ليست الأزمة السورية مستعصية على الحلول إلا إذا نقلنا النظر من ظروفها الذاتية إلى ما هو خارج مجالها الإنساني والواقعي المباشر، فحين انطلق شباب الانتفاضات الأولى ضد الإذلال المستديم، لم يكن داريا بأية قوة أخرى خارجة عن غضبه. لم تكن الهبة الجماعية نتيجة تخطيط من قبل أحد. هذه البداية هي الخاصية الفريدة التي سوف تميز الربيع العربي مادام طقسا طبيعيا نابعا من لحم أصحابه؛ فليس ثمة ربيع حقيقي مستفاد من أرض ومنبت غير تربته الأصلية فحسب. لقد تطورت الانتفاضات والصدامات الأولى بين الشبيبة وزبانية السلطة حتى تحولت إلى تيار عارم، لم يلبث أن أصبح ثورة شعبية جذرية وشاملة. كان تطورها ذاك كفيلا حقا بتنمية طاقات متنوعة كميا وكيفيا، تمنحها شراييَن حياةٍ وصمود وتفاعل، تؤهلها لأن تكون هي عقلها المنظم وجسدها المقاوم. كانت الثورة تبني بسرعة فائقة كلَّ الأسس المطلوبة لسيادتها على مصيرها. ومن أهمها أساسان، هما الصمود والاستقلال، فكان النظام القاتل متخما بصلف لا حد له، يجعله واثقا كل الثقة بقدرته على القمع، مادام لا يضع له حدودا قانونية أو أخلاقية؛ بالمقابل، لم تكن تنطفئ مساحة تفجير حتى تنطلق ساحاتٌ أخرى، فالصمود ليس فعالية سلبية فقط، إنه لا يستنفد طاقة محددة إلا ليولد طاقة أخرى أقوى. على العكس من القمع الذي لا يزيده فشلهُ إلا وحشيةً أشد وأقسى، لكنها تنكشف على اللاجدوى والعبث المتجدد من محاولاتها الدموية المجنونة، فهل نقول إن النظام والثورة قد أصابهما معا الإنهاك، وإن أحدهما ينتظر أن يسبقه الآخر كيما ينسحب بعده من الحلبة. غير أن المشكلة أنهما لم يعودا وحدهما اللاعبين علي مسرح الحدث السوري، وبالتالي يكاد يخرج مصير الصراع من بين أيديهما معا، سوف تتغير دلالات النصر أو الهزيمة إلى درجة يتغير معها وضعُ حدّ لسفك الدم، إذ يغدو منطق القتال في حد ذاته متخطيا أحيانا لقرارات المتورطين في وعثائه؛ هذا إن لم تصبح ساحاتُ المواجهة غاصةً بمختلف المتدخلين، مجهولين أو معروفين. وفي هذه الحالة من تصاعد الاشتبكات الملتبسة بين أصحاب القضية والمتطفلين على هوامشها إلى درجة الوصول حتى متونها، لن تكون الثورة هي المتضررة وحدها من تزاحم الأضداد حولها معها، أو رغما عنها، بل إنه الشعب نفسه، صاحب القضية وحارسها الأول، من هو سيكون عليه أن يفصل بين قضيته تلك، وبين (إنجازاتٍ) باسم الثورة عن حق أو بهتان. وهذه الإنجازات هي ما تكون غالبا الأقرب إلى الانكسارات لفترة تطول أو تقصر، وإنها بالغة التكاليف بشريا ومدنيا؛ لكن وحدة الشعب والثورة هي المسؤولة، في شتى الأحوال، عن تبرير التكاليف بمدى التقريب بين نتائجها الآتية، والمحصلة الأخيرة المنتظرة لكلية الثورة، إنها الثقة المطلقة بصلاحة أهداف الثورة ومشروعية أسبابها، تلك التي تُرخص كلّ غال بدءا من حياة المناضل وسلامه الوظيفي والاجتماعي من أجل حرية الأمة وكرامتها. قد يكون التدخل الأخطر وليس الأهم فقط، هو فرض المجتمع الدولي أبوَّته الزائفة على ثورة الفتوة السورية، أغرب ما في السلوك الدولي هذا هو أن انحيازه الظاهري إلى جانب الثورة لا يحرج أو يزعج النظام بقدر ما ينأى بأصحابه عن أي إجراء حاسم يهدد بقاءه. وفي الوقت عينه تعمل هذه المبادرات الدولية، وآخرها خطة أنان، عن قصد أو بدونه، على تبريد حمية الفعل الثوري وانتزاع وكالة الثورة عن ذاتها وتسليمها إلى عالم الإدارات البعيدة المشغولة أولا بمصالحها؛ فليس ضعف المعارضة لأنها بدون مؤسسات أو قيادات تاريخية حتى الآن، ليست مشتتة بسبب من ماضي نشأتها في ظل القمع، ومن حاضر المنافسات الشخصانية والقيادية بين أركانها وكل هذا وارد، لكن هذا الانزلاق الكبير إلى ما تحت الاستقطابات الدولية جعل قراراتها متضاربة في ما بينها، وواقعة في المستويات الثانية والثالثة، وحتى الأخيرة، من استراتيجيات حكام العالم. والحقيقة الأصلية في كل هذا الذي يحدث لأوطاننا العربية منذ تفجر باكورة الربيع هو أن الانتفاضات لم تصارع عروشا مهترئة، من سلالة مركّب الاستبداد/الفساد المحلي وحده، إنه الربيع العربي الذي يقاتل شتاءً كونيا، مُدلهمّا بظلاماته الرهيبة المتجذرة، وينجح في إسقاط بعض العروش، لكنه أخيرا يصاب بأعراض الاستعصاء في منازلة العرش الدمشقي، كأنما ليست هذه الظواهر سوى مداخل محلية لمناوشة أصحاب العروش الكبرى ما وراء الحدود. يُخطئ من يعتقد، من بعض معلقي الصحافة العربية، أن تمهل الغرب إزاء المافيا السورية الحاكمة، كان ترددا أو نأيا بالذات عن مستنقعات الدم التي يراد لها أن تزدحم بكل وحوش الفوضى والإرهاب والمقتلات الأهلوية، ليس تقاعس المجتمع الدولي عن الحسم مربوطا فقط بالبحث عن البديل السلطوي المقبول، خيفةً من الاستئثار السلفي ومشتقاته بمستقبل الشام، هذا البلد الفسيح العريق الذي هو بمثابة جوهرة العقد الشرق الأوسطي، لذاته ولقارة العرب والإسلام والهندوس حتى سور الصين. هنالك ثلاث خارطات جيوسياسية متزاحمة على استيعاب مشرق العرب والفرس والترك، كأنما لم يعد هذا المشرق عربيا خالصا، بل عائدا إلى تراثه التاريخي، كجغرافية للأديان السماوية الثلاثة، وللإسلام خاصة؛ فالمشرق إسلاميا حضاريا تكاتفت على بناته أمم ثلاث، العرب والفرس والترك، هؤلاء جميعا، مضافا إليهم الكرد، يتقاسمون مجالا حيويا واحدا، ويكاد يكون متجانسا في كثير من ملامحه الجغرافية ومكوناته البشرية ومزاياه الحضارية ونائقص كل هذه الخانات كذلك. وأيضا، هم جميعا يودون إعادة كتابة حاضرهم ومستقبلهم بأفضل ما كان لهم في ماضيهم المشترك، وبأبعد ما يمكن عن أسوأ انحرافاته السابقة. هذه هي الخارطة الأولى والتي يمكن اعتبارها ذات أصول عائدة إلى مرتبة أنطولوجية تأسيسية، لكن الخارطتان الثانية والثالثة لن تكونا من مستوى هذه المرتبة، وإن كانت لكل منهما فعالية الحراك السياسي المنعكس عن إيديولوجيات نهضة شاملة، أو مجردة، غير متفق على تحديد شخصيتها المفهومية إلا من خلال صراع هائل مع منهجيات دولتية طامحة إلى زرع زعامات إقليمية ذات سرعة أحادية، منطلقة من الواحد أحد في القمة نحو الآخرين (الشعوب) في القاع، وليس العكس أبدا. ويمكن القول إن هاتين الخارطتين، الثانية والثالثة، إنما تخصّان امتزاج السياسي بالعقائدي ضمن الإقليم الجيوسياسي المباشر، وضواحيه القارية الأخرى. فالأمم الثلاث، العرب والفرس والترك، عائدة إلى المسرح العالمي، وكل منها حامل لمشروعه النهضوي المختلف، وإن تغطت جميعها تحت عباءة الإسلام، مما يسمح بالقول إن لكل أمة فهْمَها الخاص للدين الواحد الذي تتعدّد مذاهبُه، ومن ثم تتنوّع تأويلاته بحسب التوجهات السياسية السائدة في محيطه الاجتماعي والثقافي. غير أن الإشكالية المركزية التي تعصف بتيارات الفكر والسياسة معا في جو هذا المشرق المتسع لأمم متعددة متنافسة على زعامة حضارة واحدة، هي أن هذه المشاريع النهضوية الثلاثة لا تزال فاقدة للحظة المواجهة الصريحة مع الحقيقة، لما يمكن أن يسمى بثورة التنوير؛ بحيث يتم التمييز المفهومي في الإسلام بين طقوس العبادات في تراثه، وآفاق المعرفة والحق في حضارته. في المجال الأول ذاك تصول وتجول الِملل والنِّحل، وفي المجال الآخر ترتقي الجماعة إلى مستوى عقل العصر الذي تعيش تحت أحكامه، شاءت أم أبت. أين موقع الربيع العربي من لحظة التنوير هذه، فالثورة من أجل الحرية لم تعد شعارا مجردا. أثبتت قدرتها على تحريك الجماهير العظمى، أخرجتها من قوقعة الكتل المهملة، جعلتها تُمسك بإرادة التغيير في كل ساحة، وبعد أن أنجزت مهمات شبه مستحيلة، قوّضت عروشا فرعونية وطغيانية فريدةَ نوعها، ها هي تعاني حصارا رهيبا من ازدحام نقائضها الأهلوية والأجنبية معا، في الميادين الشامية، حيثما يكاد يتقرر هناك مصير «الربيع العربي» كطقس كوني جديد في ثقافة التنوير، وليس كحدث سياسوي لهذا الشعب أو لسواه فحسب. من هنا، ينبغي البحث عن علة هذه الاستعصاءات وتزاحمها الخبيث على سد منافذ الحياة أمامها، تمهيدا للشروع في الانقضاض على براعمها وتشويه طبيعتها، وذلك مثلا بتسليط أعدى أعدائها عليها، ما بعد النظام، وهو المتمثل في الإرهاب الدخيل الطاعن في ظهرها. هنالك، في غياهب التخطيط الغربي من يعتقد أن إنجاز تحرير الشام سوف يقلب ركائز تلك الخرائط الثلاث المستقرة من دهور، مما يعني أن إنجازات ربيع الأطراف سوف يغدو ربيعَ المحور الأنطولوجي للمشرق وضواحيه الإسلامية. فأنْ يحكم شعبُ الشام نفسَه بنفسه لأول مرة منذ الفتح العربي، لا يريد أحد الاعتراف بدلالة ذلك الحدث؛ إذ في حال تحققه، لا بد لأهم عباقرة الاستراتيجيا العالمية أن يعمدوا إلى إعادة ترتيب أولويات أساسية في أحد أخطر قطاعاتها العملية. ثورة الشام إما أن تكون حقيقية وجذرية، نظيفة من التحريف والاستغلال، وإما أن تطوي صفحاتِها الراهنة، لتأمل في فتح صفحات أخرى بيضاء أنقى وأبقى في تاريخ مستقبلي آخر، فهي اليوم لم تعد تنازل مجرد عصابة مافوية محتلة لمفاصل الدولة.. إنها تكشف نظاما دوليا متهالكا يخترق لاشعوره المرضي نوعٌ من فَزَعٍ طاغٍ، من لحظة تحول الربيع العربي إلى ربيع عالمي؛ فالصهيونية تقرع أجراس الإنذار في كل مكان من عواصم الغرب.. إنها تنعق بنُذُر عواصف هائلة إن تمّ نَسْفُ الخرائط البالية الجاثمة على صدور العرب والإسلام. تحرّر الشام لن يُسقط جولةً أخيرة لمشروع الشرق الأوسط الأمريكي العتيد فحسب، بل لعله سينسف كل الأصول العميقة والقديمة، المتكفّلة بتصدير سلالة من أمثاله السابقة واللاحقة. لذلك لن ينهي الغرب «الأزمة» السورية إلا عندما تتقهقر الثورة، بعد أن تنكسر أعلى أجنحتها البيضاء، لتنحدر هكذا دون أضعف منطلقاتها الأولى، حين تسهل في هذه الحالة إعادةُ إنتاج دورة جديدة من أنظمة قمع متخفية وراء أعلام ثورة منقضية من دون آثر إلا بقايا لون الدماء. هل هذا هو المصير المحتوم أم إن الربيع له مواسم أخرى؟