يدين الجنرال فرانسيسكو فرانكو للمغاربة بأشياء كثيرة، لذلك كتب في وصيته أن يحرسوا قبره بعد مماته، بل حتى وهو يمتطي صهوة مجده وقوته آثر أن يكون حراسه مغاربة خلال سنوات كان لا يثق فيها في أبناء جلدته الإسبان، بلباسهم السلطاني كانوا يمشون خلفه ممتطين خيولا مغربية أصيلة، لذلك ظل يربط فرانكو بالمغرب حبل سرة قديم، لفهم طبيعته لابد من ركوب آلة الزمن للعودة إلى الوراء. هناك عقدة في حياة فرانكو ورثها عن عائلته، فهو الفرد الوحيد الذي لم يلج سلك البحرية، في عائلة اشتهرت بالخدمة في سلك البحرية، فعندما رأى النور في لاكورونيا في 4 ديسمبر 1892، رآه قبطانا في البحرية وهو المسار الذي اتخذه أخوه نيكولا فرانكو إسوة بباقي أفراد العائلة، بيد ان القدر-كان ماكرا بطريقة ثعلبية عندما صادف بلوغ فرانكو سن ولوج المدرسة البحرية إقفال هذه الأخيرة لأبوابها ما بين عامي 1906 و1913، وهنا عاكس الشاب رغبة والده واختار ولوج الاكاديمية العسكرية لمدينة طليطلة عام 1907 التي تخرج منها برتبة فارس بعد ثلاث سنوات من الدراسة فوق المقاعد العسكرية. سيلتقي قدر فرانكو بالمغرب، عندما قررت إسبانيا الاستعمارية أن تبدأ فعليا في وضع يدها على المغرب، وهو ما تسبب في مواجهات ضارية مع القبائل الريفية الرافضة للاستعمار والتي تجمعت فيما بعد تحت راية محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي كان مدرسا ثم قاضيا في مدينة مليلية ومكنه قربه من الإسبان من فهم طريقة تفكيرهم، وفاجأ الخطابي الجيش الإسباني بحفنة من المجاهدين لقنوه درسا، فخاف الجنود على أرواحهم وحاولوا الهرب واصطدموا ببعضهم في منظر مضحك، فكانت معركة أنوال التي مازال يصفها الإسبان بالكارثة، لكن شراسة المقاومة الريفية ستساهم في سطوع نجم فرانكو كضابط محنك أدار المعارك بحكمة وثبات لفتا الأنظار إليه، خصوصا أنه نجا في إحدى هذه المعارك بأعجوبة بعد إصابته إصابة بليغة ليشتهر في صفوف زملائه برجل البركة، ولم يتأخر كثيرا حتى أصبح قائدا في الجيش الإسباني، وهي الرتبة التي وصلها في سن صغيرة وجعلته مميزا بين أترابه، وعندما أسست إسبانيا الألوية الأجنبية عاد فرانكو إلى المغرب بعد فترة خدمة قضاها في شبه الجزيرة الإيبيرية، ليصبح أحد المسؤولين الرئيسيين عن هذا الجناح من الجيش الإسباني عام 1923، وهو العام نفسه الذي تزوج فيه من المرأة التي ستصبح رفيقة دربهن وهي كارمن بولو التي سيرزق منها بابنته مارية ديل كارمن عام 1926 التي لم يكن عرابها شخصا آخر غير الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر، لذلك كان حب ابنته للملكية ظاهرا وقويا. ومباشرة بعدما عين كولونيلا في الجيش، سيقود فرانكو إنزال الحسيمة الشهير عام 1925، موازاة مع حملة الجيش الفرنسي من الجنوب، وهو ما سيضع حدا لجمهورية محمد بن عبد الكريم الخطابي وسيمكن إسبانيا من دق آخر مسمار في نعش المقاومة القبلية لوجودها في شمال المغرب. بعد شهور قليلة على إخضاع الريف عين فرانكو جنرالا في الجيش، وراج وقتها أنه أصغر جنرال في أوروبا، لكن أحداثا جديدة ستقلب حياة الجنرال الشاب رأسا على عقب أهمها نجاح يمين الوسط في انتخابات 1934 وبروز حركة معادية لهم مثيرة للشغب احتلت استورياس وتم قمعها بقسوة وكان فرانكو من ضمن الذين تكلفوا بهذه المهمة، وبعد التوصل إلى اتفاق بين الجبهة الوطنية اليسارية المشكلة من الحزب الجمهوري الشيوعي والجبهة الوطنية اليمينية المكونة من المحافظين المتطرفين ستجرى انتخابات جديدة عام 1936، وكان وقتها فرانكو قد صار رئيس أركان الجيش، والتي أعطت فوزا هامشيا لليسار بيد أن الانتخابات تلاها الشغب، مما اضطر فرانكو إلى محاولة التحكم في الوضع عن طريق إعلان حالة الاستثناء بيد أنه وجد نفسه فجأة منفيا إلى جزر الخالدات وتحت قيادته كتائب صغيرة، ونظرا لحالة الاستياء التي كانت تعم الجيش بدأ فرانكو يحضر لانقلابه من المغرب الذي خبره خلال سنواته الأولى في الجندية، واستطاع بعد معارك ضارية أن يفرض سيطرته على إسبانيا لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ البلاد، كان هو رمزها الرئيسي طيلة أربعة عقود. اهتم فرانكو بعد استتباب سلطته ببناء إسبانيا الممزقة، وحاول مركزة كل شيء في العاصمة مدريد، مثلما قمع الحركات اليسارية بقوة والتي فربت رموزها إلى الخارج هربا من آلة بطشه، بنى دولة بوليسية لتعذيب الموالين للمعسكر الشرقي، ورأت فيه الولاياتالمتحدة نصيرا لها ضد تحول إسبانيا إلى معقل للشيوعيين واليساريين والفوضويين، خصوصا أن فرانكو منحها قاعدة عسكرية في جنوب البلاد. ورغم طابع الديكتاتورية الذي طبع فترة حكمه بيد أنه جنرال إسبانيا القوي حرص على إرساء البنيات الاقتصادية واستقطب الأمير الشاب خوان كارلوس دي بوربون الذي اهتم بتربيته وتعليمه بقربه تحضيرا له ليكون خليفة له بعد وفاته، خصوصا مع تقدمه في السن، ونشوب خلافات تراكمت مع مرور الزمن مع دون خوان الذي كان يعد وريث عرش آل بوربون ووالد الأمير خوان كارلوس. ومثلما كان صعود نجم فرانكو مرتبطا بشمال المغرب، فإن أفوله كانت أيضا له علاقة بهذا الجار المتعب، فبينما كان على سرير الموت كانت جحافل المغاربة تجتاز الأسلاك الشائكة صوب الصحراء، وكان الجميع منشغلين باحتضار الجنرال القوي وقرب طرد الجيش الإسباني من إحدى آخر مستعمراته في شمال إفريقيا. الماريشال أمزيان... جنرال إسبانيا المسلم لعل من اللحظات الصعبة التي لن ينساها لويس بلاناس، منذ تعيينه سفيرا للتاج الإسباني لدى المملكة الشريفة، هي تلك التي عاشها بعد توجيه سهام الانتقادات له إثر حضوره حفل تدشين متحف للماريشال أمزيان الذي دخل تاريخ إسبانيا كأول جنرال مسلم، فالعسكري الريفي لم يتردد في حمل السلاح ضد أستاذ قديم درسه في مدينة مليلية اسمه محمد عبد الكريم الخطابي، وبعدما اخمدت الثورة الريفية، شمر عن ساعده وجمع العشرات من المغاربة للقتال إلى جانب الجنرال فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، لذلك بات مجرد ذكر اسمه يكفي لكي يصرخ اليسار الإسباني بصوت عال على أعمدة الصحف الإسبانية، ويكثر في المغرب ترديد، كلمة الخيانة على بعض الألسنة، امزيان بطل في نظر البعض، وخائن في نظر البعض الآخر، ومجرد عسكري ثاقب الذكاء نجح في ما فشل فيه الجميع، أن يكون جنرالا لبلدين يجمعهما تاريخ حافل من الحروب. الماريشال أمزيان هو العسكري الوحيد في تاريخ ضفتي مضيق جبل طارق الذي لبس البزة العسكرية لإسبانيا، ثم نزعها ولبس أخرى مغربية عندما نودي عليه للالتحاق بصفوف القوات المسلحة الملكية بعيد الاستقلال، بل أثار انتباه الحسن الثاني الذي كان يمتلك حاسة شم سياسية قوية وعينه في منصب وزير، ثم حاول الاستفادة من خبرته بطبائع وأسرار الإسبان، وخصوصا نظام فرانكو عندما عينه سفيرا له بمدريد، لكن مهمته كانت قصيرة لم تتجاوز السنة، ما بين 1966 و1967، ربما انتهى خلالها الحسن الثاني إلى أن أمزيان ما زالت تجرفه سيول الحنين إلى تفاصيل حياته الأولى في الضفة الشمالية لمضيق جبل طارق. لفت ذكاء امزيان المتوقد النظر إليه مبكرا، وكان الجميع ينتظر ما تخفيه الأيام المتعاقبة، بعدما فاجأ الطفل الريفي الصغير الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر خلال زيارته إلى مليلية عندما سأله ماذا يريد أن يكون في المستقبل، فأجابه ببرود مثلك يا سيدي، بدت الدهشة على محيا العاهل الإسباني وكأنه لا يصدق أذنيه، ثم اراد أن يتأكد من مقصد الصبي فأجابه هذا الأخير ببراءة، تخفي ما تخفيه، بأنه يريد أن يكون قبطانا في الجيش، كانت للملك فراسته الخاصة، لذلك لم يتردد في تقديم وعد لوالد الطفل أمزيان بأنه سيدخله مدرسة عسكرية بمجرد ما يبلغ سن السادسة عشرة، ولم يخلف الملك ألفونسو الثالث عشر وعده وحقق حلم الصبي الريفي عندما كان أول مغربي ينزع الجلباب القصير، ويرتدي االلباس العسكري وعمره لا يتجاوز 16 سنة خلال العقد الأول من القرن العشرين، بعدما غير الملك قوانين الأكاديمية العسكرية في طليطلة من أجل أن يلجها إليها المراهق المغربي الذي يعد ابن أحد أعيان الريف المغربي، وهو ما شكل أول خطوة في مسار شخصية استثنائية في تاريخ المغرب وإسبانيا. كان عود الماريشال أمزيان الفارع، المجسد في طوله الذي يقترب من المترين وصلابته وضبطه لتقاليد الجندية، عوامل حاسمة في نجاحه وسطوع نجمه خلال قمع الثورة الريفية بقيادة عبد الكريم الخطابي، بيد أن أمزيان ظل يحمل في جسده تذكارا من إخوانه الريفيين عندما جرح في معركة أنوال عام 1921 وهو يحارب ضد استاذه القديم بن عبد الكريم الخطابي، كانت الرصاصتان اللتان أصابتاه قد جعلتاه يدخل المستشفى، حيث التقط له المصورون الإسبان بعض الصور التذكارية، وهو طريح الفراش، وبجانبه يقف والده الذي كان يلقبه الإسبان بأمزيان الطيب، مثلما تظهر صور أخرى زيارة الجنرال فرانكو له في المستشفى، عندما كان هذا الأخير كولونيلا في جيش سلالة دي بوربون. وعندما قامت الجمهورية الثانية على أنقاض تاج آل بربون، وجد فرانكو الشاب أمزيان إلى جانبه يحارب ويجيش أبناء جلدته ليشاركوا في حرب طاحنة لا ناقة لهم فيها ولا بعير، وكان يقود كتيبة من المسيحيين والمسلمين، بل كان واحدا ممن قرروا مصير إسبانيا المسيحية دون أن يتخلى عن دين الإسلام، وانفجرت الأساطير عنه مثل عيون ماء في وسط الجبال، وراج وقتها أنه استطاع أن يسقط طائرة تابعة لليساريين الإسبان بطلقة بندقية، لذلك مازال حقد اليسار الإسباني متوقدا عليه حتى بعد أزيد من ثلاثة عقود على وفاته، مثلما روجت الصحافة الاجنبية وقتها أن الفيالق الوطنية لفرانكو قامت بإهداء نساء إسبانيات لكتائب المغاربة عرفانا بالجميل، وهو ما لم تنس ذكره المؤرخة الإسبانية ماريا روسا دي مادرياغا في كتابها «مغاربة فرانكو». كانت ثقة فرانكو في أمزيان كبيرة، لذلك عينه في مناصب حساسة في الجيش الإسباني، كان آخرها شغله منصب قائد عسكري عام لجزر الكناري مابين سنتي 1955 و1956، قبل أن يستجيب لدعوة الملك محمد الخامس بالالتحاق بصفوف القوات المسلحة الملكية التي كانت بحاجة إلى خبرة ماريشال محنك مثل أمزيان، خبر التقنيات العسكرية في الميدان وشارك في أكثر من حرب ضارية، فطلب أمزيان من فرانكو أن يحرره من قسم العلم الذي أداه لخدمة وطنه الثاني إسبانيا، لتبدأ حقبة جديدة من حياة ماريشال الضفتين. لم يرزق أمزيان بغير ابن ذكر واحد اسمه مصطفى، درس في الأكاديمية العسكرية لسيغوبيا ومات في حادثة سير، وهو الذكر الذي توسط ست بنات كانت زيجاتهن كلها عسكرية، ينتقيها الماريشال بعناية، ما عدا واحدة تزوجت بغير إرادته واعتنقت المسيحية دينا جديدا لها عوض الإسلام، في الوقت الذي كان أحد أصهاره كولونيلا ساهم في التخطيط لانقلاب الصخيرات ضد الملك الراحل الحسن الثاني. وعندما كان الحسن الثاني يحضر بدهاء السياسيين الكبار للمسيرة الخضراء، كان الجنرال فرانكو يحتضر، يموت تارة نصف ميتة ثم يعود إلى الحياة ماسكا بتلابيبها، لكن في النهاية مات فرانكو بعد المسيرة الخضراء بأيام، وكان صديقه القديم الماريشال أمزيان وقتها يعد أيامه الأخيرة، على اصابع يده، التي فضل أن يقضيها فوق سرير إحدى مستشفيات مدريد، حيث غادر صوب الأبدية في هدوء بعد حياة صاخبة، لم يمنع موته من عودة ضجيجها بين الفينة والأخرى.