القاعدة هي أن السماء وحدها هي التي تمطر، لكن المفارقة المدهشة هي أن بعض المحاكم أصبحت تمطر أيضا. الفارق هو أن السماء تمطر غيثا، لكن بعض المحاكم أصبحت تمطر ملايين من السنتيمات. أما وجه الشبه –كما يقول البلاغيون- فهو أن مطر السماء جرف قناطر ومنازل ومواشي وأرواحا بشرية، في حين أن المطر القضائي الذي هطل بالملايين الستمائة، مضافا إليها إثنا عشر مليونا من السنتيمات كغرامة للخزينة، يريد أن يجرف جريدة بمحرريها وعمالها بجرة قلم –ويالها من جرة- وبصفتي محاميا رافعت في عشرات الملفات إلى جانب عدد من الصحف، لم يسبق لي أن صادفت حكما قضى بتعويضات فاق فيها الكرم القضائي كرم حاتم الطائي، بما في ذلك الأحكام التي صدرت ضد الصحف الوطنية في سنوات الجمر، الشيء الذي يجعلنا نضع علامة استفهام ضخمة، أمام الحكم الصادر في حق الزميلة «المساء». وبحكم التجربة، فقد كنا نلاحظ نوعا من التاكتيك القضائي، في ملفات جنح الصحافة، حيث تصدر محاكم الدرجة الأولى أحكامها كما تشاء، لكن تلك الأحكام تقع مراجعتها من طرف محاكم الدرجة الثانية، إما بالإلغاء أو بالتخفيض من التعويضات، وهذا ما كان متبعا في الغالب. وقد كنت أظن أن مغالاة محكمة الدرجة الأولى في التعويض الذي قضت به، سوف تعدله محكمة الدرجة الثانية، لكنها مع الأسف الشديد أيدت الحكم الابتدائي فصدق المثل الشعبي القائل: «حرث الليالي، بحال اللول، بحال التالي». ويحتاج المرء إلى غير قليل من السذاجة، لكي يصدق أن الأمر ليس سيناريوها محبوكا، لقتل جريدة ذنبها أن لها خطها التحريري الخاص. وعلى ما يظهر فإن كاتب السيناريو –بلغة السينمائيين- ليس سوى سيناريست مبتدئ، ولذلك لم تكن الغرزة متقنة، فجاء الفيلم رديئا بما فيه الكفاية، وزاد من رداءته –ربما- خروج الممثلين عن النص. والمصيبة أن الخيوط انفلتت من بين أصابع محركيها، فأصبح الجميع أمام فيلم حقيقي آخر، من نوع أفلام الواقع، أنتجته بتلقائية الأقلام الحرة والمنظمات الحقوقية، وعدد من المسؤولين السياسيين وجمعيات المجتمع المدني المتضامنة، عنوانه «الفضيحة». إن الشريعة السمحاء تحض على ستر العورة، وما العمل وقد اختار البعض أن يفججنا في ما لا يذكر. لا أحد قال –بما في ذلك زملاؤنا في المساء- إن الصحافة والصحافيين فوق القانون. ونحن مع القانون، لكن هذا الأخير يصبح آلة هوجاء، إذا لم يتحل بالإنصاف. وبدون أدنى شك، فإن الحكم المذكور مجرد عن الإنصاف بكل المقاييس، حينما قضى بتعويض يقترب من المليار سنتيم، إذا أضفنا إلى 600 مليون سنتيم كتعويض مدني، مبلغ 12 مليون سنتيم المحكوم به كغرامة لفائدة خزينة المملكة الشريفة. ويزداد اقتناعنا بأن الحكم غير منصف، إذا استحضرنا أن الجريدة قدمت اعتذارا لمن يعنيهم الأمر. وعلى كل حال فإذا سلمنا بأن هناك خطأ ما، فإن الخطأ ينبغي ألا يعالج بخطإ آخر أشد وطأة منه. لقد عهدنا أن القاضي الجزائي كالطبيب، مهمته العلاج، ودواؤه الإنصاف، لكن البعض –وأقول البعض- جعلنا نصدق المثل القائل «طبيب الصحة، مريض بالكحة». ماذا تريدون أيها السادة؟ هل تريدون إلقاء تحية المساء على «المساء»، بما تعنيه تلك التحية من دعوة إلى النوم؟ وبلغة شيخنا قدور، هل تريدون أن تقولوا لزميلنا نيني: «سير تنيني»؟ إنكم واهمون، فلن تزيدوا بما أقدمتم عليه الأقلام الحرة وأصحابها إلى صحوة ويقظة، وجرأة أيضا. إن ما يحز في النفس، هو أن الأقلام الحرة التي تتصدون لها بطرق ملتوية، هي نفس أقلامنا التي دافعت، وستظل تدافع عن إعطاء صفة السلطة المستقلة للقضاء، بدل النص في الدستور على عبارة مجردة ومقصودة تنص فقط على أن «القضاء مستقل» دون وصفه ب«السلطة» على غرار السلطتين التنفيذية والتشريعية، المقرونتين في نفس الدستور بوصف «السلطة» لكن مع الأسف الشديد، وقع لنا ما يحكي عنه المثل الشعبي: «جا يعاونو في حفير قبر باه، هرب ليه بالفاس». وختاما، فإن العبد لله يعلن تضامنه مع زملائه في محنتهم، ويحس بنفس الألم الذي يعتصر قلوبهم، لأنه كما قال الشاعر: لا يعرف الحب إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها فعسى أن يبادر «أولو الألباب» إلى إصلاح ما أفسده التهور، والسلام على من اتبع الهدى. < عن «الأحداث المغربية»