يحتاج العمل كمخبرة لدى السلطات الإيطالية إلى وساطة من قبل مغربيات لهن تجربة طويلة في الميدان. اقترحت علينا «ليلى»، (اسم مستعار لمخبرة مغربية) مرافقتها للقاء صديقة لها تعمل معها في الجهاز نفسه بعدما اطمأنت إلى أن هدفنا هو «العمل» لا غير. ولأن الخطوة الأولى تكون هي العمل كمترجمة لدى السلطات الإيطالية وبعدها يمكن التدرج للعمل داخل الجهاز، فلم يكن اللقاء سهلا.. توجس وريبة تبدو على ملامح صديقة ليلى، التي أجابت بحدة ونصحتني بالعدول عن الفكرة، عندما سألتها ليلى حول إمكانية التوسط لي للعمل ك«مترجمة» لدى السلطات الإيطالية، خصوصا أنني أتقن اللغة الإيطالية، وبعد ادعائي أنني لا أملك أوراق الإقامة وأن ظروفي المادية صعبة للغاية، إذ قالت صديقة ليلى بانفعال: «أش بغيتي تْديري بهاذ الخدمة؟.. فيها غير المشاكل».. قبل أن تواصل حديثها قائلة إن هذا العمل يبدأ بالترجمة وينتهي بالتجسس والتنصت على الهواتف المحمولة.. وحين استفسارها عن طريقة التنصت على الهاتف، نفت معرفتها بذلك، على اعتبار أن هذه «التقنية» تدخل في اختصاصات الجهاز، وهو أمر محاط بالسرية، مضيفة أن مهمتها تقتصر على تزويد الأمن الإيطالي بأرقام الهاتفية للمشتبَه فيهم. حاولت التهرب من إتمام الحديث في نفس الموضوع وفتحت بابا أفضى بنا إلى الموضوع ذاته، حينما سألتنا سؤال استنكاريا حول الفضيحة المدوية التي كانت وراءها الراقصة المغربية المعروفة ب«روبي غيت»، التي أسقطت برلوسكوني، قائلة بالحرف: «المغربية روبي نموذج فقط لما تفعله المغربيات في إيطاليا».. قبل أن تنبه إلى مسألة «خطيرة» عندما قالت «من يدري؟ قد تكون قضية برلوسكوني مجرد تصفية حسابات سياسية وتم استعمال المغربية روبي من جهات معينة كورقة لتحقيق بعض الأهداف والمصالح»!.. في إشارة واضحة إلى أن هذه الفضيحة التي اهتزت لها إيطاليا قد تكون هناك جهات معينة هي التي حرّضت عليها «روبي».. لم تشأ صديقة ليلى الغوص في تفاصيل هذا الملف ونصحتني بالابتعاد عن هذه «المهنة» وأنه من الأفضل لي العمل في أي مجال إلا مجال الترجمة، الذي يؤدي، حتما، إلى العمل لدى الاستخبارات الإيطالية، لتختم حديثها بالقول: «كيطمّعونا ويوحّلُونا».. رن هاتف صديقة ليلى واستأذنت لحظة، قبل أن تغادر المكان، وبعد أن أنهت مكالمتها طلبت من ليلى الالتحاق بها إلى «المقهى المعروف»، دون ذكر اسمه.. بعد الفشل في إقناع صديقة ليلى بأن تتوسط لي للعمل كمترجمة، كانت الفرصة مواتية لتحكي ليلى قصتها مع بدايتها في العمل «الاستخباراتي»، الذي قالت إنها لم تختره طوعا بل كرها، نظرا إلى ظروفها الاجتماعية المزرية وإلى وضعيتها غير المستقرة في إيطاليا، بعدما قدِمت إليها من المغرب باحثة عن الاستقرار المادي. في الفترة التي أعقبت وصولها إلى إيطاليا، كانت تقطن مع أحد المغاربة بشكل سري، بعدما وعدها بمساعدتها في إيجاد عمل، فاقترح عليها العمل بوثائق مزورة باسم سيدة أخرى مقيمة في إيطاليا، في انتظار الحصول على أوراق الإقامة.. اشتغلت بهذه الطريقة وقضت بضعة أشهر في العمل «النّوارْ» مع أحد الإيطاليين «أشفق» عليها. تمكنت من تعلم اللغة الإيطالية بسهولة، لكونها تجيد اللغة الفرنسية. تحكي ليلى عن التجربة الأولى التي باشرت فيها العمل الاستخباراتي، حيث كانت تعيش في بلدة غير بعيدة عن مدينة بولزانو وتعرفت على إيطاليّ أخبرها أن إحدى الدوائر الأمنية تبحث عن مترجمات مغربيات.. ترددت في البداية، لكونها لا تتوفر على أوراق الإقامة، إلا أن رفيقها طمأنها وشجعها على ذلك، فرافقته إلى الدائرة الأمنية. كانت نفسيتها جد متوترة، خشية أن يكون الأمر فخا للإيقاع بها بهدف ترحيلها إلى بلدها. بعد دخولها إلى الدائرة الأمنية، عرّفها المواطن الإيطالي على أحد المسؤولين الأمنيين، «أمطرها» بسيل من الأسئلة المتعلقة بحياتها الشخصية، وكأنها أمام امتحان... لزمت ليلى، في البداية، الصمت قبل أن تجيب بهدوء عن كل بعض الأسئلة وتتحفظ بخصوص أخرى، إلا أن المسؤول حاول، بطريقته الخاصة، إقناعها بقبول العمل معهم. طلبت منه مهلة للتفكير، قبل أن تغادر المقر. أخبرها أنه مستعد لتقديم أي مساعدة في ما يتعلق بالأمور الإدارية، وهي إشارة واضحة فهمت منها ليلى أنه نوع من الابتزاز لتحفيزها على قبول الفكرة، خاصة أنه اقترح عليها، «كبداية»، مبلغ 1000 أورو كأجرة شهرية. ولما استفسرتهم عن طريقة عمل المترجمات، كان ردهم أنها من تتكلف بترجمة جميع المحاضر التي يحررونها وبشكل حرفي، كما أنها تساعدهم في فهم مضمون التصريحات التي يدلي بها المغاربة الموقوفون، الذين لا يتكلمون الإيطالية. كما يتم تفريغ التسجيلات الصوتية، إنْ وُجِدت، لأنها بمثابة حجة «قاطعة على المتهم، إذا ما حاول إنكار التّهم الموجهة له. ونظرا إلى الظروف المادية القاهرة التي تعيشها ليلى ووضعيتها غير القانونية، اختارت العمل إلى جانبهم، فطُلِب منها انتحال صفة سيدة أخرى خارج مقر العمل، غير أنه مع مرور الوقت، بدؤوا يطلبون منها أمورا أخرى، تتعلق بمرافقة رؤساء العصابات الذين يتاجرون في المخدرات القوية ومتزعمي شبكات العصابات الإجرامية المنظمة، لمعرفة جميع المعلومات المتعلقة بهم وبالأشخاص الذين يتعاملون معهم ومصدر حصولهم على تلك المواد. تضيف ليلى أن السلطات الأمنية الإيطالية تطلب من المغربيات، في البداية، أن يعملن مترجمات، إلا أنه مع مرور الوقت يكتشفن أن العمل لا يتوقف عند هذا الحد، فيصبحن «جاسوسات» لديهم ويتقمصن أدوارا تعرّض حيواتهن للخطر. لإبعاد شبهة التجسس عنها، قالت ليلى «الحيلة حْسن منْ العارْ» إذ إنها تلجأ، في بعض الأحيان، إلى الاستعانة ببعض المنحرفين الذين دخلوا إيطاليا سرا أو تعتمد على بعض العاهرات، حيث ينقلون لها المعلومات الكافية حول بعض العناصر ويُمكّنونها من الحصول على أرقام الهواتف. وقالت ليلى إن عدم اقتناعها ب»العمل» الذي تؤديه جعلها تحاول، قدْر الإمكان، الابتعاد عن المشاكل، كمقابلة المبحوث عنهم أو مروجين المخدرات وغيرهم، حتى لا تُعرَف في أوساطهم ويكيلون لها الصّاع صاعين، خاصة أنهم أصبحوا يُشكّلون «مافيا» خطيرة يصعب ضبطها. وتضيف المتحدثة نفسها أنها أحيانا تلجأ إلى تغيير «اللوك»، حتى يستعصي على «الضحايا» التعرف عليها، كوضع شعر اصطناعي أو عدسات لاصقة وتغيير الصوت، وغيرها من الإحترازات الضرورية، تجنبا لأي مشكل قد ينتج عنه عزم المجرمين الذين تتربص بهم على «الانتقام» منها، والذي قد يصل حد التصفية الجسدية.. اقترحوا عليها مبلغ 20 ألف درهم قصة عواطف كباقي الأخريات اللواتي تحاول جهات إيطالية إقناعهن بالعمل كمخبرات، والتي يكون الطريق الأسهل للوصول إلى ذلك هو «الترجمة». قالت عواطف، في تصريحها ل«المساء»، إنها مقيمة في إيطاليا منذ أزيد من 20 سنة وإنها، مباشرة بعد حصولها على الجنسية الإيطالية، حاولت السلطات الأمنية إقناعها بالعمل معها وتقديم عروض مغرية، حيث اقترحوا عليها أجرا ماديا محددا في 20 ألف درهم مغربي، مع الاستفادة من بعض الامتيازات. ونظرا إلى جرأتها في التعامل وتمتعها بلياقة بدنية جيدة، فقد استوفت «الشروط» التي يتطلبها هذا «العمل»، إلا أنه رغم المحاولات المتكررة، تؤكد عواطف، رفضت بشكل مطلق العمل مع هذا الجهاز، الذي قالت إنه «يقتات» من فقر المهاجرات المغربيات ويحُط من كرامة بعضهن، عندما يصل إلى الأمر إلى حد إجبارهن على ربط علاقات غير شرعية للوصول إلى معلومة. وأضافت عواطف أن مبادئها لا تسمح لها بأن تكون جاسوسة ضد أحد من بني جلدتها، خاصة أن الكثير من المعاناة يقتسمها المهاجرون في ما بينهم، كالغربة وغيرها ومشاكل الحصول على أوراق الإقامة والأمثلة كثيرة. وواصلت عواطف قائلة: «شْنو غادي نستافد إلى بْرككتْ على ولد البلاد؟».. كلام كررته لأكثر من مرة، واعتبرت أن كل المغربيات اللواتي تعرفهن شخصيا واللواتي يشتغلن كمترجمات أو مخبرات أو غير ذلك، غير راضيات على ذلك، وأغلبهن يعانين، في ما بعدُ، من أمراض نفسية، من جراء تأنيب الضمير، خاصة إذا كانت السببَ وراء الزج بأحد المغاربة في السجن أو وراء ترحيل آخرين. بعد صمت طويل، واصلت عواطف حديثها قائلة: «الطالياني ما تنتظرش منو الخير»، لأن هذا العمل بدوره لا يضمن مستقبل أحد، إذ بمجرد الوقوع في الخطأ، قد ينقلب السحر على الساحر.. قاطعتها «المساء»، طالبة منها شرح هذه النقطة والمقصود بها تحديدا، فردت قائلة إن هذا العمل يعجب الكثير من المغربيات في البداية، إلا أن نسبة الوقوع في الخطأ كبيرة.. واستدلت بمثال على ذلك يفيد أن الترجمة غير الدقيقة أو إيصال معلومات مغلوطة حول الشخص قد يُفهَم منها أن المخبرة أو المترجمة تحاول التستر عن المجرم، وبالتالي إبعاد التهمة عنه.. إلى جانب تعرضهن للإهانة من طرف العامة، حيث يلقبونهن ب«بركاكات البوليس»، بل الأدهى من ذلك رغبة الضحايا في الانتقام من «المخبرات»، مشيرة إلى أنه ليست النساء المغربيات وحدهن من يشتغلن مع الأجهزة الأمنية الإيطالية، بل حتى المغاربة الذكور يفعلون، لكنْ بنسبة أقل مقارنة مع النساء.. وعادة ما تقتصر مهامهم في نقل الأخبار العامة، كتلك المتعلقة بالمساجد المعروفة في إيطاليا باسم المراكز الإسلامية الثقافية، علاوة على الأسواق الشعبية والفضاءات العمومية، التي تعرف تمركز المهاجرين المغاربة بشكل كبير، كما هو الحال في جنوب إيطاليا وفي بعض مدن الشمال. ويشكل عمل النساء في هذا المجال تهديدا خطيرا عليهن وعلى أسرهن، وفق تصريح عواطف، إذ «كثيرا ما نسمع عن «اختفاء» مغربية أو وفاتها في ظروف غامضة أو اختطافها.. فهذه الأمور لا يمكن أن تأتي من فراغ، بل بدوافع يرجح أن تدخل في إطار تصفية حسابات».. علاوة على ذلك، أكدت عواطف أن عددا من المغربيات كُنّ لا يتوفرن على وثائق الإقامة، وبفضل احتمائهن بالأمن مقابل «إيصال التبركيكات» إليه، استطعن الحصول عليها. واصلت المتحدثة كلامها قائلة إنها تعرف عناصر من الأمن المدني، وينصحونها، كثيرا، بعدم مناقشة بعض القضايا في الهاتف، لأن الأمن يراقب المكالمات ويتجسس على المهاجرين، كما هو شأن بعض الإيطاليين، إذا تبيّنَ لهم أنه يزاول أنشطة يحظرها القانون.