قد يكون أعلى عناوين الربيع العربي أنه يمنح لثوراته فرصة جديدة عظيمة في أن تكون ثوراتٍ للتحرير السياسي والتنوير النهضوي في وقت واحد. فإذا كان يسارنا الصاعد باحثا عن منطلقه المبدئي، فلتكن هديته لذاته أولا هي النهوض بأعباء ثقافة التنوير، بعد أن مارس «الفكر العربي» أساليب المراوغة مع هذه الثقافة طيلة حقب الثوريات الفوقية العابرة، فقد أضاعت النهضتان الأولى والثانية فرصا رائعة في اختراق حصارات القمع العقائدي. كانت تتهيّب المواجهات الصريحة المباشرة مع حراس هذا القمع، إذ كانت لا تملك البدائل الجديرة بوراثة الأوهام الشعبوية المتغلغلة في تفاصيل المعيش اليومي للجماعيات والفرديات، وفي الوقت عينه لم تكن تعبأ بالحقيقة القائلة إنه لا جدوى من اختراق نضال سياسي دون أن يؤصِّله ويرافقه نضالٌ تنويري. والتنوير هنا هو على طرف نقيض من أساليب الدعاية والتعبئة الشعارية المألوفة التي دأبت على الاستغراق في وُحولها مذهبياتُ التحزّبات اليساروية، سارية المفعول حتى أيام الربيع الراهن، فهي لا تريد أن تتخلى عن مفاتيح الفهم والتحليل الصدئة. سوف تظل أبواب الواقع مغلقة في وجهها إن لم تخترع مفاتيح من جنس المشكلات التي تفجّرها سردياتُ الثورات الدموية والسلمية معا. وعليها أن تشرع في ذلك، قبل أن يطرأ عليها التنميط والتحوير من عوامل التدخل الخارجي في شؤونها، وتحميلها شعارات معكوسة تماما على أهدافها الأصلية. من طبيعة كل ثورة أنها تطرح عنصر القوة كعامل رئيسي ومحوري في نجاحها أو فشلها، ورغم أن الغضب الشعبي المشروع هو وقود الثورة، فإنه يحتاج سريعا إلى نوع من عقلنة التنظيم المتحكّم في منطقه نظريا وعمليا معا. وتلك هي المهمة الافتتاحية لفكر يساري حار مشارك ومصاحب ليوميات الحدث الثوري، يشتغل من داخله وليس من هوامشه أو ضواحيه البعيدة، وحتى القريبة؛ فقد لا يضيف هذا اليسار إلى قوة الشارع قوة أخرى بقدر ما يجعل قدرة الشارع واعية بتجاربها اليومية، وأصعبها، ولا شك، هو استنباط مؤونة متجددة لذخيرة الصمود الإنساني، كأصل للصمود النضالي، كالحال في الربيع السوري مثلا الذي يواجه كل ساعة أوحش وحوش البطش كلها، إذ يصبح الصمود هو القلب الذي يضخ دماء الحياة والوجود، مبقيا على ديمومة الحراك الثوري، منتصرا على مختلف الفجائع والخسائر البشرية والمدنية التي يلحقها به عدو فاقت فظاعاتُه كلَّ أمثالها البربرية. من كنز هذا الصمود الاستثنائي ينبغي للتنوير النهضوي أن يشتق حروفية أبجديته الأولى، جاعلا من النهضة ذاتها امتدادا اجتماعيا وحضاريا لثورة عقلانية تتسلح بأدوات النقد المعرفي، تمارسه في سلوكها هي مبدئيا، قبل أن يكون موجها فحسب إلى تحولات السياسة مفصولة عن حواملها البشرية الفعالة، التي هي الجماهير في كل شأن عمومي. هذا لا يعني، في النموذج السوري تحديدا، أن الصمود تحول إلى أسطورة، بقدر ما أن إيديولوجيا الصمود المتداولة في سرديات اليسار القديم قد عفت عليها ثورة الصمود الحقيقية أخيرا. هذا المنعطف يتطلب إعادة نظر شاملة لا يمكن لأية تأويلات طبقوية أو قوموية أن تلتقط دلالاته بيسر وسهولة، حتى إن مفهوم (الكتلة) قد يحرم قوى الشعب الثائرة من مؤونة الانفعال بإنسانيتها أولا. هذا هو السر الأعمق لمصطلح ثورة الحرية، عندما لا يمكن لأي تعريف أن يختزله، بل هو الذي يختزل التعريفات الجاهزة، ويدفع بالطلائع، غير المعروفة بعد، من ثوار القاعدة، إلى المحافظة على مبدئية الفعل قبل البحث عن تسمية مصطلحه. قد يعتقد بعض الفكر الماركسوي، على الطريقة العربية القديمة، أنه إذا لم تكن الثورة طبقية في أسبابها وفي محصلة نجاحها، فإنها سوف تصبّ في صالح أعدائها الطبقيين هم كذلك. هذه الحلقة المفرغة من تدوير المصطلح الواحد حول نفسه، من زوايا مختلفة، قد عفا عليها فكرُ الحياة اليومية المتجددة التي لا تعرف حدودا مرسومة، وتظل أقرب إلى منطق صُدَف التاريخ، أكثر من أن تكون من حتمياته المفروضة على ثقافة ما فوق صيرورته الذاتية، لعل الربيع العربي سوف يُتحفنا بظاهرة عصرية، لن تنفع في فهمها وتحليلها والبناء عليها أيةُ منظومةٍ نظريةٍ جديدة، إن لم تتسلح بالبراءة العقلانية قبل أية نزعة تنميط أو تأطير يجعل المضمون خادما للشكل المفروض، وليس العكس. قد يكون العقل العربي هو المكلف، قبل كل عقل آخر، بأن يشرع في تنويره لأهم ما حدث لشعوبه في هذا العصر، أن يكتشف حريته الذهنية وهو يتعايش مع إنجازات ثورة مهددة ليست بأحابيل الخطف والتحريف السياسوي فحسب، ولكن بما هو أشد تشويها لحقائقها، عندما يجعل البعضُ من حطام الشتاء الماضي أبنيةً شوهاء لحصار مواسم الربيع الوليد.