يختلف محمد امجيد عن بقية الشخصيات التي طبعت تاريخ المغرب بتنوع اهتماماته، فالرجل، على الرغم من تقدمه في السن، يعتبر ذاكرة حية يتعايش داخلها السياسي والرياضي والاجتماعي. بدأ امجيد حياته مناضلا إلى جانب المهدي بنبركة، وانتهى به المطاف فاعلا جمعويا، وخاض معارك ضارية ضد إدريس البصري، تارة، وضد الأحزاب السياسية، تارة أخرى، رغم أنه مارس السلطة ونال، طيلة ولاية كاملة، صفة نائب محترم.. تلك التي يمقتها. «المساء» تجوب تضاريس مسار شخص يملك أكثر من قبعة، ويرفض المغادرة الطوعية لكل أوجه النشاط. - بعد حصول المغرب على الاستقلال، ماذا كانت أولى رهانات المرحلة؟ < المغاربة شعب يسعى إلى العيش بكرامة ولو في ظل حياة بسيطة. للأسف، ابتلينا بابتداع طريقة مهينة في تدبير إشكالية التنمية قوامها التصدي للفقر والحاجة بإعداد «الحريرة» وتوزيعها على فئة من البسطاء الذين يصب الكثير منهم ما حصل عليه منها، على سبيل الإعانة، في التراب فور مغادرة نقطة التوزيع، لأن المواطن لا يريد «زلايف» الحريرة بل يريد أن تعلمه كيف يتدبر أمر العيش؛ ففي كثير من المناطق التي زرناها في المغرب العميق، التقينا بمواطنين يطالبون بحقهم في الاستفادة من الخدمات الصحية وفي تعليم أبنائهم بعد أن داسهم قطار الأمية، ويريدون أيضا فضاءات ليلعب فيها فلذات أكبادهم. - هذا دور الدولة، أليس كذلك؟ < بكل أسف، فقدنا الثقة في الأحزاب التي تعد مكونا رئيسيا في بناء الدولة. مرة، كنت قلت، في تصريح تلفزيوني، إن المغاربة فقدوا الثقة في الأحزاب، الثقة المتبقية في 60 حزبا من القرآن الكريم. - لماذا تكن عداء ظاهرا لجميع الأحزاب؟ < لقد التقيت بالمواطنين في مناطق متفرقة من المغرب: في مرزوكة وقلعة السراغنة وتارودانت وسيدي قاسم، في الشرق والغرب والجنوب، دائما نفس الجواب من البسطاء: «الله يجازي الملك.. مديها فينا وكيفكر فينا، لكن المنتخبين كيكذبوا علينا». الآن أصبحت الأحزاب تفضل استقطاب الأعيان بدل المثقفين من الأطر التي تخرجت من مدارس عليا في أوربا. فالأكيد أن هؤلاء الأعيان سيشترون الأصوات ليصعدوا إلى كراسي الجماعات والبرلمان. هل يعقل أن يضيع منتخب ملايين الدراهم من أجل مقعد انتخابي فقط للدفاع عن حقوق المواطنين الذين انتخبوه؟ - لكن المواطن هو من يصوت على رئيس الجماعة والبرلماني، إذن فالمسؤولية يتحملها المواطن أيضا؟ < من يرسل «لقطاطعية» إلى الجماعات وإلى البرلمان هم الأحزاب أولا، عار أن يتكلم زعيم حزب عن الديمقراطية وهو يعرف، كما يعرف الناس، أن التزكيات توزع بالمال وأن شراء الأصوات متواصل، ثم هل الأحزاب المتواجدة اليوم، القديم منها والجديد، لديها القدرة على المشاركة في بناء المغرب؟ المنتخبون يتسابقون من أجل الظفر بالمناصب، أنظر كيف يتنافسون على رئاسة اللوائح. أنا أقول للفاعلين في جميع مناحي الحياة، إن خدمة الوطن لا تحتاج إلى لقب، فإذا أردت أن تدافع عن مصلحة البلاد فإنه يمكنك أن تفعل هذا من أي موقع، وليس بالضرورة من مقر الجماعة أو البرلمان. أنا أتساءل عن دور الغرفة الثانية.. إنها تكلف البلاد ميزانية تقارب 15 مليارا من السنتيمات في السنة، علما بأن نسبة حضور الجلسات لا تزيد على 10 أو 20 في المائة، باستثناء نسبة الحضور التي تسجل في افتتاح البرلمان، فباعتبار أن ملك البلاد يكون حاضرا فإنه لا أحد يتخلف عن الموعد، «بحال طاير بكر». البرلماني يملك الحصانة ويتوفر على «غريمات»، وأقل من 10 في المائة من نواب الأمة هم الذين يقومون بدورهم في تمثيل الشعب، والباقون تكون لهم مصالح خاصة مع السلطة، فكثير من البرلمانيين يتقربون إلى العمال بالكذب، حيث يوهم أحدهم عاملا بأنه اتصل في مقر مجلس النواب بالوزير الفلاني وحكى له عن مجهوداته والصعوبات التي تعترض مشاريع العمالة. - أليست هذه هي أفكار بعض المعارضين؟ < بعد أن حصل المغرب على الاستقلال، كنت أتجاذب أطراف الحديث مع المهدي بنبركة، وقلت له إننا بصدد تكريس مقاولات الهدم، فهناك من يدخل المعارضة فقط من أجل هدم الآخر، بحيث إذا قال وزير معين إن هذا الشيء أبيض اللون انبرى هو للقول: لا إنه أسود، والعكس صحيح، لأن المعارضة بالنسبة إليه هي معارضة الآخر أي الحاكم، ماذا تنتظر ممن يشتري الأصوات وينتقل إلى قبة البرلمان بطرق غير مشروعة؟ هذا ليس له الحق في الكلام والدفاع عن قضايا المجتمع. بعد كل هذا يطرح التساؤل: لماذا بدأ الناس يفقدون الثقة في البرلمان؟ الجواب أن المعارضة، في شكلها الحالي، تنفر الكفاءات وتبعدهم عن تدبير الشأن الوطني والمحلي. إن ملك البلاد يراهن على التشبيب، ولكن إذا بلغ الملل بهذه الكفاءات حدا لا يطاق وقررت الهروب بعيدا عن العمل السياسي، فمع من سيشتغلون؟ - معنى هذا أن الملك غاضب بسبب الوضع السياسي الراهن؟ < كنت أعرف ملك البلاد منذ أن كان أميرا ووليا للعهد، كان متابعا للملفات. وحين تقلد المسؤولية الجسيمة ظل، طيلة العشر سنوات الفائتة، يفتح الورش تلو الآخر ويجوب البلاد من أجل خدمة المواطن البسيط. فأنا أكره أصحاب السؤال النمطي، فئة العدميين، الذين يتساءلون ما الذي أنجزته الحكومة في عشرة أعوام وما الذي فعله الملك وماذا وماذا؟ أنا أقول من هذا المنبر: ماذا فعل هؤلاء العدميون وماذا قدموا إلى البلاد؟ للأسف، ليست الأحزاب وحدها من تنتقد بل حتى الجمعيات، فجمعيات المجتمع المدني أصبحت تتناسل بشكل غريب حتى تحولت إلى أصل تجاري. إذا كانت الأحزاب هي أساس الديمقراطية، فكيف تريد من شخص يبيع التزكيات أن يكون ديمقراطيا؟ الملك هو من أبدع سياسة القرب، لكن بعض السياسيين يمارسون النضال السياسي ليس في الأحياء الشعبية بل في الفنادق والصالونات وبالمرسيديس الفاخرة والسيغار، لقد ظللنا نحارب هذا السلوك منذ عهد الاستعمار إلى الآن. - لكنك دخلت دائرة التنافس حول مقعد برلماني ومثلت آسفي في قبة البرلمان، حدثنا عن هذه التجربة؟ < الإخوان في آسفي، وعلى رأسهم عبد الرحمن الشقوري، طلبوا مني دخول التجربة الانتخابية، فاستجبت للالتماس بعد إلحاح كبير منهم، قلت لهم إنني لا أفهم شيئا في اللعبة الانتخابية، رغم أن لي حكاية مع الانتخابات، حيث طلب مني حزب القوات الشعبية المشاركة في أول انتخابات في مدينة آسفي، فكان جوابي واضحا وحاسما: وضعت رهن إشارة السفياني، الذي رشح بدلا عني، سيارتي وعبرت له عن استعدادي لدعمه في هذه التجربة. حين اقترح علي الإخوان الترشح في آسفي فضلت أن أدخل التجربة كمحايد، لكن الداخلية أصرت على إلزامية الانضواء تحت لون سياسي، لذا كان من الطبيعي أن أنضم إلى حزب، فالتحقت بالأحرار. وخلال الحملة الانتخابية، لم أوزع المال على الناخبين، بل كنت أزور البوادي، وألتقي بالسكان بعد أن يعدوا وجبات الكسكس، وكانت تلك أول مرة أتناول فيها الكسكس ب«فنيد المكانة» الذي يباع في الأسواق الشعبية. بعد نجاحي في الانتخابات، قضيت عاما كاملا من الملاحظة والتتبع، وحين بدأت أبدي ملاحظاتي في مداخلات حارقة في إطار اللجان، همس البعض في أذني ليطالبني بتليين مواقفي، لكنني رفضت وقررت الانسحاب في صمت.