نبل الفكرة وأناقتها، وضوح الموقف، صرامة المنهج.. تلك بعض أبعاد الصورة التي ارتسمت عن الأستاذ أحمد اليبوري، منذ تكرس اسمه، في الستينيات، أستاذا مربيا وناقدا وباحثا أكاديميا. ومع تعدد أبعاد هذه الصورة، تتعدد امتدادات هذا الاسم في حقول النقد والبحث الجامعي، والتسيير التربوي- الإداري، ومجالات التدبير الثقافي. وهي الامتدادات التي تفاعلت مع جزء هام من تطورات المغرب المعاصر. انطلق المسار التكويني والحياتي لأحمد اليبوري، الذي تمثل هذه الحلقات مجاله العام، من مدينة سلا، مسقط الرأس (1935). تلقى دروسه الأولى بالمسيد، وبمدرسة النهضة الإسلامية ، ثم بمدارس محمد الخامس وثانوية غورو بالرباط، فكلية الآداب التي تخرج منها أستاذا لمادة اللغة العربية. اشتغل في نهاية الخمسينيات محررا بجريدة «العلم» و»التحرير». لكنه ترك التدريس والصحافة ليلتحق بمديرية الموارد البشرية بوزارة الخارجية. وبعد عبور قصير بالإدارة الدبلوماسية، عاد إلى التدريس أستاذا بكلية آداب فاس، ثم نائبا للعميد . في عقد الثمانينيات، اختاره الأدباء والنقاد المغاربة رئيسا لاتحاد كتاب المغرب لولايتين (1983 1989). وطوال هذا المسار ربى أجيالا عديدة، وأنتج كتابات نقدية مميزة، كما أسس لمواقف مضيئة في النقد والحياة يشهد بها زملاؤه وطلبته ورفاقه في الكتابة والجامعة والعمل الثقافي، إلى أن أحيل على التقاعد ليستمر مرجعا نقديا وازنا، بعد صدور مؤلفاته: دينامية النص الروائي 1993، في الرواية العربية- التكون والاشتغال 2000، تطور القصة في المغرب- مرحلة التأسيس 2005، والكتابة الروائية في المغرب، البنية والدلالة 2006. ولدت وعشت طفولتك الأولى بمدينة سلا ، ضمن حقبة عرفت أحداثا وطنية كبرى توجت بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال (1944)، إضافة إلى أن ما ميز هذه النشأة، كونك تلقيت دروسك الابتدائية بمدرسة النهضة الإسلامية، التي أسسها أبو بكر القادري سنة 1934 ، في سياق النهوض بالتعليم الوطني زمن الحماية. كيف تستعيد تلك المرحلة اليوم؟ و ما هي الأصداء التي تتردد في ذاكرتك بخصوص مدرسة النهضة ورجالها، وأجواء العمل الوطني؟ مدرسة النهضة والحركة الوطنية كانا قطبي جاذبية لطفل يعيش في وسط شعبي، ويرتبط أساسا بالبادية، سواء في زمور حيث كان عمي الحبيب الدمناتي، أو بأطراف المدينة حيث كان جدي الحسين الورديغي يشرف على مجموعة من البساتين، ويتولى في نفس الوقت مهمة أمين الفلاحين بسلا. هذا لا يعني أنني نشأت في جو بدوي، لكنني كنت دائما أتطلع إلى خارج المدينة، إلى هواء آخر. وكنت، وأنا صغير، أحاول أن أقوم بأعمال البستنة، وتوجيه قنوات المياه إلى مسارب معينة في البستان، وكنت كذلك أعيش بين الأبقار والأغنام على قلتها. بعبارة أوضح كنت أعيش بالمدينة، وبحومة «راس الشجرة» تحديدا (الاسم هو الآخر يحيل على البادية). ومع ذلك كنت كأنني منقطع عن المجال الحضري. في تلك الفترة كانت تصلنا أصداء عن مظاهرات ولقاءات وتجمعات.. هي كلمات كانت تعبر أذهاننا وتمضي بسرعة. وهنا أتذكر بصفة خاصة إحدى المظاهرات بمدينة سلا إثر تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال (1944)، وقد سقط فيها أحد الشهداء مما جعلنا، بأمر أستاذنا الجليل أبي بكر القادري، نتوقف عن الدراسة، ومعناه بالنسبة للطفل الذي كنت: حدث كبير وقع. لنتوقف عند الصورة الأولى التي ارتسمت لديك عن أبي بكر القادري، مدير مدرسة النهضة. كان، أطال الله عمره، مثالا للوطنية والعمل الجدي والتفاني، ونموذجا لنهج الصرامة، حتى أننا كنا، نحن التلاميذ، نتمنى أن تتكرر غياباته لنستريح من صرامته. والواقع أنه كان يغيب، من حين لآخر، نتيجة تعرضه المتكرر للاعتقال بسبب كفاحه الوطني. لقد كان حاضرا بقوة بيننا، وحاضرا حتى بغيابه. وماذا عن منهجية التدريس بالنهضة التي كانت تمثل نموذجا للتعليم المعتمد داخل المدارس الحرة؟ كان المرتكز الأساسي يقوم على حفظ القرآن وتعلم اللغة العربية، إضافة إلى بعض دروس الحساب. لكنني، وعلى امتداد مرحلة تعليمي الأولي، كنت أحرص على تنويع مصادر تكويني. في الزاوية القادرية مثلا درسنا ألفية ابن مالك، دون أن تكون لنا إمكانيات استيعابها وفهمها كما يجب.كما كنا نتلقى دروسا على يد الفقيه سيدي أحمد بن عبد النبي بالمسجد الأعظم بسلا. وقد كانت هذه الدروس الجانبية تطرح أسئلة حول أشياء لا تدخل ضمن اهتمامات الأطفال، لكنها توجههم بطريقة غير مباشرة نحو السؤال، عفويا، عن الذات، والمصير والحياة والموت. هذه أسئلة تبقى دائما منغرسة في الذاكرة، ولربما هي التي تكيف سلوك الإنسان، في فترات متعددة من حياته، دون أن يعرف المصدر الموجه لهذا السلوك. إلى حدود المرحلة الابتدائية لم تكن لك أية علاقة باللغة الفرنسية. في السنة الدراسية الأخيرة بمدرسة النهضة، بدأ تطبيق نظام الشهادة الابتدائية. وخلال تهييئنا لهذه الشهادة، مكننا المرحوم عبد الرحمان القادري وشقيقه أحمد القادري، مدرس الرياضيات، الذي كان يتابع دراسته بثانوية مولاي يوسف في نفس الوقت، من الإطلالة على اللغة الفرنسية. خاصة بعد أن أسس أحمد جمعية للخريجين الحاصلين على الشهادة الابتدائية، بحيث صرنا نستأنس، بعض الشيء، بالعالم الآخر ممثلا بالثقافة الغربية. كما أن تنظيم الجمعية قد فتح أعيننا على آليات عقد الاجتماعات وتنظيم التدخلات وإعداد المحاضر، مثلما سمح لنا بالاطلاع على بعض القضايا العامة، خاصة بعد انتقالنا إلى زواية سيدي الغازي بالرباط، حيث تتلمذنا على أساتذة أجلاء لهم مكانتهم في العمل الوطني، وفي مجال التدريس بمختلف تخصصاته الأدبية والعلمية. وأذكر من بين هؤلاء: العربي المسطاسي، العيساوي، المهدي بنبركة، البكاري، الطاهر زنيبر... ماهي الصورة التي تحفظها الآن عن الشهيد المهدي؟ إذا كان أبو بكر القادري، بالنسبة لي، هو المنقذ في المرحلة الابتدائية، فالمهدي هو المنقذ في المرحلة الثانوية. فلقد كان هو الذي يشرف على الدروس والبرمجة ويعطي، في نفس الوقت، دروسا في مادة الرياضيات. وهو نفس الدور التوجيهي الذي كان يمارسه بمدارس محمد الخامس التي انتقلنا إليه بعد زاوية سيدي الغازي.