بدل تخليد الذكرى والعودة إلى لحظة التأبين، أصبحت ذكرى رحيل الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات موعدا سنويا يذكرنا بلغز لم يدفن في قبر الراحل برام الله بمقر المقاطعة؛ لغز المرض والمعاناة والرحيل المغلف بأسئلة الحقيقة الغائبة. فكيف اقتحم السم القاتل مقر المقاطعة المحاصرة واندس في طعام الرئيس الأسير؟ وكيف عجز الأطباء الفرنسيون عن مقاومة زحف الموت على الجسد المرتعش في قلعة المستشفى العسكري؟ وكيف اضطر رئيس مثل جاك شيراك إلى ابتلاع لسانه وإحالة العالم على أجوبة التاريخ. بحلول الذكرى الرابعة للموت الغامضة، كشف ابن شقيقة عرفات ناصر القدوة أنه و«بعد أن وصل إلى باريس اعتقد لبعض الوقت أنه تمكن من النجاة من الموت أو القتل نتيجة التحسن المضطرد في اللحظات الأولى لوصوله إلى باريس، ونحن أيضاً اعتقدنا الاعتقاد نفسه»، لكن «سرعان ما تبدد هذا الاعتقاد بسبب عودة تدهور وضعه الصحي». تدهور وألم وموت أخفت التقارير الطبية من تفاصيله أكثر مما أظهرت؛ لتضيف الذكرى الرابعة للرحيل، سيلا جديدا من الأسئلة التي ظل لغز الوفاة الغامضة لرمز فلسطين المقاومة، يطرحها منذ الإعلان عن دخول تفاصيل مرض وموت عرفات خانة أسرار الدول. أجمعت التقارير الطبية الفرنسية والفلسطينية على أن السموم وصلت إليها عن طريق الجهاز الهضمي، حين بدأ المرض هجومه القاتل بعد تناول وجبة العشاء ليوم 12-10-2004، فأصيب الجهاز الهضمي باضطراب وتهيج شديدين ثم حدث مسلسل من الاضطرابات الأخرى بدءاً بالنخاع العظمي، أدى إلى نقص الصفائح الدموية وظهور خلايا آكلة للدم فقط في النخاع، وأدى هذا إلى اضطراب تخثر الدم ثم بدأت تظهر علامات مرضه في الكبد، وأخيراً انتقل اضطراب الجهاز العصبي من الخمول إلى الغيبوبة الكاملة، ثم الوفاة نتيجة نزيف شديد بالدماغ. فبعد أن كان قيد حياته رمز فلسطينالمحتلةوفلسطين الحرة، حمل البندقية وغصن الزيتون، أحرقوا الغصن وكسروا البندقية، فاكتفى بالكوفية المرقطة السوداء راية وتاجا يعتمر رأسه والبزة العسكرية لباسا لم يخلعه عن بدنه سوى بياض الكفن. بعد كل ذلك لم ينل عرفات أكثر من قبر في مقر المقاطعة، وبخل عليه العالم الحر والأقل حرية برواية كاملة لمجرى رحيل الروح عن الجسد الذي تحالفت عليه العلل، المعروف منها وما ظل طي الكتمان. منذ أن قامت طائرة مروحية بنقله إلى الأردن بعد سنوات من الحصار، ومن هناك أقلته طائرة أخرى إلى مستشفى بيرسي العسكري في فرنسا في 29 أكتوبر 2004. ليظهر الرئيس العليل على شاشة التلفاز رفقة طاقمه الطبي وقد بدت عليه معالم الوهن. «خرج المحاصر من حصاره ليزور الموت في المنفى، وليزوِّد الأسطورة بما تحتاجه من مكر النهاية» كما قال درويش.