وقد تهيأ لحزب العدالة والتنمية أن يقود الحكومة بعد فوزه البين والديمقراطي في الاستحقاق الأخير 25 نونبر 2011، مدججا بحزبين من الكتلة المنفرط عقدها : حزب الاستقلال، وحزب التقدم والإشراكية، ومؤازارا من الحركة الشعبية اليمينية التي تلتقي معه في التأرجح بين الموالاة اللامشروطة للنظام، عن طريق الحياد أو الصمت الانتهازي أو المباركة، في وقت استشرس فيه التضاد، وتفارق التوجه إلى الشعب من حيث الدفاع عن حقه في الحرية والديمقراطية والكرامة التي يمنحها التعليم والشغل والتغطية الصحية، والسكن، وتوزيع الثروة الوطنية مع إرساء بنيات الإنتاج، وتوفير الخدمات الاجتماعية الأخرى المطلوبة؛ أما وقد تهيأ لأبناء وأحفاد عبد الكريم الخطيب، الروحيين قيادة السفينة بما يلزم من الكياسة والرياسة، واللطاقة والظرافة والحنكة، والعلم بالمتغيرات والأنواء، يصبح في حكم العادي والبديهي، أن يسترجع المرء –سريعا- مفهوما طفا على السطح برهة ثم انطفأ، إنه مفهوم "الكتلة التاريخية" التي صاغها وأطلقها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، خلال النصف الأول من القرن العشرين، لضرورة تاريخية مستعجلة استوجبها زحف الفاشية و النازية على أروربا، واللتين شكلتا تهديدا حقيقيا لها ينذر باغتيال الحضارة والإنسان والعمران، مما حدا بالرجل إلى نحت المقولة التي تبلورت على الأرض لجهة التصالح والتوافق بين الشيوعيين والرأسماليين والمسيحيين. ولا نختلف في أن أول من نادى بالمفهوم، محاولا تبيئته في التربة المغربية، هو المفكر الراحل محمد عابد الجابري في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وهي دعوة اقتضاها السياق الثمانيني، والزمنية المالية المهيكلة، والبلاد التي عرفت تَشَرْذُمًا، وتَشَتُتَا، وفقرا، وإجهازا على التعليم والخبز اليومي للمواطنين، وصراعا ضاريا بين أجهزة النظام والقوى الوطنية الديمقراطية التقدمية، وفي طليعتها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وفصائل اليسار الجذري. دعا الجابري إلى تشكيل "الكتلة التاريخية" من الصف الوطني الديمقراطي، والتنظيمات النقابية القطاعية المرتبطة به، والجمعيات الثقافية، والنسائية، والتيارات الإسلامية التي شرعت تتبلور آنئذ، وتتوضح ملامحها، إن لم نقل مشروعها السياسي ذا المرجعية الدينية، ونوسانها بين السر والعلن، وبين العنف والمهادنة، دعا إلى ذلك على أساس تصور واحد أراده أن يكون قاسما مشتركا، وجامعا مؤلفا، وهو التصدي للمعضلة الاجتماعية والاختناق الاقتصادي، بما يقيم أود المنظومة التربوية والتعليمية، وينعش الاقتصاد المتردي، ويطور الخدمات الاجتماعية تجاريا وحرفيا وصناعيا، وفلاحيا وسياحيا؛ والتصدي –من جهة ثانية- سلميا- بطبيعة الحال- إلى الحكم الأوتوقراطي المطلق. لم تكن الرياح مواتية، ولا الظروف ناضجة. ولم تكن التربة خصبة بما يكفي لتينع أوراق الفكرة، ولا كانت الأرضيات متقاربة بحيث يسهل معها تذويب الخلافات الثانوية العارضة، وصهر الأساسيات في بوتقة موحدة، كان الموقفان، بل كانت المواقف متعارضة متنابذة بين حاملي مشروع وطني ديمقراطي تقدمي منحاز إلى الطبقات الشعبية المسحوقة، وكذا البورجوازية الصغرى، ما يطلق عليها –اليوم- بالطبقةالوسطى: (المهندسون- المحامون- الأطباء- رجل التعليم- المقاولون الصغار- الطبقة المثقفة...إلخ)؛ وبين المدافعين عن حكم السماء، وعن الأوليغارشيات، والريعيات، والسلالات الزرقاء ! وإذا كانت الدعوة إياها، التزاما فكريا ديمقراطيا نابعا من غيرة وطنية، وقلق نضالي عات وعميق من أجل الخروج من ورطة تاريخية قاد إليها الاستفراد والانغلاق والتحكمية والطغيان، فإن التحليل الملموس لواقع الفترة المذكورة، يخبرنا باستحالة إمكان الاستنبات والإطلاق والتصريف، تصريف المقولة غلى مشخصات وملموسيات بأعيانها. فهل تدعو الحاجة – اليوم- إلى ضرورة تشكيل "الكتلة التاريخية"؟ وكيف؟ وبأي معيار؟ ووفق أية أجندة؟ وفي حال تشكيلها، من سيقود دفتها؟ وكيف الوصول إلى تجميع أدبيات الأحزاب، والطبقة الثقافية والجمعياتية، وتبئيرها في وحدة مظفورة ومنسوجة بها تكون الأداة، ويكون السعي والمبتغى والهدف؟ أم أنه حديث لا مبرر له -الآن- بعد الذي كان؟ وهل صعود نجم الحركات الإسلامية الأصولية –السياسية في تونس ومصر والمغرب، و البقية تأتي – مُسَوّغٌ كاف لعقد التكتل، والانصهار في البوتقة التاريخية الواحدة من أجل إنجاز المهام الوطنية والديمقراطية والحداثية؟ وهنا يثور سؤال مشروع لكنه تشكيكي ومستريب : هل تُؤْمِنُ الحركات والتيارات الإسلامية ذات المنزع السياسي، وذات المنزع الأصولي، بالديمقراطية والحداثة؟ والحال أن مسألية الديمقراطية –فضلا عن أنها حكم الشعب للشعب، تتضمن دلالات متعددة ومتشابكة لعل أهمها الحريات الفردية: حرية التفكير والتعبير والمعتقد بما يثير أكثر من رد فعل سريع ومنفعل: ألم يخرج عبد الإله بنكيران مزبدا، ومُرْعِدا بُعَيْدَ الاستفتاء على الدستور المعدل، متوعدا بالنزول إلى الشارع، وتجييش وتحشيد أتباعه، إذا أبقى الدستور على "حرية المعتقد"؟ وإذا صير إلى تكريس الملكية البرلمانية؟ علما أن الديمقراطية الحق لا تتنفس هواء نقيا إلا في ظل ملكية برلمانية. وكيف يتسع صدر التيار الإسلامي المتحزب، أو الحزب المتأسلم لمفهوم الحداثة وتطبيقاتها العينية والكيفية، وفي البال زحف الدارالبيضاء المضاد لمدونة الأسرة، الذي قاده الإسلاميون المتشددون وفي مقدمتهم حزب العدالة والتنمية. ثم ألا تتعارض الحداثة مع التراث المتكلس الأصفر، لا التراث الفكري المعتزلي والفلسفي الإسلامي المشرق والمضيء، ومع التقليدانية في اللباس، والسلوك ومعاداة نواتج العلم الإنساني، وبعض ضروب الفن كالموسيقا والغناء والرقص والمسرح والسينما، والجماليات طٌرَّا؟ إذن، كيف تتحقق "الكتلة التاريخية" في ضوء ما سردناه، وما لم نسرده لضيق المقام؟ وهل يوجد اليسار بمختلف تشكلاته وتلويناته وأطيافه ومشاربه، في مأزق وموات ما يستوجب الاستسعاف بالجماعات الإسلامية؟. إن هو إلا مساق تاريخي عابر: شد وجدب، وتداول للأشياء والأمور. فالعلمانيون القوميون والليبيراليون –للتوسعة أكثر- الذين حكموا العالم العربي، وعاثوا فسادا واستبدادا في البلاد والعباد، إنما جاءوا من العسكرتارية والأنظمة البوليسية والمخزنية. ولنا أمثلة من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والجزائر وموريطانيا. فهم لم يأتوا من الطبقة المثقفة المتنورة، أو من البورجوازية الوطنية الصاعدة على أنقاض العبودية والفيودالية، على عكس ما جرى ويجري في أوروبا وأمريكا وآسيا. ولنا مثل آخر من افريقيا حيث الحكم عسكري وشمولي وانقلابي. لذلك لا ينبغي الخلط والتلبيس، حيث إنني قرأت باندهاش أن الليبرالية والعلمانية لم تفرزا سوى الاستبداد والحكم الشمولي، مما مكن الإسلاميين من الصعود إلى سدة الحكم ظافرين مظفرين مُعبإينَ (من العباءات)، ومحلقي شواربهم لا رؤوسهم. وقد نجد- في تعاظم التنكيل ببعض الإسلاميين –هنا وهناك- وشيوع الإذاية للدين الإسلامي، والإساءة لنبي الإسلام، من لدن بعض الدول في الغرب وأمريكا – جوابا على هذا الصعود المدوي، والنجاحات التي تحققها التيارات الإسلامية من خلال صناديق الاقتراع. كما نجد جوابا لهذا الصعود في العوز والفقر وقلة ذات اليد التي توحد العالم العربي في جل أقطاره وأمصاره، وفي الحلم بجنان – إن لم تكن أرضية، فسماوية، قطوفها دانية. فالعكسر، الذي حكم، بقبضة من حديد – طوال عقود، جَوَّعَ شعبه، وسَمَّنَ قططا لتموء بأعتابه، وتتمسح بركابه وأهدابه. كما همش ونكل بالمتقفين الشرفاء، والسياسيين الديمقراطيين الأنقياء، وأفرغ البلاد من حقوقييها، وكل المطالبين بإقرار الديمقراطية والعدل الاجتماعي، وإن كان نجح –بالتخويف والتجويف- والإسكات والإخراس، في إقرار سلم اجتماعي، وهدنة شعبية، وتوازن اقتصادي، ووفرة سياحية، ومعدل نمو معتبر (حالة تونس). وإذْ انقض الإسلاميون على السانحة التاريخية الآن – التي صنعها جيل الشباب الجديد، فلأن مشاعر البؤس واليأس استشرت واستفحلت جراء عقابيل سياسات عسكرتارية: (وقد خاطب الإسلاميون، بؤس المجتمع كجمعية خيرية، كما خاطبوا يأس المجتمع كجمعية دينية، وهو ما أدى إلى تضخم أدوار وموارد الجماعات الدينية على اختلافها، فيما يقول عبد الحليم قنديل). ومن المفارقات العجيبة أن اليسار المغربي كما اليسار العربي (لنقل التيار الديمقراطي الاشتراكي، والعلماني المدني)، يجد مسوغ حضوره وإشعاعه وانتعاشه وسط الطبقة الوسطى، ولا يجدها في أوساط المسحوقين، معذبي الأرض، بتعبير فرانز فانون، التي من أجلها يكد ويكدح ويتعذب لإخراجها من السبات إلى الإفاقة والانخراط والانتفاضة لأنها صاحبة المصلحة في الإصلاح والتغيير، وصاحبة الحاجة إلى تكسير أغلالها، وصاحبة المشروعية في تَسَنُّم الصدارة المجتمعية، والقسمة في الثروة الوطنية، ما دامت تبيع قوة عملها، وتساهم في الإنتاج والمداخيل، والوفرة من خلال سواعدها وعقولها، علما أن الكلمة –الآن- لطاغوت التكنولوجيا – وهي –لعمري- مفارقة عجيبة- كما أسلفنا، إذ بقدر ما تجد أدبيات اليسار وخطبه، وتنظيراته، ومقارباته التفكيكية لماكينة الاستغلال، والوجه الحي للواقع المَوّار، آذانا صاغية لدى الطبقة الوسطى المومأ إليها، بقدر ما تجد صَدَّا وهجرا وعدم اكتراث، وعنفا –أحيانا- لدى الطبقات المسحوقة. ولذلك أسبابه –كما لا يخفى- في مقدمتها : الأمية المتفشية، و الفزاعة الدينية التي يعتمدها الأصوليون لتخويف ولجم أيما تجاوب مع قوى اليسار، من منطلق رَمْيِهِ –افتراء وعدوانا- بالإلحاد والاستهتار، والتفسخ والانحلال والإباحية والهرطقة، تلك الصفات والتسميات التي يضفرونها جدائل يختزلونها في "العلمانية الكافرة" ! فهل هناك –اليوم- مُسَوِّغٌ لإنشاء الكتلة التاريخية- نعيدها كَرَّةً أخرى؟. وإذا احتكمنا إلى مشخصات الواقع السياسي، تَبَيَّن لنا –من دون عناء- أن هناك مشروعين مجتمعين متعارضان من حيث المرجعية الثقافية والفكرية والسياسية و الإيديولوجية والحقوقية : مشروع القوى الشعبية الديمقراطية الاشتراكية، ومجموع اليسار الجذري، ومشروع حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال وحزب الحركة الشعبية إذ تتلاقى هذه الثلاثة الأخيرة في الموالاة المطمئنة تاريخيا، وتسويغ مظاهر الأزمة، وتنفرد العدالة والتنمية –فوق هذا- بترحيل مقومات الماضي إلى المستقبل كرهان غاياتي واستراتيجي. بينما ينفرد اليبيراليون المستنيرون، والاشتراكيون الديمقراطيون بترهين الحريات الأساسية ومنها الفردية، وتحديث المواقف والسلوكات، وتحويل ملامح المستقبل إلى الحاضر فيما تربط الحاضر بالغد الآتي. ومن ثم، يتعارض المشروعان، وبالتالي : التحالفان، ويستعصي –بالحتم- تشكيل الكتلة التاريخية. وإذا وقفنا –لحظة- عند مشروع العدالة والتنمية، واستعدنا مجموع مواقفه السياسية والدينية والمجتمعية، فإنه يتعين أن نسحب عليه –وهو الذراع السياسي لحركة الإصلاح والتوحيد الأصولية، ثلاثة أنواع هيمنية، وهي هيمنات استقصاها الشاعر أدونيس من ريبرتوار الأحزاب الإسلامية- الأصولية العربية، ومن ممارساتها ودعاواها ورسائلها: 1-النوع الأول عضوي يقوم على تمتين العلاقات بالموروث على نحو تعصبي مغلق ولا إنساني، في البيت، والمدرسة، والجامعة، وفي الحياة اليومية، ثقافة وقيما، وسلوكا. 2-النوع الثاني تركيبي يقوم على أدلجة الدين، بشكل تبسيطي تعليمي، يلغي أبعاده الروحية والإنسانية والحضارية، وهي أدلجة لا تتمحور حول التأسيس لعالم إنساني جديد، بل حول الخلاص من "الجحيم الأرضي": الكفر وأهل الكفر، سعيا إلى دخول "الجنة" والإقامة فيها، أبديا. 3-النوع الثالث عملي يقوم على فكرة الجهاد – الحرب. وإذَا، على فكرة الشهادة، والتضحية، كيفما كان حتى "النصر الأخير". فكيف، والحالة هذه، يستقيم الكلام عن تسوية تعاقدية تخالطية اسمها التكتل أو التحالف؟ فالجمع بين النقيضين هنا، على خلاف المنطق الجدلي الماركسي- لا يفضي إلى التركيب والتوليف، والناتج الإيجابي، الأحرى أنه يفضي إلى الانفجار، والتشوه الممارساتي، والاعوجاج التدبيري. صحيح أن التناوب الثاني : [الحكومة الجديدة]، توافر له ما لم يتوافر للتناوب الأول لجهة احترام المنهجية الديمقراطية بالكامل، إعمالا لأحد مقتضيات الدستور، ولجهة استظلال التناوب إياه بدستور معدل ومعافى، ولجهة الحافزية الذاتية والموضوعية ما يفيد بتوافر الشروط الداعمة له وطنيا وعربيا. وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإننا منتظرون حرص الحكومة الدستورية على إعمال الدستور، والبر بوعود قطعتها، وتنفيذ البرنامج و المشروع المجتمعي للأحزاب المشكلة للحكومة، تفعيلا للتعاقد المبرم مع المواطنين في أثناء الحملات الانتخابية. ومع كل ما قلناه، فهل تم احترام مقتضيات الدستور الجديد منذ بدء الحراك البرلماني والحكومي؟ ألم يسجل فقهاء دستوريون، خروقات بالجملة، لا داعي لذكرها مادام أن الرأي العام على علم بها؟ فهل سيستمر الخرق؟ وإذا اتسع، هل بٍمُكْنَةِ الراتق إيقافه؟ وفي هذه الحالة من يكون الراتق: السلطة العليا، أم الدستور نفسه كقانون أسمى؟ أم المعارضة المتمرسة والمدسترة؟ أم الناخبون الذين فوضوا للحزب الملتحي ومن معه، قيادة سفينته في بحر لُجَيّ؟ فاس في منتصف يناير 2012