المشرق العربي، هذه الجغرافية الساحرة المسحورة، هو مبعث الأحداث الموصوفة بالقومية التي أعطت للنهضة المعاصرة وجهَها السياسي ومؤثراته الإقليمية والدولية. كان ذلك منذ أن أنهت شعوبُه تاريخَ الاستعمار الأوربي، انطلاقا من تحرر أقطارها تباعا من الاحتلالين البريطاني والفرنسي. ولعلّ دمشق وبغداد وبيروت، ومن ثم القاهرة، هي التي تبادلت أو تخاطفت في ما بينها مهمات المبادرة في صنع التحولات المفصلية لتاريخ ما يزيد على ستة عقود حافلة من أمجاد هذه النهضة، سياسيا على الأقل، ومن عثراتها أو سقطاتها المدوية كذلك. دمشق، عاصمة الإمبراطورية العربية الإسلامية الأولى، اكتسبت عصريا لقب قلب العروبة النابض، ليس تيمنا واعترافا بماضيها التليد ذاك، لكنها أمست أيضا من رواد حاضر العودة العربية إلى مسرح العصر، بل يرى الجيل المخضرم أن دمشق كانت الرائدة المتميزة في إنتاج ونشر مفاهيم وشعارات الموجات (الثورية) المتلاحقة، خاصة خلال الربع الثالث من القرن الماضي. ولربما ساندت تلك الموجات بالتنظيمات الشعبية التي سرعان ما تخترق حدود الأقطار الأخرى المجاورة والبعيدة، فليس ثمّة حقبةُ حراكٍ سياسي بارز عمَّ المنطقة، لم تكن منطلقةً من الساحة الدمشقية وحاملة لمفاعيل تواقت تحولاتٍ متناظرة، متنقلة من عاصمة إلى أخرى. فنحن لسنا هنا بصدد تاريخ حدثي سياسي لمقطع عرضاني من قصة بل مسرحية النهضة، ومن مدخل قطري (شاميّ) فحسب. لكن لا بد، لفهم الخارطة الخلفية لتحولات العصر النهضوي الراهن، من استحضار أدوار رئيسية لعاصمتين أو ثلاث، وأولاها عاصمة الشام الدمشقية، في إنتاج تلك المسرحية عبر أطوارها الثلاثة، من الإعداد والإخراج إلى التمثيل الخاص بالبطولات الرئيسية. النظام السياسي الحاكم في أي بلد إنما يستوحي تاريخ البلد وجغرافيته وشخصيته مجتمعة، مهما كانت طبيعة هذا الاستيحاء، فهو ليس إراديا، أي قد لا يتقصّده أصحاب النظام، لكنه يؤثر في توجهاتهم العامة المنعكسة خاصة على علاقتهم الضمنية بأحوال الحدث الاجتماعي من حولهم. حتى لو أوغل النظام في تلافيف خلايا ذاتيته، فإنه مضطر إلى مدّ جسوره مع الصالح العام بأية طريقة كانت. من هنا يسهل القول إنه ليس من موجة سياسية عمّت الوطن العربي، مشرقا ومغربا، إلا وكانت الشام هي المنطلق، وهي النموذج، وهي الحاضنة، ومدرسة الرعاية الأولى للموجة ولأفكارها، ولتيارها القيادي والقاعدي المبادر. غير أن بلد المنشأ في اللغة الاقتصادية، محتاج إلى أسواق ترويج واستهلاك لبضائعه، وإلا لانتفى هو ومصانعه. لذلك لم تستطع دمشق، عبر مختلف انعطافاتها الثورية والقومية.. والليبرالية أخيرا، أن تفكر السياسة، أن تؤدلج هذا المذهب أو ذاك، أن ترسم استراتيجية القرارات واتخاذ المواقف، أن تحارب أو تهادن.. لم تستطع، ولا تقدر، أن تحكم قطريا إلا وكان الفعل الدمشقي ينبغي له أن يكتسب اسمَ الفعل العربي. هذه (المعيارية) ليست اختيارا سلطويا، بقدر ما تكون نوعا من الالتزام الكياني ما فوق الالتزام السيادي بالدولة والسلطة وحدهما، وما فوق المصالح الذاتية للحكّام أنفسهم كذلك. وفي زمن انغلاق المرحلة الاستقلالية من صيرورة النهضة المعاصرة، بعد السقوط الثاني لبغداد بيد الأمريكي الإسرائيلي، هولاكو العصر، ودخول الوطن العربي، مشرقا ومغربا، تحت مظلة الاستعمار الجديد للقرن الواحد والعشرين، لم تبق إلا الشام وحدها تكافح للبقاء النسبي خارج مظلة العمْ سام ونجمة داوود السوداء، كان عليها أن تحافظ على ذاكرة الاستقلال العربي الضائع. هكذا حدث الانفصال مجددا بين ثقافة النهضة والواقع القومي المتردي إجمالا، والمتعارض في شتى مظاهره اليومية مع أبسط بداهات العقل الإنساني النظري والأخلاقي معا، وليس فقط إزاء آمال التحرر والعدالة والمساواة. لقد استقال النظام السياسي الحاكم عامة من أقل ما يعنيه مبدأ الأمن القومي. خلال حقبة الجنون الإمبراطوري الأمريكي، حكمت إدارة بوش، بواسطة أصغر موظفي خارجيتها وعملائها المحليين، دوائرَ السلطة العربية العليا في معظم عواصمها المفتوحة أبوابها على مصراعيها للموساد الإسرائيلي مصحوبا دائما بأرتالٍ من سماسرة المال العربي المنهوب، والإعلام الكذوب، والتنمية اللصوصية العلنية. ما بعد سقوط الاستقلال الوطني النسبي والمجزوء والمشوه إجمالا، عاشت السياسة العربية أسوأ لحظات انقلابها المسعور والغبي على ذاتها، انخرطت في إطلاق زوابع الإنكار والصَّلف الصبياني، في تقديم براهين الآراء الخرقاء والأفعال اليومية المبتذلة، ضد مصداقية الكرامة العادية لشعوبها، وليس الكرامة البطولية لأي مشروع نهضوي عظيم، عَفَتْ عليه رمال الصحارى الموبوءة بجراثيم النفط وأوحاله. وبينما تسابقت الأنظمة لتبرئة نفسها من بقايا ما علق بها من (شبهات) العروبة ومفرداتها ورموزها، كان السلطان الأمريكي على وشك الإطاحة بها جملة وتفصيلا، بدءا من كبارها قبل صغارها، بحجة إعادة صياغة مجتمعاتها ديقراطيا وحداثيا، طبعا تحت إشراف الخبراء من منظري (الفوضى البنّاءة) وعسكرها. يقال إن شعلة الإمبراطورية (البوشية) قد اختنقت بدخان لهبتها الأخيرة، وإن جحافلها قد اصطدمت بأسوار شفافة، غير مرئية، قائمة في تلافيف القارة الإنسانية للعرب والإسلام، لا يعرفها حتى أهلوها... هكذا: هزيمة العراق قد هزمت العسكرتاريا الأمريكية. وبقية المشرق الفاقد لاستقلاله السياسي على مستوى حكامه، أفقدت مقاوماتُ البعض من شعوبه زمامَ المبادرة، السياسية والعسكرية معا، من أيدي أمريكا وإسرائيل، فهما اليوم تعانيان العجز عن رسم استراتيجية دفاع عن أواخر مراكز نفوذها أو بقائها في المنطقة، بعد أن استنزفت وسائل هجومها التقليدية والمستحدثة الجهنمية (بالقتل الجماعي والتدمير الحضاري). غير أن هذا العجز الاستراتيجي سوف يسوّغ استنجادا باطنيا بمنظومة الحلف الأطلسي استعدادا لحرب عالمية (دفاعية؟) سوف يشنها شمالُ المعمورة الأبيض على جنوبها الأسمر. باسم المدنية العلمانية ضدا على الظلامية الشرقية والإسلامية تحديدا، كما يدّعي. فالغرب الذي يبشر كبار مفكريه بانتهاء عصره الذهبي على الأقل، يلجأ إلى عادته الكونية القديمة بإعادة تقسيم العالم (مانويا) إلى ثنائية البشر الأخيار المتمدنين والبرابرة الأشرار المتخلفين. وفي تاريخ الجولات الدموية لهذه الثنائية المؤسسة لصميم المشروع الثقافي الغربي، لم يتغير هذا التصنيف المانوي، لكنه تغطّى دائما بالألفاظ الإنسانوية الكبرى. كانت الجولة ما قبل الأخيرة الراهنة تحمل شعار الصراع ضد الشيوعية، حيث تم اتهامها وإدانتها باعتبارها العدو الهمجي للديمقراطية. فلم يمض سوى عقد واحد على انهيار هذا العدو، وينعم العالم بعده بشبه وحدة ظاهرية، حتى استثمرتها اقتصاديات العولمة الزائفة لصالح الرأسمالية التي كانت إنتاجية، ثم أمست مالية صيرفية خالصة. وقد كان يمكن للغرب، ولأمريكا خاصة، خلال عقد العولمة المنصرم، أن يساهم، ولصالحه أولا، في تطوير العولمة من جهاز جبار خادع لامتصاص ثروات الأمم وصبّها في خزائن الأقلية من أرباب الصناعة المالية، تطورها إلى مدخل نحو عصر الإنسانية المتكاملة بفعل توازنات قواها الطبيعية، بحيث تغدو قادرة على مواجهة الكارثة العظمى المتمثلة في موت أمنا الأرض، هذا المصير الكارثي المطلق الذي لن يبقى بعده أحد يخبر عنه، وعمّا كان من مقدماته وأسبابه الإجرامية العظمى، المانعة لكل كشفٍ عن حقائقه المهولة، والممعنة على العكس، في مراكمة قواه التدميرية لذاته وللعالم، إلى ما لا نهاية، وصولا إلى اندراس صيغة الوجود والعدم، لبقاء العدم وحده. هذا الشطح إلى آفاق النهايات المطلقة، لم يعد يخلو منه حوار فلسفي أو ما فوق علمي معمق، منشور في كتاب رائج أو مبحوث في ندوات النُّخَب المفكرة ولقاءاتها المتواترة، هذه الأيام الكئيبة، على شاطئي الأطلسي. ذلك أن التهديد النووي الذي حكم حقبة الحرب الباردة بين عملاقي الأدلجة الرأسمالية والاشتراكية، قد انزاح ليحل مكانه التهديد البيئي المحتوم، لكنه المحجوب كذلك وراء مصطلحات آخر جولة للثَّنَوية المانوية، وراء التجييش الغربي المعولم ضدا على إسلام إفريقي آسيوي، يراد لأوطانه أن تكون الساحات المتفجرة بمختلف الصراعات الدموية والبنيوية، فتلعب بالنسبة إلى بعضها أدوار الجسور النارية المتواصلة في ما بينها، والمتجهة شرقا دائما إلى العمق الآسيوي حتى سور الصين العظيم، حيثما قد ينخرط مستقبلا عمالقة الشرق الأقصى في شبكيات من تناقضات تراثاتهم من الأعراف والعقائد، والثارات القديمة الدموية والمستحدثة في ما بينهم، كخلفيات أدلجية للمنافسات المتعاظمة بين رأسمالياتهم الصاعدة مع وضد بعضها من جهة، وإزاء رأسمالية الغرب المهددة بالموت البطيء، لكن هذا السيناريو الكارثي الشامل قد يتغير إلى ضده، وذلك في ما لو استطاعت ثروات المال الإسلامي الفلكية تحويل استثماراتها نحو شرقها بدلا من التغرّب في بلاد أعدائها، وإحلال صيغ من التكامل الحضاري والاقتصادي المعبّرة عن روح الشرق الحقيقية، كجوهر ثقافي موحد لآسيا، أعظم قارات العالم حجما بشريا وحضاريا.. ومن ثم يصير حداثيا لن يُضاهىَ بسواه. وبعد، هل يمكن التفكير في مدخل استراتيجي ما لهذا العصر الآسيوي المختلف! قد يكون المشرق العربي هو البوابة المفترضة أو المنتظرة. والفاتحون الثلاثة، الجُدد والقدامى، من أمم الإسلام التاريخي، العرب والفرس والترك، لعلّهم هم الذين سوف يصنعون السلام الحضاري أولا في ما بينهم، لكي يكونوا روادا لسلام آسيوي ثم عالمي، ينقذ أمّنا الأرض، قبل أن يقتلها أولادها العَاقون.