ترتبط كلمة التنوير بالفيلسوف إيمانويل كانط الذي ختم حياته بهذه الفقرة التي أوصى أن توضع على قبره: «شيئان يملآن قلبي دوما بالإعجاب المتزايد والخشوع: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في ضميري». اشتهر الفيلسوف إيمانويل كانط بهذه الفقرة، وكتبت على قبره، وعند تمثاله في مدينته كونيجسبرغ التي ولد فيها، ولم يغادرها، وفيها عاش ومات، ولم يتزوج، وانقطع راهبا للعلم، ونقد العقل والكنيسة والفكر الديني، بل كل الفكر الفلسفي. هكذا قال كانط: «شيئان يملآن قلبي دوما بالإعجاب المتزايد والخشوع، وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني أراهما أمامي مباشرة، وهما يثيران فيّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي». هذه الفقرة جاءت في الفلسفة الأخلاقية في الفصل الأخير من كتابه «نقد العقل العملي»، فهو يرى الحاجة إلى الإيمان والأخلاق، ولو لم يكن في المقدور البرهنة عليهما تجريبيا أو عقليا؛ فكما كان في السماء قانون، وجب أن يكون في النفوس قانون يضاهيه سموا ورفعة. وحسب كامل حسين في كتابه «وحدة المعرفة»، فهو يعبر بطريقة مماثلة فيقول: «في الكون قانون، وفي العقل قانون. والعلم هو تطابق هذه القوانين مع بعض، وهو أمر ممكن. ولو لم يكن ذلك ممكنا لاستحالت المعرفة». وعند هذه النقطة، فهم كانط المقولات الضرورية لعقولنا، والتي من قاعدتها تتولد المفاهيم، فهو يعتبر أن دماغنا مكون، في الأصل، لاستقبال وهضم وفهم الكون وعيا. ولولا وجود الأفكار القبلية الضرورية لما افترق البشر عن البقر في شيء، فكل منهما يرى العالم، بل إن عيون البقر والنسور أوسع وأحد من أحداق البشر. وحسب سبينوزا، الفيلسوف الهولندي في كتابه «الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي»، فإنه يمكن البرهنة على الأخلاق مثل «النقط الرياضية والسطوح والأشكال». وهذه الخلاصة، التي وصل إليها الفيلسوف في مشروعه «للنقد والتنوير»، كانت في نقد كل شيء بما فيه «العقل الذي ينقد» و«ملكة النقد» و«النقد الديني من منظور عقلي»، هو الذي جعل القيصر الألماني فريدريك يومها يحرم عليه التكلم في قضية الدين مطلقا، وكان ذلك عقب ترحيبه بالثورة الفرنسية عام 1789م، والتي قال عنها حينما نقلت إليه صور الرعب والرؤوس المتطايرة على المقصلة: «إن كل هذه الفظاعات لا تقترب في شيء من استمرار الطغيان؟». ويمكن أن نفهم ذلك إذا عرفنا أن الكنيسة والنبلاء كانوا يملكون أكثر من نصف الأراضي الزراعية في فرنسا. بكلمة مختصرة، افتتح إيمانويل كانط عصر النقد. وكانت ولادة مشروع النقد «المزعج» عند كانط بعد عمل دؤوب؛ فمنذ أن أصبح أستاذا للفلسفة في جامعة ألبيرتوس في مدينته التي لم يفارقها قط، قام بتطويق الأسئلة الكبرى التي شغلته منذ الصبا: من أين يأتينا اليقين في معارفنا؟ هل يوجد نظام في النفس كما كان في السماء نظام؟ بحيث إن خرق هذا النظام لا يدع للمتشددين الدوغمائيين أي حظ في التأثير على الرأي العام وخطفه. وأخيرا، أين يمكن العثور على نقاط ثابتة في الطبيعة؟ وعلى الرغم من طبيعة التعقيد في كتابة كانط، كما وصفها المؤرخ ويل ديورانت، حينما نصح ب«أن نخالف القاعدة المعروفة، فنقرأ عمن كتب عنه قبل أن نقرأ ما كتبه هو بالذات»، قال ديورانت: «فبعد أن أجهز بركلي على المادة وقضى عليها ومحاها من صفة الوجود، ولكنه أشفق على العقل وسلم بوجوده، جاء ديفيد هيوم فسارع إلى تدمير العقل والدين عن طريق تدمير النفس وتبديدها. ولم يقنع بذلك بل اقترح أيضا تدمير العلم بحل فكرة القانون. وانهار العقل كما انهارت المادة ولم يبق منهما شيء». ويقول المؤرخ ويل ديورانت في كتابه «قصة الفلسفة»، ص 322، إن «الفلسفة وجدت نفسها وسط أنقاض خربة، قوضتها بنفسها ودمرتها بيدها»، فجاء كانط وقرأ في عام 1775م الترجمة الألمانية لكتب ديفيد هيوم، فروعته هذه النتائج وأيقظته من نعاسه العقائدي -كما ذكر- وشرع في تأسيس فلسفة جديدة، ينقذ فيها الأخلاق والعقل؛ فكان مشروعه «نقد العقل الخالص» الذي شكل تيارا ضخما هادرا تضرب أمواجه حتى اللحظة. ويقول ديورانت إن كل «الفلسفات لم تكن سوى تطور سطحي يتدفق تحته تيار كانط الفلسفي القوي الثابت، على نحو أشد عمقا واتساعا. ولا تزال فلسفة كانط حتى يومنا هذا قاعدة لكل فلسفة»؟! وإذا كانت فلسفة نيتشه قد انهارت مع النازية، وفلسفة هيجل مع انهيار الشيوعية، فإن فلسفة كانط النقدية ما زالت صالحة بقوة حتى الآن. وعندما صدر كتابه «نقد العقل الخالص» عام 1781م، وكان عمره آنذاك 57 سنة، بعد صمت استمر عشر سنوات، قوبل بتحفظ شديد، ولكنه قام في الواقع بتثوير كل المفاهيم المعروفة حول الزمان والمكان والمادة وحرية الإرادة ووجود الخالق. وقال: «إن الجزم بهذه المفاهيم الأربعة بكلمة نعم أو لا تعتبر مصيدة عقلية». وأجمل ما وصل إليه هو ما كشفتْ عنه ميكانيكا الكم ومبدأ الارتياب الذي ذكره مؤلفا كتاب «العلم في منظوره الجديد» عن دراسة الملاحظ قبل دراسة الملاحظة. ومبدأ الارتياب الذي وصل إليه فيرنر هايزنبرغ يعبر عن المشكلة على نحو فيزيائي وليس فلسفي، كما وصل إليها كانط قبل أكثر من 200 سنة، أن المراقب إذا دخل إلى حقل التجربة أدخل الخلل إليها. وبكل اقتراب من ملاحظة الشيء، نفسد مراقبة الشيء؛ ولذا كانت المعرفة الموضوعية سخافة والحتمية خرافة. احتفلت ألمانيا بذكرى مرور 200 سنة على وفاة فيلسوف النقد والتنوير إيمانويل كانت، كما صدرت العديد من الكتب تعيد التذكير بأفكاره التي أطلقها في نهاية القرن الثامن عشر. ومع هذا، فعندما سئل الطلبة عنه في المدرسة التي تحمل اسمه في برلين، اختلفت أجوبتهم، وتبين أن هناك من لم يسمع به بعد. والألمان ليسوا استثناء من هذه القاعدة، وابن رشد كفَّره وزندقه أهل قرطبة وطردوه من المسجد الجامع، ليرحل فكره إلى بادْوَا في إيطاليا فينشئ تياره الخاص في مكان مختلف الثقافة واللغة والدين، ولتدمر قرطبة تدميرا فلا يبقى مسلم واحد يصلي في المسجد الجامع؛ والسبب هو الفكرة ومناخها؛ وابن رشد لم يكن صالحا لمناخ التعصب القاتل. بقي أن نقول في النهاية إن كلمة «التنوير» جاءت في أهم مؤلف له، ولم يكن كتابا بل مقالة، نشرها في مجلة «برلين» الشهرية، حينما وجه إليه سؤال عن معنى بركة الكنيسة في عقد النكاح. وكان جواب الفيلسوف أنه يجب إعلان ولادة العقل، ونهاية أي وصاية عليه، من أي مصدر كان. وفي الحديث من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر.