من راعي غنم في هضاب زيان إلى مستشار في أم الوزارات ورجل من رجالات ابن الشاوية ادريس البصري، من شاب مشبع بالفكر الثوري حريص على التصدي لغارات المخزن إلى حارس أمين لقلعة توصف بأم الوزارات، من طفل حملته الصدفة إلى طاولات المدرسة إلى منظر في العلوم السياسية ورجل عركته التجارب والملفات التي اضطلع بها وحولته إلى خبير في إعداد التراب الوطني. حين تقرأ مسودة كتاب «حياتي، الحسن الثاني، إدريس البصري وأنا» تشعر وكأنك تسافر في عمق تاريخ وجغرافية بلد عاش على إيقاع التحولات، وكلما التهمت الصفحات شعرت وكأنك تطوي المسافات وتجوب تضاريس مغرب كان فيه ادريس البصري صانع علامات التشوير السياسي، مستمدا قوته من ثقة الملك الراحل الحسن الثاني في إخلاص ابن الشاوية وولائه. يعتبر الدكتور لحسن بروكسي من الرعيل الأول للمستشارين الشباب الذين ائتمنهم البصري على ملفات حساسة في وزارة الداخلية، قبل أن يتحول من مسؤول تحركه الهواجس الأمنية إلى برلماني مسكون بالغارات السياسية، وبين الضفتين عشرات نقط الالتقاء والاختلاف. تنشر «المساء» في هذه الاستراحة الصيفية جوانب خفية لكثير من الملفات الشائكة التي اشتغل عليها بروكسي ومستشارو البصري، وتسلط الضوء على قضايا أحيطت بكثير من السرية، وملفات وضعت في دواليب كتبت عليها عبارة «سري للغاية». إذا كان موقع ثانوية آزرو بين جبلين يلبسان غطاء نباتيا غابويا رائعا، يتيح للعين فرصة الاستمتاع بمشاهد طبيعية خلابة، ويؤمن على امتداد السنة خضرة دائمة، فإن ثانوية مولاي يوسف بالرباط كانت مطوقة بالبنايات الإدارية، التي تشعرك بنوع من الاختناق، وتجعلك محاصرا في مدينة يضيق فيها هامش الحرية، فثانوية مولاي يوسف توجد في محيط إسمنتي يطل على القصر الملكي الموجود بالمشور السعيد، الذي يقطنه خدام المخزن، كان في باب المدخل الرئيسي حارس مهمته مراقبة الطلبة في دخولهم وانصرافهم. لم يستغرق تسجيلي بالمؤسسة وقتا طويلا، فقد حملت رقم 296 وتم إلحاقي بالفصل رقم واحد، لكن إعاقتي الوحيدة هي عدم إتقاني للهجة الدارجة المغربية بحكم أصولي الأمازيغية. حسب النظام الداخلي لثانوية مولاي يوسف، فإن الطلبة الداخليين موزعون إلى مجموعتين، ألف وباء، في ما يشبه الطبقية التعليمية، فأصحاب الامتياز الحاصلون على رخصة ألف يمكنهم مغادرة الثانوية في نهاية كل أسبوع، أما أصحاب رخصة باء، مثلي، فلا يغادرون الداخلية إلا مرة واحدة كل أسبوعين. كنت من هذه الفئة رغم أنني مسكون بالحرية وأشعر بالاختناق أمام مصادرة حقي في الاستمتاع بها، ومع مرور الوقت، بدأت أكتشف تدريجيا محيط المؤسسة ومعالم مدينة الرباط وأنسج صداقات بفضل إجادتي للغة الفرنسية، في الوقت الذي يجد كثير من الطلبة صعوبات في التواصل بها. كنت متفوقا في كثير من المواد، خاصة اللغة الفرنسية والتاريخ والرياضيات، لكن مردودي كان متوسطا في مادة العلوم الطبيعية وضعيفا جدا في اللغة العربية. أذكر الصعوبات التي انتابتني حين طلب مني مدرس اللغة العربية قراءة نص عربي، أتصبب عرقا وأتلعثم قبل أن يخلصني الأستاذ من ورطتي ويقول «تجاوزوا البربري»، مما يثير عاصفة من الضحك في القسم. ورغم العطل الحاصل على مستوى اللغة العربية، إلا أنني كنت أحصل على نتائج مشرفة تتراوح ما بين التشجيع ولوحة الشرف. كان موقع الثانوية مؤثرا في مساري الطلابي، فالقرب من المدرسة المولوية حيث يدرس الأمراء مولاي الحسن ومولاي عبد الله، ساهم في مد جسور التقارب مع المحيط المخزني. فقد كان ولي العهد وشقيقه حريصين على مقابلة كثير من الطلبة وكنا نستفيد من إعانات يقدمها الأمراء عبارة عن ملابس تحمل رمز الملكية، بل إن استفادتنا فاقت حدود التبرع بالألبسة إلى تمكيننا من الاستفادة من دروس يقدمها أساتذة يدرسون الأمراء في المدرسة المولوية، ومن بين الأساتذة الذين أسروا قلوبنا، الأستاذ ريفيل الذي كان يشغل في الوقت ذاته مهمة مدير الدروس الفرنسية للأمراء. كان مرحا ومحبوبا وكنا نقبل على دروسه بنهم، لأنه متمكن من روائع الأدب الكلاسيكي، وملم بالثقافة الإغريقية اليونانية. كنت من أفضل الطلبة لديه وكان بين الفينة والأخرى يمنحني ورقة نقدية من قيمة عشرة فرنكات كلما تفوقت في اختبار كتابي. ورغم الاستعصاء الذي كان يلازمني في مادة العربية، إلا أن أساتذة الثانوية الذين تعاقبوا على تدريسي الأدب العربي كانوا يمتازون بقوة التبليغ وبطرقهم البيداغوجية الرائعة، أبرزهم حجي والكوهن وبن عالم، هؤلاء كانوا يحبون المهنة ويسعون إلى جعل الثانوية منارا للعلم والأدب ومشتلا للمعرفة لعب دورا كبيرا في الحياة السياسية للبلاد، حيث ظهرت أول الإرهاصات عندما فوجئنا أثناء مغادرتنا للثانوية بوجود عدد كبير من الدبابات في أبرز شوارع الرباط، وتبين أن السلطان محمد الخامس قد تم نفيه من طرف الإقامة العامة إلى جزيرة كورسيكا، ومنها إلى مدغشقر. حينها تغيرت ملامح المؤسسة التعليمية وساد جو من القلق في أوساط الطلبة، الذين ظلوا يتلقون أخبارا عن نفي السلطان وردود الأفعال من الطلبة الخارجيين، خاصة أن شعارات قد ظهرت على الحيطان تؤرخ لبداية ثورة ضد المستعمر، «عاش الملك محمد بن يوسف، يحيا الاستقلال» كانت هي اللازمة التي اتفقت عليها كل مكونات الشعب من مثقفين وطلبة وبسطاء، بل من الأصدقاء من ناضل من أجل الاختيار الثوري المسلح، ومن المشاهد التي لازالت عالقة في ذهني، إصرار مدرسي العربية على الحضور إلى الثانوية وهم حفاة بعد نفي السلطان، بينما أدان المدرسون الفرنسيون الليبراليون والشيوعيون على حد سواء قرار المقيم العام. ظلت صورة الأميرين مولاي الحسن ومولاي عبد الله راسخة في أذهاننا نحن الطلبة، ليس فقط من خلال أيديهما البيضاء علينا نحن الطلبة، بل لتقاسمهما عشق الرياضة معنا، خاصة كرة القدم في ساحة الثانوية حيث نقترب أكثر من ولي العهد، الذي يبدي اندماجا سلسا مع الطلبة ويجد متعة في مشاطرتهم الحديث في كثير من المواضيع، بينما يشكل إلى جانب شقيقه مولاي عبد الله ثنائيا منسجما يثير فضولنا. وازداد تماسكنا بعد أن ساد تمرد عارم بسبب تعيين المستعمر ملكا مرفوضا من طرف الشعب. في ظل هذا الوضع السياسي المحتقن، كنت مطالبا بنيل شهادة الباكلوريا، وكلما اقترب الامتحان ازداد الضغط، خاصة وأن والدي انتقل للاشتغال في تافراوت جنوب المملكة، على بعد حوالي ألف كيلومتر عن العاصمة الرباط، مما يضطرني إلى قطع كل هذه المسافة في حافلة مهترئة كلما حلت العطلة، بينما تشبعت بروح النضال منذ نفي محمد بن يوسف، حيث أقضي وقتا طويلا في الاستماع إلى أخباره في المنفى، خاصة خطابه الشهير في العاصمة الفرنسية، الذي حمل إشارات على انتهاء عهد الحجر والحماية. حل اليوم التاريخي وعاد محمد الخامس إلى أرض الوطن، لكن الفرحة بالاستقلال لم تتم بعد أن عاش المغرب أحداثا دامية بين الفرقاء السياسيين، خاصة بين الاستقلاليين، الذين كانوا يسيطرون على الوضع السياسي، في هذه الفترة بالذات، بدأت أشعر برغبة في تحقيق نوع من الاستقلال المادي، بل ووصل بي فراغ الجيب إلى قبول وظيفة ساعي البريد في منطقة تادلة براتب شهري قدره 300 درهم، التي كانت تبدو حينها أجرة محترمة. لكن والدي أصر على إعادتي إلى الفصل الدراسي ومكنني من فرصة اللقاء بالأميرين من خلال ترددهما على الثانوية والنقاش العميق حول مغرب ما بعد الاستعمار. كان عبد اللطيف جبرو طالبا يمتلئ حيوية، ظل خلال هذه الفترة يشجعنا على حضور المحاضرات التي تعالج قضية الاستقلال، ويسير على نهج أفكار المهدي بنبركة، الذي برز نجمه كمنظر كبير له جاذبية كبيرة في استمالة الشعب، خاصة النخب السياسية. رغم ذلك، لم تكن له نية في نيل حقيبة وزارية في زمن التسابق على المناصب، كان دوره ينصب على تكوين جيل جديد وتأهيله سياسيا لمغرب جديد، رغم الصراع الخفي بين بورجوازية وطنية ناشئة يقودها المهدي بنبركة، وبورجوازية تقليدية محافظة يقودها علال الفاسي، أما نحن، فئة المثقفين من ذوي الأصول الأمازيغية، خاصة خريجي ثانوية أزرو ومولاي يوسف، فقد كنا تائهين بين بنبركة وأحرضان، هذا الأخير كان يرسم في مخيلتنا صورة علال الفاسي، العالم العربي المناوئ للعالم القروي، والمهدي دو المنظر، أستاذ الرياضيات التقدمي. كنت تائها بين انتماءاتي الأمازيغية وبين أفكار روسو وهوغو وفولتير ولامارتين، وبين ارتباطي بأحرضان، الذين كنت أرافقه إلى ثانوية أزرو بين الفينة والأخرى لاستقطاب منخرطين للحركة الشعبية، لكن حين أعود إلى الفصل، تسكنني أفكار سبينوزا وماركس وكانط وبروست، التي أثرت على كتاباتي في صحيفة الثانوية وجعلت قلمي يشرب حبر الغضب والنقد، خاصة تجاه الحارس العام للداخلية، عبد الواحد الراضي، حيث أثار مقالي «القديس الأجوف» زوبعة في صفوف الطلبة والمثقفين الذين شكلت إلى جانبهم النواة الأولى لتأسيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي اخترق بقوة من طرف حزب المهدي بنبركة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وفي حصة لمادة الفلسفة، اقترح علي زميلي في الفصل محمد البوعزاوي الترشح لانتخبات المجلس التأسيسي للاتحاد الوطني باسم الحزب الشيوعي، الذي يقوده علي يعتة، لم تكن لدي أي فكرة حول هذا الحزب، لكنني رحبت بالفكرة هروبا من الحركة الشعبية التي تجرني نحو انتماءاتي القروية دون برنامج سياسي واضح. ومن حزب المهدي الذي يستقطب «حضريي» الرباط وسلا، دخل الحزب الشيوعي المعركة الانتخابية أمام قوى سياسية مؤثرة، ونلت باستحقاق منصب الرجل الثاني في هذا التنظيم، ويبدو أن كتاباتي في صحيفة الثانوية قد لعبت دورا كبيرا في حملتي الهادئة، حينها تبينت لي أهمية الإعلام ودوره في الحياة السياسية. كلفني التنظيم بتوزيع المنشورات بين طلبة الثانويات والجامعة، وكنت أجوب شوارع الرباط على متن دراجتي من نوع «سوليكس»، هنا كان لي لقاء مع ادريس البصري، الذي سأرافقه في مساري المهني بوزارة الداخلية. كان إدريس ضابطا في الاستعلامات العامة وكان مكلفا بتتبع تحركات الحركة الطلابية، خاصة فصيل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، استوقفني قرب القصر الملكي وأنا في طريقي نحو ثانوية «الليمون»، تفحص المنشورات التي في حوزتي، قرأها بسرعة وكأنه على معرفة مسبقة بمضامينها، وكان يستعد ليأخذني نحو مخفر الشرطة وأنا في حالة تلبس، قلت له بنبرة واثقة: _ «حتى لو اعتقلتني فإن والدي سيطلق سراحي لأنه وكيل الملك بالرباط، لكنه لن يرضى أبدا على هذا التصرف الذي سيضعه في ورطة حين يجد ابنه في قفص الاتهام». سكت البصري لحظة وأطلق سراحي وهو يرسم على ملامحه علامات الغضب. مرت سنوات طويلة على هذه الواقعة، حين كنت أشتغل تحت إمرته، كان بين الفينة والأخرى يناديني بلقب الشيوعي المشاغب ويوصيني خيرا بعلي يعته. في هذه الفترة، بدأ نجم أوفقير يسطع وكان يتردد على ثانوية مولاي يوسف حيث يخضع لدروس التقوية في مادة الرياضيات، وكانت تربطه علاقة صداقة متينة مع الطالب الماحي، الذي يناوله الدروس قبل أن يعينه في ما بعد عميدا للشرطة.