ألفت عشرات الكتب، وبكل اللغات، عن أسامة بن لادن. لكن زعيم منظمة القاعدة بقي لعقد من الزمن، ولربما سيبقى في التاريخ المعاصر، أحد الألغاز المستعصية عن الفهم. إنْ رفعه أتباعه وأنصاره إلى مقام أسطورة حية، فإن خصومه وأعداءه من الغربيين، وبالأخص الأمريكيين، طالبوا برأسه حيا أو ميتا، على طريقة رعاة البقر. وقد جعلت أمريكا من اعتقاله أو تصفيته قضية وطنية جندت لها كل الإمكانيات المادية، التكنولوجية، البشرية والاستخباراتية. وبعد عشر سنوات من الملاحقة، نجعت الاستعلامات الأمريكية بفضل وشاية من زوجته الأولى -بدافع الغيرة- من تحديد مكان تواجده في أبوتاباد في باكستان، على مقربة من الأكاديمية العسكرية الباكستانية. هكذا استنفرت جميع المصالح الأمنية والاستعلاماتية لوضع خطة سرية تقضي لا باعتقاله، بل بتصفيته نهائيا. وفي ثاني ماي 2011، انطلقت طائرتا هيلوكبتر من نوع جديد لم يكشف عنه من قبل، وكان على متنها 19 جنديا من خيرة عناصر البحرية الأمريكية، تدربوا ليل -نهار على تفاصيل وأطوار العملية. في هذا الكتاب، يروي لنا جان -دومينيك ميرشي، الصحافي والخبير في العمليات الخاصة، الذي عمل لسنوات في جريدة «ليبراسيون»، قبل أن ينتقل إلى مجلة «ماريان»، تفاصيل هذه العملية كما لو كانت «حكاية بوليسية».. في فاتح مارس 2003، وقعت «سمكة» من العيار الثقيل في شباك وكالة الاستخبارات الأمريكية.. إذ بالتعاون مع هذه الأخيرة، ألقت الاستخبارات الباكستانية القبض على خالد الشيخ محمد، قبل أن تسلمه إلى الأمريكيين، الذين أغلقوا عليه في أحد مراكز الاعتقال، في بولونيا بلا شك، غير بعيد عن مطار زيماني، شمال العاصمة فارسوفيا.. بعد ذلك، نقل «الشيخ» إلى غواتانامو، حيث ما يزال قيد المحاكمة، أمام محكمة عسكرية.. يعتبر خالد الشيخ محمد الرجلَ الثالث داخل هرم منظمة القاعدة، بعد أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.. تبوأ دور رئيس ومنسق عمليات المنظمة. فهو العقل المدبّر لعمليات ال11 شتنبر و»مهندس» اغتيال الصحافي الأمريكي دانييل بيرل عام 2002.. ازداد إما عام 1964 أو عام 1965، من عائلة تتحدر من البالوتشيستان (جنوب غرب باكستان)، درس الهندسة في الولاياتالمتحدة قبل أن يلتحق، في عام 1987، بأفغانستان لمحاربة السوفييت. عُثِر على أثَر مروره بالفيليبين، البوسنة ثم بقطر... بعد اعتقاله، أخضعه الأمريكيون لجلسات تعذيب منهجي، حيث مارس عليه جلادوه 183 عملية «تمويه بالغرق»، أو ما يعرف بالإنجليزية ب»waterbording».. كما حرموه من النوم لمدة 180 ساعة... وفي الأخير، اعترف خالد الشيخ محمد.. حين سألوه، من بين أسئلة عديدة، إن كان يعرف أبا أحمد الكويتي، أجاب «نعم»، لكنه ما لبث أن نفي صلة هذا الأخير بزعيم القاعدة.. تضعنا الأجوبة التي قدّمها خالد الشيخ محمد أمام مسألة خطيرة ألا وهي: اللجوء استعمال التعذيب للحصول على معلومات، وهو ما تطلق عليه الإدارة الأمريكية «تقنيات الاستجوابات المدعمة»: هل مكّنت هذه «التقنيات» من الحصول على معلومات كفيلة بالعثور على بن لادن؟.. سياسيا وأخلاقيا، المسألة جد حساسة. التقنية الأكثر استعمالا هي تقنية «التمويه بالغرق في الماء»، والتي يطلق عليها بالفرنسية، خطأ، «عذاب حوض الاستحمام».. يرجع تاريخ هذه التقنية إلى القرون الوسطى. خلالها يُربَط السجين بإحكام على لوحة. توضع رجلاه على علو يفوق رأسه. بعدها يغطى الرأس بمنديل لتسكب عليه كميات كبيرة من الماء. يحس السجين للتو بشعور الغرق والاختناق. رغم قسوتها، يعتبر الجلادون أن هذه «التقنية» لا تُشكّل خطرا على السجين: بما أن مكان الرئتين يعلو على الفم، فيمكن للسجين أن يختنق لكنه لن يغرق أبدا.. إذ إن الماء لا يتسرب إلى الرئتين... فلا خوف على السجين، إذن. غداة موت بن لادن، صرّح النائب الجمهوري بيتر كينغ، عضو لجنة الأمن الداخلي على قناة «فوكس نيوز»، بأن «الطريق الذي قادنا إلى بن لادن كان منطلقه تقنية «التمويه بالغرق».. ردّت النائبة الديمقراطية وعضو لجنة الاستخبارات، ديان فينشتاين، على هذا التصريح بقولها إن «الاستنطاقات لم تفض إلى هذه الاعترافات».. الواضح أن للقضية أبعاداً سياسية: فالجمهوريون يدافعون عن القرار الذي اتخذه الرئيس السابق جورج بوش والقاضي باستخدام تقنيات ينكرون صلتها بالتعذيب، فيما يشدد الديمقراطيون على الخيار الذي دافع عنه باراك أوباما والقاضي بوضع حد لهذه الأساليب. لكن ليون بانيتا، مدير وكالة الاستخبارات، أقرّ بأهمية تقنية «التمويه بالغرق» في ملاحقة بن لادن. على قناة «إن بي سي»، فسّر بطريقة فيها الكثير من التمويه، في 4 ماي 2011، بأنه «في مجال الاستخبارات فإننا نشتغل ابتداء من مصادر عديدة.. أعتقد ان بعض السجناء خضعوا ل... أي أننا استخدمنا تقنيات «مدعمة» في استنطاقهم».. وختم تصريحه قائلا: «هل كان بالإمكان الحصول على معلومات أخرى؟ أظن أن المسألة ستبقى مفتوحة على الدوام». يلاحظ المناهضون للتعذيب أنه بمعزل عن البعد الأخلاقي، فإن هذه التقنيات غير ناجعة. «في مجال الاستخبارات هناك طريقتان: التعذيب والمال»، حسب ما يلاحظ أحد الخبراء. باستعمال التعذيب يمكنك الحصول على كل شيء وعلى كل الاعترافات. يرغب الشخص المُستنطَق في مسألة واحدة هي أن يتوقف التعذيب، لذا ينطق بما يجول في خاطره. لكنْ بالمال، يصرح المستنطَق بترّهات، آملا في أن يستمر التعذيب، لكي يحصل على مزيد من المال!.. هكذا كانت المعلومات التي سرّبها خالد الشيخ محمد إثر جلسات تعذيب، خاطئة في قسم منها. اعترف السجين بأنه يعرف الكويتي، «ساعي بريد» بن لادن، لكنه أقسم أن الأخير لا يتبوأ أي دور في منظمة القاعدة.. تسارعت وتيرة الملاحقة كانت صحيفة «واشنطن بوست» أول من كشف وجود المعتقلات السرية في نونبر 2005. بعد ذلك، سارعت منظمة العفو الدولي إلى التنديد بها، لكونها «أرخبيلات لمعسكرات الشغل ( غولاغ)» من طراز جديد. هذه المعتقلات هي أمكنة للاعتقال السري تستعملها مصالح الاستخبارات الأمريكية لاستنطاق «المقاتلين غير الشرعيين». يوجد مقرها في الخارج، وبالتالي لا تنطبق عليها القوانين الأمريكية، وهي قوانين صارمة في قضايا الاستنطاق والتعذيب. لا نعرف قائمة هذه المعتقلات السرية لوكالة المخابرات الأمريكية. تشير بعض التقديرات إلى وجود 50 معتقلا سرية موزعة على 28 دولة، خصوصا في إفريقيا وآسيا وأوربا الشرقية.