يختلف محمد امجيد عن بقية الشخصيات التي طبعت تاريخ المغرب بتنوع اهتماماتها، فالرجل، على الرغم من تقدمه في السن، يعتبر ذاكرة حية يتعايش داخلها السياسي والرياضي والاجتماعي. بدأ امجيد حياته مناضلا إلى جانب المهدي بنبركة، وانتهى به المطاف فاعلا جمعويا، وخاض معارك ضارية ضد إدريس البصري، تارة، وضد الأحزاب السياسية، تارة أخرى، رغم أنه مارس السلطة ونال، طيلة ولاية كاملة، صفة نائب محترم.. تلك التي يمقتها. «المساء» تجوب تضاريس مسار شخص يملك أكثر من قبعة، ويرفض المغادرة الطوعية لكل أوجه النشاط. - نبدأ أولى جلسات كرسي الاعتراف باستحضار طفولة امجيد، كيف عشت أولى خطواتك في درب الحياة؟ < ولدت في آسفي منذ زمن بعيد، لا أذكر التاريخ بالضبط لكنني أذكر جيدا الجغرافيا، فقد نشأت في منطقة أولاد جامع، وعشت في كنف أسرة متوسطة الحال لكنها تحب العلم والورع. ومنطقة أولاد جامع هي موطن الجامعيين الذين حلوا بآسفي قادمين من فاس. ولأن عاصمة قبائل عبدة كانت تعتمد في اقتصادها على البحر، فإن العديد من البواخر كانت تقصد المدينة، وهو ما جعلها قبلة للعديد من الأسر الفاسية بالخصوص. كان والدي يشتغل في الميناء، وبالضبط في التجارة، رفقة الحاج المختار بنكيران، والد أحمد بنكيران الذي ارتبط اسمه طويلا بالكونفدرالية العامة للمقاولين بالمغرب. لآسفي بوابة واحدة، وهي مدينة مراكش، حيث يتم تصريف البضائع التي تصل إلى الميناء، لذا يمكن القول إنني ولدت في آسفي وفتحت عيني في مراكش، ومنها كنت أتنقل إلى بقية المدن حسب النشاط الاقتصادي لوالدي. - من هم الأشخاص الذين عايشتهم في طفولتك وأصبح لهم دور مؤثر في تاريخ المغرب؟ < صعب جدا أن أتذكر كل الأسماء، لأن عمري الآن يصل إلى 85 سنة، بمعنى أن الذاكرة لم تعد بتلك الطراوة، لكن أبرز الشخصيات تعرفت عليها في ثانوية مولاي يوسف بالرباط. رغم ذلك، فإن طفولتي في مدينة مراكش أو آسفي تميزت بالشقاوة وبالمنافسة مع أبناء الطبقة الراقية ومع المستعمر الفرنسي؛ كنا نتبارى في ميادين الرياضة لأنني تعاطيت مبكرا لكل الأنواع الرياضية. وأذكر أن المنافسة كانت شريفة سواء على المستوى الدراسي أو الرياضي، لهذا حصلت على الشهادة الثانوية أو ما يعرف بالبروفي وانتقلت إلى العاصمة الرباط لاستكمال الدراسة، لأن المغرب آنذاك لم يكن يتوفر على بنية دراسية تتيح للتلميذ متابعة تعليمه في الجهة التي يقطن بها، وهذا شيء طبيعي في تلك الحقبة الزمنية. - من هم رفاق مسيرتك الدراسية في «كوليج» مولاي يوسف؟ < شاءت الصدف أن أجلس في نفس الطاولة الأولى بالقسم إلى جانب المهدي بنبركة، وفي نفس الفصل الدراسي تواجد معنا الإخوة بوهلال، ومن وجدة المدني وهو لاعب سابق للمولودية الوجدية والمنتخب الوطني، وأحمد شهود مدافع سطاد المغربي والمنتخب الوطني والذي أصبح يحمل الملعب اسمه؛ وفي قسم آخر كانت عناصر أخرى كالإخوة الخطيب وبلحاج. وكانت الثانوية تتوفر على أفضل فريق لكرة السلة، حيث كنا نجد الدعم من محمد بنجلون، مؤسس الوداد البيضاوي والرئيس السابق للجنة الأولمبية الوطنية. كان يدرس بالثانوية أغلب أفراد عائلة بنجلون المعروفة بثرائها ودعمها للرياضة والحركة النضالية بصفة عامة. وأتذكر أن محمد بنجلون اشترى لي أول مضرب في حياتي. - ما هي القواسم المشتركة بينك وبين رفيقك في الفصل المهدي بنبركة؟ < كان بنبركة، كما قلت، يجلس إلى جانبي في الطاولة الأولى على ما أذكر، وكنا نتقاسم أشياء عديدة أبرزها الدفاع عن مصالح الطلبة، وخاصة الفريق الرياضي؛ من هنا تولدت في دواخلنا نزعة الاحتجاج. - هل تذكر أول حركة احتجاجية قمتم بها كطلبة داخل الثانوية؟ < أول إضراب قمنا به، كان احتجاجا على الظهير البربري الذي أصدره المستعمر الفرنسي. أتذكر أنه في الصباح الموالي للإضراب جاء مدير المؤسسة، ويسمى نييال، وكان متوترا لأنه كان يرفض ظهور أعراض الرفض في صفوف الشباب، بل وكان يحاول منع تكتل شباب البوادي، أي أبناء ميدلت وآزرو، لأن الرفض الجماعي والمواقف المتخذة من طرف شباب متعلم كانت تشكل خطرا على المستعمر، لهذا تلقيت إشعارا من مديرية التربية الوطنية والتي كانت تقوم آنذاك مقام وزارة التعليم، وكان المدير يعطف علي لأنه لاعب تنس ومهووس بكرة السلة ودافع عني أمام إدارة الثانوية كي لا أتعرض للطرد. من هنا، بدأت بوادر الحركة الرافضة للمستعمر، لظهيره البربري أولا ثم لقراراته، وكنا عبر فريق الكرة نجسّد التكتل ونمارس حقنا في الدفاع عن وجودنا. - كيف تطور الفكر التحرري لديكم؟ < المدرسة الأولى التي تعلمنا فيها مبادئ النضال هي حزب الاستقلال، كنا جميعا استقلاليين وكنا نحن مجموعة من الشبان نزور قاسم الزهيري وبوشعيب اليزيدي، وعلى يديهما تعلمنا أولى دروس الوطنية، سواء على المستوى التاريخي أو على المستوى النضالي، وبفضلهما تعرفنا على أدق تفاصيل خطة المستعمر الفرنسي ونواياه وتنظيماته أيضا، بمعنى أننا تلقينا دروسا في الوطنية «ديال المعقول»، تقريبا بشكل يومي أو أسبوعي. - ما هو رد فعل إدارة الثانوية؟ < قامت بإعادة نشر للعناصر النشيطة، في محاولة لإبعادها عن محيط الثانوية الأكبر في المغرب، والتي تعتبر نواة حقيقية لتخريج أطر البلاد، والبداية كانت بالمهدي بنبركة الذي أحيل على ليسي غورون على ما أعتقد، وأنا أُلحقت بكوليج مولاي إدريس بفاس. كان قرارا صادرا عن الحركة الوطنية التي تكلفت بإقامتنا في باب بوجلود. لقد قمت مؤخرا بزيارة للمسكن الذي كنا نقيم به في تلك الفترة، وعادت بي الذاكرة إلى الوراء، إلى زمن الحركة الوطنية الحقيقية. رغم ذلك لم أفرط في الرياضة وكنت مواظبا على ممارسة التنس، وأذكر أن أحد رفاقي كان يمارس معي التنس وفي الطريق إلى الملعب كان يخفي المضرب تحت جلبابه. - لماذا؟ < لأن ممارسة الرياضة بكل أنواعها، سواء تعلق الأمر بكرة القدم أو السلة أو المضرب، كانت تعتبر حكرا على أبناء الأحياء الهامشية. وكان المستعمر يصف ممارسي الرياضة في مستوياتها القاعدية ب«أولاد السوق»، أي شباب لا ينتمون إلى عائلات عريقة وأغلبهم من النازحين إلى المدن. أنا كنت أمارس الرياضة ضمن فريق البريديين الذي كانت له فروع في المدن الكبرى، وفي القسم كانوا يعتبرونني «صلكوط»، وكان بعض المحافظين يطالبون بإبعادي عن الفصل لأنني لا أتسم بالحشمة، فقط لأنني «كنعري فخذي». في فاس آنذاك، كان من الصعب جدا ممارسة الكرة، لكن كان هناك بعض الشبان الهائلين، كالمغاري وقاسم بنحيون والزغاري ومولاي أحمد العلوي وعدد كبير من الإخوان، أعتذر إذا خانتني الذاكرة ولم تسعفني في استحضار كل الرموز التي قاسمتنا أولى الجلسات الحوارية حول مستقبل البلاد وحول موضوع السيادة الذي كان قاسما مشتركا بيننا. كنا يوما نتناول وجبة العشاء عند الهاشمي الفيلالي، والد الفيلالي والي أكادير، وكانت عبارة عن فول وكمون وشاي وقطعة خبز، اليوم أصبحت الوطنية بالكافيار والمرسيديس والصالونات المخملية. في أجواء بسيطة جدا، تلقينا دروس الوطنية، وفي مدينة فاس قضيت عامين من التكوين العميق. - بعد تجربة فاس، إلى أين قادتك الظروف؟ < عدت إلى الرباط لألتحق بمدرسة تكوين المعلمين، وكانت تسمى «ليكول نورمال». وبدون شعور، كنا نمارس أدوارا عديدة في مجال الوطنية، اكتسبناها من تجاربنا في الرباط أو فاس، كنا ننصت لشكايات الناس ومعاناتهم مع المخزن ومع المستعمر، وكنا نتفاعل مع هذه الشكاوى ونجعلها منطلقا للمطالبة بالسيادة المطلقة.