مرّ أزيد من سنة على حراك عشريني تم تفصيله وتشريحه علميا بأقلام العديد من المفكرين والمهتمين. وإذا كانت لكل منهم وجهة نظر هو موليها، فإننا ارتأينا التنبيه بداية إلى مكمن الخصوصية المغربية. فإذا كان الحراك المشرقي انبنى على محور جماعة دينية التفت حول انتفاضة شبابية ضد نظام سياسي استبدادي فاسد، فإن الجماعة الدينية التي أرادت أن تشكل محور الحراك في المغرب بقدر ما استفادت من ضعف الملتفين حولها، اصطدمت بواقع اللاءات المجتمعية الثلاث التي أسقطت رغبة المشروع «الياسيني» الطامح إلى الوصول إلى رئاسة الدولة على شاكلة «الإخوان» في مصر أو ضمان السيطرة على لجان وضع الدستور كما هو الشأن بالنسبة إلى «النهضة» في تونس. أيضا، اقترب مرور سنة كاملة على انطلاق العمل بالدستور الجديد الذي نعتبره خصوصية ثانية ميزت حراك بلادنا الإصلاحي، فإذا كانت النتيجة المحصل عليها مشرقيا تشكلت بناء على ثلاثية: إسقاط النظام انتخابات وضع دستور فإن التجربة المغربية تميزت بمسارها الثلاثي المختلف: وضع دستور + تثبيت النظام انتخابات وهنا تبرز قيمة الدستور كأسمى قانون للدولة بأحكام عقده تتم عملية إصلاح النظام المثبت، وبنتائج انتخاباته فاز «المشروع الخطيبي» برئاسة الحكومة. هكذا مر «الربيع الماضي»، وهكذا نجد اليوم من لازال ينتظر عودته لتغيير الحاضر، حيث يتداول مصطلح «عودة الربيع»، سواء كشعار تفزيعي يعبر عن استمرارية مزايداتية لدى حملة «المشروع الخطيبي»، أو كانتظارية انتهازية لدى الدائرة السياسية لحملة «المشروع الياسيني»، دون أن نغفل حنين الرومانسية الثورية لدى الوهم الشيوعي ورواسبه المفككة. إن السيكولوجية السياسية لحاملي هذا الشعار تحاول تبرير الفشل العشريني بالتبشير بالعودة الربيعية، في حين أن كل متتبع لمسار التفاعلات السياسية يدرك صراحة هوية من أخطأ إبان الربيع الماضي، ومن في دينه واجب النقد الذاتي (الربيع الذاتي أولا)، كما يدرك هوية من أوهم بعض شباب العشرين فبراير بغنائم الربيع على شاكلة صيف الحصاد المشرقي، وفق استراتيجيات ماضوية قولبت اندفاع الشباب ليس باتجاه الرغبة في الإصلاح وإنما باتجاه تحين الفرص من أجل تصفية حسابات صراع الماضي (منطق الثأر السياسي الذي لا يمكن الارتكاز عليه لبناء ديمقراطية). إن خطأ الشباب كان ولازال سببه الانسياق بعقل عاطفي وراء تأطير سياسي كهنوتي أو صنمي لا يعبر البتة عن تطلعاته الحداثية من التغيير. وكان أن تحول الحراك العشريني إلى اصطدام شبابي، مما أضر كثيرا بتماسك الجبهة الشبابية وجعلنا نظهر بصورة المراهق السياسي الذي بقدر ما يملك من قوة للنزول إلى الشارع يفتقر إلى حد أدنى من الوعي الحداثي الذي يتيح له إمكانية تمييز الرغبات المسكوت عنها للإطارات السياسية الداعمة التي التفت بخبثِ السياسةِ حول فرصة الشباب للتغيير، فالمأمول من كل حراك اجتماعي أن يظل انعتاقا شبابيا نحو مفاهيم الكرامة والحرية كقيم أساسية لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. غير أن حسابات النخب التي سارعت إلى تفريغ كبتها السياسي بمحاولة أدلجة 20 فبراير، جعلت الحراك مثل الوعاء الاحتجاجي الذي انكسر بيد حامله المحتج وعلى يد داعمه السياسي. إن محاولة الأدلجة، سواء بالقومة الياسينية أو الرومانسية الثورية أو البرلمانية السياسية، كمشاريع ظلت مكبوتة سياسيا وظن حملتها أن الحراك فرصة لربيعها المجتمعي، هي الخطأ القاتل الذي أفشل عملية الالتحام الشعبي والنزول المتضامن إلى الشارع، وتاهت مع الخطأ شعارات الكرامة والحرية في متاهات تخوين الآخر (الشريك في الوطن) وصراع الهيمنة على هوية من سيصل بالحراك حتى يبلغ به السلطة. صحيح أن الوصول إلى السلطة يظل حقا مشروعا لكل تنظيم سياسي، غير أن ذلك لا يمكن أن يتم دون ضوابط دستورية ديمقراطية تحكم كيفية الوصول وشروطها التي وجب أن تسري على الجميع. وقد شكلت مرحلة إعداد الدستور الجديد فرصة «استثنائية» لتمكين الحراك من اندماجه الدستوري وتشكيله للقوة الاقتراحية عند الإعداد والفاعلية عند التنزيل. غير أن النخب السياسية العشرينية أثبت بالملموس فشلها، كما أثبتت أنها مثل باقي النخب، يحق عليها أيضا واجب التغيير مع الوعي تمام الوعي بحقيقة أن الربيع لا يعود بل الربيع يتجدد... وشتان ما بين رجعية العودة.. وحداثة التجديد. وإذا ما ألزمتنا ضرورة بسط للمفاهيم، فإن تركيزنا سيقودنا إلى طرح تساؤل عن سبب رفض المجتمع المغربي تقليد الثورة المشرقية؟ وجوابنا تلخيصُه: مبدأ اللاءات الثلاث الذي أفرزه المجتمع في خضم تفاعله مع الحراك. 1 - لا: لإسقاط النظام، وتقابلها نعم: لإصلاح النظام من داخل المؤسسات؛ 2 - لا: لمدنية الدولة، وتقابلها نعم: لفصل الدين عن سياسة الحكومة؛ 3 - لا: لأدلجة الدين، وتقابلها نعم: لإسلامية الدولة. وبالتالي، فالوعي بإفرازات هذا المبدأ الثلاثي الذي يجعل من كل حراك سياسي حامل لأضداده الثلاثة غير قادر على تحقيق الانصهار المجتمعي. وهنا أخطأت حركة 20 فبراير أهدافَها ووسائلَها في شقيها الذاتي والموضوعي. فإذا كانت تطلعات المجتمع إلى الكرامة والحرية مشتركة مع الحراك فإن المقاربة والأسلوب يختلفان عن الحراك العشريني، وذاك جواب المرحلة الماضية لأن وعي الفئات الشعبية الفطري جعلها ترفض أن تكون كراحلة تركبها النخبة للوصول إلى الحكم رغم استمرار سعيها الدؤوب إلى تحقيق الارتقاء الاجتماعي. إن مبدأ اللاءات الثلاث ينسجم انسجاما عاقلا مع مسطرتي الإعداد والاستفتاء الدستوري، فتمام الرضى التعاقدي بين الإرادة الملكية والإرادة الشعبية (الأغلبية المجتمعية) يشكل انطلاقة جديدة لمسيرة البناء الديمقراطي للدولة المغربية وفق أحكام مدققة بعقد جديد وبشكل يجعل الأنموذج المغربي قائما بذاته غير مستنسخ، أوَليس كل مجتمع لا يتغير إلا بسرعته وقدرته على إفراز البديل الصاعد؟ كما أن قيادة «المشروع الخطيبي» لعملية التحول الحكومي هي تجسيد سياسي عملي للمبدأ الثلاثي في مقابل قومة المشروع «الياسيني»، لأن حصر التنافس السياسي بين هذين المشروعين تم باعتبار معايير حركيتهما التنظيمية أمام الاندحار المريع للأحزاب السياسية المتبقية، بيمينها ويسارها، وأيضا لهجرة باقي الجماعات الدينية للعمل السياسي، وذاك ما جعل محاور التقاطبات تظل دينية/دينية. وبين المشروع «الخطيبي» الدستوري والمشروع «الياسيني» اللادستوري، يظل وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة في المغرب وحصولهم على رئاسة الحكومة، سواء تعلق الأمر بتوافقات أو بدونها، إعلانا حقيقيا لنهاية مشاريع النخبة الكلاسيكية، بيمينها ويسارها؛ فتلك سنة التحول وما يفرضه من إلزامية التجديد الفكري والسياسي والتنظيمي. قد يبدو من المعقول السياسي تجدد الربيع بمفهومه الثوري، غير أن ذلك يرتبط أساسا بأخطاء المشروع "الخطيبي" في كسب رهان التسوية الاجتماعية واستكمال بناء المؤسسات الدستورية للدولة المغربية، فالخطأ الاجتماعي سيشعل بركان الاحتجاج ليجعله خارج إطار المعالجة السليمة، والخطأ الدستوري سيفضي إلى نكوص المشروع الإصلاحي ولاسيما وقد اتضح تأويله، وذلك ما لا نرجو حصوله، فالشباب المغربي لا تقاس درجة حرارته باختبار مدى صبره على الإحساس باليأس، كما لا يجب حصر حرية اختياره في مشروعين ملتحيين أحلاهما محافظ على مرارته. إن «الربيع» سيتجدد إيجابيا إذا تجددت المشاريع الحداثية لحراكه السياسي واتجهت نحو النضال الحداثي المتضامن لإحقاق مشروع الجهوية الدستوري باعتباره قاطرة الديمقراطية التشاركية، فإعادة توزيع السلط بين المركز والجهات يظل الضمانة الدستورية التي لا محيد عنها لتجنيب بلادنا خطر الإرهاب الانفصالي والانفجار الاحتجاجي الاجتماعي. كما يشكل إجراءات عملية لتأمين تدبير تشاركي للشأن العام بمساهمة فاعلة وفعالة لكتل سياسية جهوية ناشئة في مسيرة البناء الديمقراطي. إنها المعركة الحقيقية القادرة على جعل التنزيل التشريعي لمشروع الجهوية المتقدمة ربيع ثورة قانونية لمطابقة بنية الدولة المغربية مع أحكام العقد الدستوري الجديد. هكذا ينطلق ربيع التجديد بتحديد سقف زمني لاستكمال الجولة الثانية من الاستحقاقات الانتخابية، وهكذا وجب أن ينطلق الحوار الوطني حول الجهوية من أرضية «مشروع عزيمان» القابلة للنقاش والتنقيح، فلا يمكننا الانطلاق من صفر مكتسبات، كما لا يمكننا أن نتحجر عندها. وكل عام ودستور الدولة بخير.