ما اجتمع لباحث الحس الفني المرهف، والمؤهلات العلمية الكافية إلا وكان البحث الذي يقوم به نوعا من انصهار العلم بالفن، وكانت نتائجه مرآة تعكس الصرامة بقدر ما تبرز الشفافية. هذه هي الملاحظة الأولى التي يستخلصها قارئ كتاب الدكتور الشاعر أحمد الطريبق أحمد «الخطاب الصوفي في الأدب المغربي على عهد السلطان المولى إسماعيل (الرسائل - الشعر)» والذي صدر في سفريْن أنيقين عن دار النشر سليكي إخوان في طنجة مشتملا على 818 صفحة من القطع الكبير. نفس الملاحظة المشار إليها أبداها الدكتور عباس الجراري في تقديمه لهذا الكتاب - الذي هو، في أصله، أطروحة جامعية لنيل دكتوراه الدولة في الآداب- حيث قال: «وقد كان الأستاذ الدكتور أحمد الطريبق أحمد مؤهلا لتناول هذا الموضوع، بما أعرفه عنه منذ كان في سنوات الستين يختلف إلى فصول الدراسة في كلية آداب جامعة محمد بن عبد الله بفاس، من جدٍّ ومثابرة، وتطلع للاستزادة من القديم والحديث، في تواضع زان شاعريته التي كانت تقوّي قدراته النقدية وهي إمكانيات كان أبرزها حين أنجز بحثه القيم عن أدب التستاوتي، وهو البحث الذي نال به دبلوم الدراسات العليا. وإذا كان الدارس قد اتجه في أطروحته لنيل دكتوراه الدولة إلى الأدب الصوفي، فذلكم ليس بما هو مؤهل له بتلكم الإمكانيات فحسب، ولكن كذلك بميله إلى التصوف وما هو متصل به، مما ذكر أنه التقط أول قبساته في طفولته، وهو ميل ظل ينمو ويكبر عنده، ومعه كانت تتسع مطالعاته وقراءاته في المتون الصوفية، سواء منها المغربية أو المشرقية، وكلها تتسم بالغنى والغزارة والتعدد والتنوع. وعلى الرغم من أن مادة البحث تبدو في الظاهر ميسرة ومتوافرة، إلا أنها في حقيقتها ليست كما يظن وإني لأذكر - لهذا السبب - أن الباحث كان في أول الأمر يرغب في تناول الشعر فقط، إلا أنه لم يلبث أن مال إلى توسيع المتن، فأضاف إليه النثر الذي بدا له متشعباً؛ مما اضطره إلى حصر مادته في بعض فنونه، مقتصرا على الرسائل. وقد حدد الأستاذ الطريبق دراسته في عصر المولى إسماعيل، وجعل منه نقطة انطلاق لجمع شتات كان مبعثرا في السابق، أو هو تبعثَر - أو كاد- بحكم الظروف التي عاشها المغرب في المرحلة الانتقالية بين الدولتين السعدية والعلوية وكان همّه أن يثير قضية كبرى كانت هي المتحكمة في أطروحته، وأن يحللها ويدقق النظر فيها وتتجلى في العلاقة بين الأدب والتصوف، إبداعا وذيوعا وتأثرا وتأثيرا. وهو ما انعكس على المنهج الصارم الذي اعتمده في أبعاد تحاول مقاربة كل هذه المجالات. إلا أن صرامة المنهج لم تحل دون انطباع البحث - تفكيرا وتناولا وصياغة - بملمح إبداعي ذاتي، هو غير مستغرب أن يصدر عن باحث قدير وشاعر مبدع. وعندي أنّ ذلك مما زاد الأطروحة قيمة وأعطاها سمة التفرد؛ إذ البحث نفسه إبداع، ولا يمكن أن يكون بحثا حقا إلا إذا كان مطبوعا بهذه السمة الإبداعية». وإذا كانت هذه الملاحظة تهم علاقة الباحث ببحثه العلمي، فإن هناك ملاحظة أخرى تهمّ، هذه المرّة، موضوع البحث نفسه، وفيها يحضر الفن أيضا، وبامتياز، إذ يتواشج - على نحوٍ إبداعي رائع - مع التصوف، بل يكون مرآة له. والتصوّف -بحد ذاته- تجليات متجددة لأنوار الجمال، فما بالك إذا انسكب في إبداعٍ شعري أو نثري رفيع. فإذا استحضرنا العلاقة بين الملاحظتين الأولى والثانية، وجدنا أن ثلاثية العلم والفن والتصوف هي جوهر هذا الإنتاج العلمي القيّم الذي قدمه د. أحمد الطريبق أحمد في أطروحته. علما أن الباحث متشبّع بروح هذه الأركان الثلاثة، فهو دارسٌ منهجيّ متمرّس، وشاعر موهوبٌ مُجيدٌ، ومولعٌ بالتصوف وعوالمه الروحية، وحقائقه النورانية وأظن أن هذا التمازج المحكم بين هذه الأركان أو المكونات في شخصيته هو ما فتح له أبواب البحث مشرعة في هذا الميدان الذي هو رحبٌ بقدر ما هو دقيق وعميق. وكان د. أحمد الطريبق أحمد قد نشر أطروحته الجامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا بعنوان «الكتابة الصوفية في أدب التستاوتي» في ثلاثة أجزاء (منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الرباط - 1424 - 2003)، مما يؤكد اهتماما راسخا بالتصوف ولاسيما من خلال حضوره الإبداعي (الكتابة). قسم المؤلف بحثه إلى ثلاثة أقسام الأول منها عن «التأسيس والامتداد» والثاني عن «الرسائل» والثالث عن «الشعر». وجعل لكل باب من أبواب هذه الأقسام الثلاثة خلاصة. وقد خصص الباب الأول للخطاب الصوفي في مغرب القرن الحادي عشر... والثاني. وأفرد الباب الثاني للرسائل (قراءة وتحليلا) وقدم في الباب الثالث قراءة صوفية لرسائل اليوسي، وفي الباب الرابع مقاربة صوفية لرسائل التستاوتي. وتحدث في الباب الخامس عن «الخطاب ومراجعة الخطاب في رسائل صوفية» وخصّص الباب السادس لقراءة وتحليل الشعر. ستة أبواب، وعشرون فصلا، وخمسون مبحثا تشكل مجتمعة، في بنائها الهيكلي العام، الصورة المعمارية لهذه الأطروحة التي تحمل في طياتها واقع الذات... وواقع الجانب العلمي فيها، كما قال صاحبها.