها. بعد ذلك أمر الملك أوفقير بأن يذهب إلى الرباط لإعادة النظام إليها، وإعادة السيطرة على القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية والإذاعة. في تلك اللحظة، قال الجنرال بشير بوهالي للملك: «أنا من عليه الذهاب إلى القيادة العليا للقوات المسلحة لأنني على رأسها»، وقد ذهب بالفعل إلى هناك وتم قتله من طرف الانقلابيين. } لماذا سنة بعد ذلك تم القيام بانقلاب آخر؟ - من المحتمل أن أوفقير كان وراء الانقلاب الأول، أو على الأقل كان على علم به. } وتم إعطاؤه جميع السلط العسكرية والمدنية؟ - لقد تم تعديل ذلك في اليوم نفسه حوالي التاسعة مساء، ولم تترك له سوى السلطات العسكرية. } ثمانية أيام بعد أحداث الصخيرات، هل طلب منكم الحسن الثاني القيام بتحليل للوضعية؟ - نعم، لقد طلب مني أن أقوم بتلخيص للوضعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلاد. وقد سلمته تقريرا في التاسع عشر من يوليوز، ثمانية أيام بعد الأحداث. كان هناك العديد من الناس المحيطين به ممن كانوا يظنون أن الأحداث هي عبارة فقط عن حادثة طريق، بينما كنت أظن أنا أنها كارثة. لقد سمح لي دائما بالتحدث بصراحة. كان يقبل الانتقاد، رغم كونه لا يحبه، لكن ليس أمام الآخرين. فوجها لوجه، كان يقبل أي شيء، وإلا لما كنت تجرأت وكتبت التقرير. } هل انزعج منكم الملك؟ - لا، وإلا لما استدعاني بعد ذلك وأوكل إلي مرة أخرى وزارة الشؤون الخارجية. كما أنه، بعد قراءة التقرير، سألني عن الشخص الأنسب لشغل منصب الوزير الأول، وقد اتفقنا على أن حالة الصدمة التي كنا نعيشها، تتطلب رجلا لديه سمعة وثقل على المستويين الاقتصادي والدولي ليأخذ بزمام الأمور. عندما أعلنت أنا وإدريس السلاوي لكريم العمراني عن ترشيحه، قال: «لا، أنا لم أخلق لهذا». أقنعناه وساعدناه على اختيار وزرائه تحت إشراف صاحب الجلالة بطبيعة الحال. كنت أنا وإدريس السلاوي مسؤولين عن استدعاء الأشخاص وعرض المناصب عليهم. بعضهم رفض مثل السيد محمد الطاهري، حسن الشامي، أمين بنجلون وعبد الهادي صبيحي... والذين لم يفهموا لماذا تم تكليفي بالاتصال بهم رغم كوني مغادر للحكومة. في النهاية، أظن أن جلالة الملك كان منزعجا مني عندما تم استدعائي إلى الصخيرات في مساء الثالث والعشرين من غشت. وجدت هناك إدريس السلاوي، كريم لمراني، الحاج محمد باحنيني، أحمد رضا اكديرة والجنرال أوفقير. كانت الحكومة قد تم تشكيلها وكان سيتم الإعلان عنها في اليوم الموالي. خرج جلالة الملك للقائنا، التفت إلى الآخرين وقال لهم: «لقد فكرت جيدا، يجب إقناع مولاي أحمد بالبقاء. أعطيكم ساعة من أجل إقناعه وسأعود بعد ذلك». وقد كان كريم العمراني، الوزير الأول المرتقب، هو الأكثر إلحاحا علي بالبقاء، لكنني كنت قد أعددت كل شيء للرحيل إلى الدارالبيضاء. } ماذا فعلتم خلال هذه الفترة؟ - كنت في الأربعين من عمري عندما غادرت الوزارة الأولى، لذلك، سافرت إلى فرنسا ومكثت سنة «لإعادة التأهيل» في مجال الطب. عندما عدت في يونيو 1972، ذهبت لتحية الملك والذي طلب مني أي منصب أريد. قلت له: «أنا متخصص في الجهاز الهضمي، لذلك أريد قسم أمراض الجهاز الهضمي بالدارالبيضاء». وافق واتصل بوزير الصحة. أنا الذي قمت بتجهيز الجناح 37، لأنني خلال أول تشخيص لي قمت به في المستشفى، كانت هناك امرأة قادمة من منطقة نائية في الجنوب مريضة ولم أجد لها مكانا بالمستشفى. بعثتها لتقوم بالأشعة وقد كتبت ملاحظة «مستعجل للغاية. يجب إدخالها المستشفى غدا». بعد نصف ساعة عادت السيدة المريضة التي أعطوها موعدا بعد شهرين. فقمت بالاتصال بمدير المستشفى وقلت له: «هذه فضيحة»، فرد قائلا: «هكذا تسير الأمور هنا». اتصلت حينها ببلماحي الذي أجابني قائلا: «لماذا لا تستغل منصبك كوزير أول سابق وتجمع التبرعات لتجهيز القسم». وهذا ما قمت به، فقد اتصلت بمعارف لي الذين مولوا التجهيزات واقتنينا جهاز أشعة خاصا بالقسم، كما تم إدخال تقنيات حديثة إلى المغرب في مجال منظار المعدة وتقنيات أخرى لها علاقة ب أمراض الجهاز الهضمي. في يناير 1974، اتصل بي جلالة الملك قائلا: «يجب أن تعود إلى العمل. لدي موضوع هام لك لتشتغل عليه». إنه ملف الصحراء. ما زلت أذكر أنني أجبته قائلا: «يا صاحب الجلالة لقد عوضت محمد بنهيمة كوزير أول، وسأعوض أحمد الطيبي بنهيمة كوزير للخارجية. لن تحبني عائلة بنهيمة بعد الآن»، فأجابني: «هذا الأمر سأتكلف به... سأوكل إلى أحمد طيبي وزارة الأنباء. سيكون أنسب في هذا المنصب لكوننا سنمر بفترة عصيبة جدا تتمثل في الصراع من أجل الصحراء». وبما أنني كنت وزيرا أول من قبل، فقد عينني صاحب الجلالة كوزير دولة مكلف بالشؤون الخارجية، لأن وزير الدولة يأتي مباشرة بعد الوزير الأول. وبالتالي خدمت في هذا المنصب لمدة أربع سنوات. عن «فيرسيون أوم»