«ليس ثمة سياسة هيغيلية، ولم يكن هناك قطعا سياسي هيغيلي» لويس ألثوسير: قراءة الرأسمال أصدر المكتب السياسي لحزب الاشتراكي الموحد بيانا بشأن السجال القائم على خلفية دفاتر التحملات في وسائل الإعلام السمعية البصرية. ونظرا إلى كون البيان قصد إيضاح موقف الحزب، بعد أن انتظر الجميع نقاش اليساريين لهذا الموضوع من موقع فكري وسياسي يضمن إعادة الاعتبار إلى مفاهيم اليسار في نقاش طويل خاضه اليساريون في صراعهم على مستوى النقاش الإيديولوجي وتنظيراتهم الرائدة لموقع وسائل الإعلام في ثنايا وإشكالات ومسارات الصراعات الطبقية، فقد جاء (البيان) ترديدا لآلية يتيمة في إنتاج البيانات تحيل على الإدقاع العام الذي أصاب اليسار. فقد رأى المكتب السياسي لهذا الحزب أن «هذا السجال الدائر لا يدور بين دعاة «الحداثة» ودعاة «الهوية» كما يحاول البعض إيهام الرأي العام به»، بل يرى المكتب السياسي لهذا الحزب دائما أن الصراع يدور «بين إرادتين لا ديمقراطيتين». ويفصل البيان في هذا الشأن أكثر، قائلا إن هناك «إرادة حكومة العدالة والتنمية والراغبة في فرض هيمنتها على وسائل الإعلام العمومية» والإرادة المقابلة التي هي «إرادة جناح من اللوبي المخزني الذي ظل مسيطرا على هذا القطاع ومتحكما في توجهاته خارج أية محاسبة أو رقابة برلمانية أو حكومية أو شعبية»، والإرادتان والتوجهان سالفا الذكر -حسب البيان دائما- «يتعارضان مع المشروع الديمقراطي الحداثي المتنور والمنفتح، ويمثلان تهديدا له». ويفصل البيان أكثر في هذا القول -مادامت عملية الحوصلة هي مضمون البيان- بالتذكير بأن جناح اللوبي المخزني «ظل مسيطرا على وسائل الإعلام السمعية البصرية ووظفها لخدمة الاستبداد والفساد وتسييد الرأي الواحد ونشر الوعي الزائف»، فيما جناح حزب العدالة والتنمية يروم من خلال حكومته «فرض هيمنتها على هذه الوسائل لنشر فكر ماضوي يتعارض مع قيم العصر، ومع التعددية السياسية». بينما البديل الذي صاغه البيان لكل هذه الجوقة القائمة، وهو «المطلوب»، يقوم -باختصار- على «وضع الأسس القانونية الضامنة لحرية الإعلام واستقلاليته ودمقرطته»؛ والسبيل إلى ذلك -وباختصار دائما- «عبر دفاتر تحملات تضمن الحق في الاختلاف وتعدد الآراء وتكافؤ الفرص، وحق المغاربة في المعلومة والخبر». وما يبدو أنه جديد في طرح هذا الحزب يقوم على تحويل «الوسائل السمعية البصرية، الممولة من أموال الشعب، من وسائل رسمية إلى وسائل عمومية حقيقية». وباختصار كذلك وحتى لا أطيل بدوري، فإن باقي الكلام هو تفسير لغوي للجملتين الأخيرتين، لينتقل البيان إلى رسم الشروط والظروف التي يجب أن تقوم حتى يتناسب الإعلام مع «دفاتر تحملات تضمن الحق في الاختلاف وتعدد الآراء وتكافؤ الفرص، وحق المغاربة في المعلومة والخبر». وهذه الشروط يعددها البيان في تسعة إجراءات لا تستوي بدورها كإجراءات قابلة للكينونة والتحقق إلا بتوفير الشرط العاشر الذي يأتي في البيان على رأس تلك الشروط كشرط أول، بوصفه المدخل لباقي الشروط، إذ هو في حقيقته شرط الشروط، لأن به تتحقق باقي الشروط، ألا وهو توفر «مناخ ديمقراطي تحترم فيه حرية الرأي والتفكير والتعددية السياسية والفكرية والحق في الاختلاف ودمقرطة وسائل الإعلام العمومي وتحقيق استقلاليته عن سلطة الوصاية ومراكز النفوذ ولوبيات الفساد». إن هذا المطلب يقوم بالدور الذي تلعبه الخطيئة الأصلية في علم اللاهوت، إذ أكل آدم التفاحة، وهكذا ارتكب الخطيئة التي أدخلته إلى العالم والتاريخ. إن هذا المدخل الشرطي المفعم بلغة السياسة يحيل باقي الشروط إلى مستتبعات مطلبية نقابية بسيطة تجدها مندرجة ضمن رزنامة مطالب النقابات العاملة في المجال الإعلامي، ويصبح الشرط الرئيسي هنا بمثابة شرط واجب الوجود في لغة الفلاسفة، لذا سيأتي تناولي لهذا البيان من حيث كونه تقليدا طويلا لآلية إنتاج مواقف أقفلت باب التفكير والاجتهاد والبحث والتجديد بإحالة جميع القضايا المرجو حلها ومعالجتها إلى ما بعد الحاضر القائم، مما أحال مناضلي اليسار وقواه المفكرة إلى جماعات مرجئة. إن تصارع قوى مختلفة اليوم، للهيمنة على الإعلام العمومي، يدخل في إطار الصراع العام بين الفئات المجتمعية الطامحة إلى الهيمنة على مواقع النفاذ إلى المجتمع، لتيسير تدفق مضمون خطابها الإيديولوجي بين فئاته، وعملية التوصيف هذه لا تضيف جديدا عندما لا تخرج الشيطان من ثنايا التفاصيل وتبقي خطابها ضمن ما هو مطلوب عموما، وهو المتمثل -حسب البيان- في «وضع الأسس القانونية الضامنة لحرية الإعلام واستقلاليته...»، مع رهن هذا المطلوب سالف الذكر أيضا بشرط أن يتوفر في يوم ما من المستقبل «مناخ ديمقراطي تحترم فيه حرية الرأي والتفكير والتعددية السياسية والفكرية والحق في الاختلاف... إلخ». وكان المطلوب من حزب من حجم الاشتراكي الموحد أن يتخذ موقفا منفتحا على شروطه، واعيا بالموضوعة من حيث أبعادها المتعددة، معيدا النظر في بداهاته، موسعا آفاق التناول الحصري للإعلام، ملما بنصاب المقال. إن وسم القوتين المتصارعتين اليوم حول الإعلام في المغرب بالإرادتين اللاديمقراطيتين كتعرية للخلفية التي يختبئ خلفها العنوان الذي أطر المواجهة بينهما، بالإشارة إلى أنه صراع يروم من جهة دعاة الحداثة، ومن جهة مقابلة دعاة الهوية، وذلك بهدف تبرير انكفاء الحزب والانزواء بعيدا عن هذا الصراع، في انتظار أن يتم مستقبلا إنضاج شروط أخرى بديلة يتوفر فيها شرط المناخ الديمقراطي، هو إعلان عن إفلاس فكري وسياسي يحاول إدانة الحاضر باسم مستقبل موضوع وضعا، دونما تماس مع الواقع يتجاوز التماس اللفظي؛ فبإلغاء الآن الذي هو موضوع السياسة ومادتها، وبإلغاء اليوم نظريا، فإنه على المستوى العملي يتم تسليمه إلى أصحابه الفاعلين فيه ليتصرفوا فيه، وفي التصرف في الآن وامتلاكه عمليا يعاد تنميط المستقبل موضع الرهان العام لليسار؛ فاعتبار اليوم والآن بخصائصه المستقلة الدالة عليه لا يبدو بالأمر الهام فعلا بالنسبة إلى أصحاب البيان، ذلك أن الشرط الذي يشترط وضعا مستقبليا ليس في ارتباطه باليوم بل باعتباره دليلا للمستقبل واستباقا لما هو آت وما هو حق، لا يتحقق إلا بحضوره كبرنامج عمل في الآن وفي اليوم، فالرغبة في الانفكاك من إسار الآن الرديء بإدانة الآن أو بتأجيل اليوم وتحييده نظريا باسم مستقبل ماض متحقق في التاريخ الإنساني العام، تتم عمليا بإلغاء الفاعليات المعينة للمجتمع والتناقضات التي تحكمه لصالح نظام يتم تحديد نقاطه المرجعية لصالح غائية طاغية ترى أن التقدم هو موضوع التاريخ، ومن ثمة يصبح الحاضر والآن مدانا قياسا عليه. وأيضا وفي نفس الوقت لصالح حاضر يحدد فحواه من هو قادر على تحديد هذه النقاط ومحتواها، مع ترك مجال الفعل مفتوحا لأي فاعل قادر. كما أن تحليل الواقع تبعا لضرورات هذا التصور، إن لم يكن دائما تبعا لصريح قوله، هو حالة وسم وشهادة تؤدي مهمتها بتجرد وتترك القرار لصاحب الأمر المستمسك باللحظة الراهنة والمتمثل في غلبة سياسية للتيارات الإسلامية السلفية، والنتيجة إخلاء الحاضر وإفراغه لتقوم بملئه والدلالة عليه القوى الفاعلة فيه. ففي مواجهة الآن وتحولاته وانشباكاته وحيله وتشنجاته، يحضر اليوم مجرد نقطة عبور بين واقع مرتبك مختلط القيمة وغير صاف، تجري الإشارة إليه لفظا، ومستقبل ناجز، فيتم تغييب واقع الآن بجعله نقطة عبور فارغة؛ فليس الآن موجودا في نتائجه بالمستقبل، وليس اليوم مجرد ملحق بالآتي، بل اليوم مرتبط بما يزامنه ويأخذ فحواه ومداه من وضعه في إطار أترابه من المسببات وعلاقته بها، فليس المستقبل مضمون اليوم بل مضمونه تشكله، وتشكله يتم في مجال السياسة اليومية ودقائقها، لذا قال لينين، وهو رجل مجرب لمطاب السياسة، «إن المواقف توزن بميزان بيض النمل»، فالسياسة موضوع التحالفات الظرفية ودقائق الموقف الذي من المفترض أن يرتبط بالمعطى المادي الحاصل لا بإدانة الحاضر أو التوسل بالمستقبل. عزيز قنجاع