القضاء يقول كلمته: الحكم في قضية "مجموعة الخير"، أكبر عملية نصب في تاريخ طنجة    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    مجلس النواب يصادق على مشروع قانون الإضراب    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة ...المغرب يشارك في فعاليات حدث رفيع المستوى حول الأسر المنتجة وريادة الأعمال    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    الجيش الملكي يعتمد ملعب مكناس لاستضافة مباريات دوري الأبطال    تبون يهدد الجزائريين بالقمع.. سياسة التصعيد في مواجهة الغضب الشعبي    بركة: أغلب مدن المملكة ستستفيد من المونديال... والطريق السيار القاري الرباط-البيضاء سيفتتح في 2029    حصيلة الأمن الوطني لسنة 2024.. تفكيك 947 عصابة إجرامية واعتقال 1561 شخصاً في جرائم مختلفة    أكرم الروماني مدرب مؤقت ل"الماص"    وزير العدل يقدم الخطوط العريضة لما تحقق في موضوع مراجعة قانون الأسرة    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: أرقام حول المباريات الوظيفية للالتحاق بسلك الشرطة        الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية .. رأي المجلس العلمي جاء مطابقا لأغلب المسائل 17 المحالة على النظر الشرعي        البيضاء: توقيف أربعيني متورط في ترويج المخدرات    آخرها احتياطيات تقدر بمليار طن في عرض البحر قبالة سواحل أكادير .. كثافة التنقيب عن الغاز والنفط بالمغرب مازالت «ضعيفة» والاكتشافات «محدودة نسبيا» لكنها مشجعة    هولندا: إدانة خمسة أشخاص في قضية ضرب مشجعين إسرائيليين في امستردام    المغرب يستورد 900 ألف طن من القمح الروسي في ظل تراجع صادرات فرنسا    جمهور الرجاء ممنوع من التنقل لبركان    وزارة الدفاع تدمج الفصائل السورية    مراجعة مدونة الأسرة.. المجلس العلمي الأعلى يتحفظ على 3 مقترحات لهذا السبب    الصناعة التقليدية تجسد بمختلف تعبيراتها تعددية المملكة (أزولاي)    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث    تفاصيل الاجتماع الأول لفدرالية الصحافة الرياضية بالمغرب    الشبكة الدفاع عن الحق في الصحة تدعو إلى التصدي للإعلانات المضللة        يوسف النصيري يرفض عرض النصر السعودي    إلغاء التعصيب ونسب الولد خارج الزواج.. التوفيق يكشف عن بدائل العلماء في مسائل تخالف الشرع ضمن تعديلات مدونة الأسرة    الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة        عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب        "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفاصيل سنوات الدم والبارود بإسبانيا
نشر في المساء يوم 02 - 11 - 2008

كثيرا ما تعتبر الحرب الأهلية الإسبانية ديباجة الحرب العالمية الثانية، لأنها كانت بمثابة اختبار لقوى المحور والاتحاد السوفياتي، وكانت هي المآل النهائي سنة 1936 بعد استعار الحرب بين الإيديولوجيات السياسية الرئيسية ذات الطابع الثوري والمحافظ.
إسبانيا بدون عرش
تنازل الملك الإسباني ألفونسو الثالث عشر، في سنة 1931، عن عرش آل بوربون بحكم الدعم الهزيل الذي تلقاه في الانتخابات البلدية لتقوم الجمهورية الثانية في إسبانيا التي دعت إلى الانتخابات التي فاز فيها الحزب الاشتراكي الجمهوري العمالي، لتشكل على إثرها حكومة من مختلف المكونات، يساريين جمهوريين واشتراكيين متطرفين، ولتضع الحكومة المنتخبة قوانين ذات أهداف اجتماعية عميقة، بيد أن الفشل في تطبيق هذه القوانين أدى إلى تذمر شعبي كبير عبر عن نفسه في مظاهرات تم قمعها بشكل وحشي، مما تسبب في سقوط الحكومة سنة 1933 والدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها.
واستطاع اليمين أن يفوز في الانتخابات بيد أن رئيس الجمهورية لم يسمح له بتشكيل الحكومة، ثم تشكلت حكومة وسط اليمين التي قامت بإلغاء مجموعة من الإصلاحات التي قامت بها الحكومة التي سبقتها، مما جعل اليسار الجمهوري الكتلاني يعلن قيام دولة داخل الجمهورية، فيما قام اتحاد العمال بإضراب عام في البلاد، مما أدى إلى اندلاع تمرد سنة 1934، استطاعت فيه الحكومة السيطرة على الأوضاع ماعدا في أستورياس التي احتلها الفوضويون الذين كانوا يطالبون بإقامة ديكتاتورية البروليتاريا أو إلغاء التراتبية واعتماد اقتصاد شيوعي ومستقل ولجنة تحكم البلاد، فيما دافع العسكر، على لسان فرانكو، عن دولة توليتارية، أما الملكيون فطالبوا بعودة ألفونسو الثالث عشر إلى العرش.
وهكذا قامت الحرب الأهلية الإسبانية نتيجة الانقلاب على الشرعية الجمهورية الإسبانية في مدريد والذي قامت به مجموعة من العسكر بقيادة الجنرال «مولا» في الشمال، والجنرال فرانسيسكو فرانكو في المغرب، والجنرال «كييبو دي يانو» في الأندلس، وجنرالات آخرين أمثال «أستراي» و«سان خورخو»... والذي على إثره انقسمت إسبانيا إلى «وطنية» بقيادة العسكر الانقلابيين، بالإضافة إلى الفلانخي والريكيتيس وإسبانيا الجمهورية بقيادة الجبهة الشعبية التي كانت تضم الفوضويين والاشتراكيين والجمهوريين والشيوعيين، وبدأ التطاحن الشديد بين كل هذه المكونات.
انطلقت الشرارة الأولى للحرب بتمرد وطني يميني للجيش ضد الحكومة الجمهورية اليسارية، ثم تحول القتال إلى ساحة للصراع الإيديولوجي، شارك فيها أفراد وحكومات من خارج الدولة الإسبانية، وخرج إلى الوجود شكل دموي جديد للحرب أصبح سمة للحروب التي شهدها القرن العشرين بعد ذلك، وأثرت الانقسامات الإيديولوجية على المشاركة الأجنبية في الحرب، حيث وقفت الدول الأوربية ذات الأنظمة الفاشية، وهي إيطاليا وألمانيا والبرتغال وإيرلندا، منذ البداية إلى جانب العسكر المنظم للانقلاب، فيما قدم الاتحاد السوفياتي دعمه للبلد الشيوعي الوحيد في أوربا وحرك ألويته الأجنبية صوب إسبانيا، كما تلقى الجمهوريون دعما من المكسيك التي قامت بها الثورة قبل شهور.
أما الديمقراطيات الغربية، فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، فقررت أن تبقى خارج الحرب تماشيا مع سياسة عدم المواجهة مع ألمانيا وغيرها، ويبدو أنها كانت تفضل فوز المتمردين لكونها لم تكن تر بعين الرضى وجود جمهورية شيوعية في قلب أوربا، لذلك كان بعضها يقدم دعما خفيا للجيش.
وعندما اشتدت وطأة الحرب كانت الوحدات الألمانية والإيطالية تصل لتعزيز صفوف الوطنيين، وهي مؤلفة من طائرات ودبابات ومدفعية، وصلت في البداية ستة آلاف جندي ألماني وخمسون طائرة، فيما كان فرانكو وباقي الجنرالات يكسبون منطقة تلو الأخرى بعدما بدأ زحفه من شمال المغرب يحفه المئات من المقاتلين المغاربة الذين قدموا من الريف وباقي المناطق الخاضعة للسيطرة الإسبانية في زمن الحماية.
فرانكو يلقب بإيل كاوديللو
في مناطق إسبانيا التي كان يسيطر عليها فرانكو لقبوه «بأل كاوديللو»، وهو الاسم الذي أُطلق على القادة المسيحيين الذين أخرجوا المسلمين من إسبانيا في القرون الوسطى. وفي حربه الضارية، كان المغاربة يحيطون بفرانكو من كل جانب، حيث انضموا إلى حرسه الخاص وجيشه، فيما يشبه إعادة لفتح تجري ضد شيوعيي إسبانيا الجمهورية.
وبعد تقدم جيشه في المعارك خلال سنة 1936، سيعلن فرانكو أنه سيدخل مدريد، فقد بات المغاربة من قوات فرانكو يقفون على أبواب العاصمة تقريبا، لكن مدريد كانت تسيطر عليها روح ثورية محمومة، ويقول الجمهوريون إنهم سيدافعون عن مدريد حتى النهاية، ولكن سقوط المدينة تم بعد ساعات فقط، فهربت الحكومة إلى مدينة فلنسية ووصفها المقاتلون المهتاجون بكونها حكومة خائنة، وأوكلت مهمة الدفاع عن المدينة إلى الجنرال «نيا»، ولكن السوفيات أصبحوا في تلك اللحظات يسيطرون على مقر القيادة، وطلبوا من الموالين للجمهورية التنحي جانبا وإفساح المجال لهم بحكم أن إنقاذ مدريد من جيش فرانكو أصبح منوطا بروسيا والشيوعيين.
لم ينجح الهجوم السوفياتي الأول بالدبابات، لأن جنود فرانكو كانوا منتشرين أكثر مما ينبغي، ولم يستطع الجنود السوفيات المتابعة، وبذلك فشل الهجوم الجمهوري المضاد.
أما الألوية الدولية والفوضويون التابعون لدوروتي، فقد جاؤوا من برشلونة للمشاركة في أكثر المعارك عنفا وهولا في مدريد، إنها معركة المدينة الجامعية. كان القتال ضاريا، والخسائر فادحة في صفوف الجانبين، فالقتال كان ينتقل من بناية إلى بناية، وأحيانا حتى من طابق إلى طابق، والمشكلة أنه مع مرور الوقت بدأ مغاربة فرانكو يشعرون بالتعب بحكم أنهم لم يعتادوا على قتال الشوارع، فكانوا لا يستطيعون تحقيق مزيد من التقدم، كانت مدريد رغم كل شيء صامدة بشكل غريب.. الرجال الذين ليس لديهم أسلحة كانوا يذهبون إلى جبهة القتال ويأخذون أسلحة القتلى، المقاتلون المنهكون يتحصنون في الخنادق. وبالرغم من البرد والجوع، صمدت مدريد وواصلت إصرارها، «لم يمروا أبدا ولن يمروا»، إنها العبارة التي تحولت إلى ما يشبه الشعار، دليلا على الصمود المستميت.
وبسبب طول حصاره لها أعلن فرانكو أنه يفضل تدمير مدريد على أن يتركها للشيوعيين، لذلك أصبحت مدريد هدفا لطياري فيلق النسر الألماني، باتت القنابل الحارقة تسقط على المدينة ليلا ونهارا.. وتقصف حيا بعد آخر. كان فرانكو يأمل أن يؤدي القصف إلى تثبيط عزيمة مقاومة الجمهوريين، وحدث العكس، حيث ازدادت الكراهية لجيش فرانكو، رغم الموت والدمار. في ربيع عام 1937، ستستأنف معركة مدريد، وحاول الوطنيون بقيادة فرانكو تطويق وخنق العاصمة..
بيكاسو يخلد للحرب
في السادس والعشرين من أبريل 1937، أسقطت أربعون طائرة ألمانية خمسين طنا من القنابل الحارقة على جورنيكا، وقد ترك الهجوم دمارا واسعًا في البلدة. وعندها قام الرسام الإسباني «بيكاسو» بطلب من الحكومة الجمهورية بتخليد ضحايا جورنيكا برسم لوحة زيتية رائعة، باللونين الرمادي والأسود، والتي تبدو وكأنها تنبئ بالعذاب الذي كان سيحل قريبا بأوربا خلال الحرب العالمية الثانية، لكن ما سهل مأمورية فرانكو هو الاقتتال الذي صار دائرا بين الجمهوريين في ما بينهم، مما أدى إلى حدوث اضطرابات في برشلونة في شهر ماي 1937، فالنقابيون الفوضويون والمناوئون للستالينية كانوا يحاربون الشيوعيين والجمهوريين المعتدلين الذين يسعون إلى إعادة السلطة إلى الحكومة المركزية.
وانتصر الشيوعيون، ومن زعمائهم «خوسيه دياز» و«سانتياجو كاريللو»، وبعدها تبين أن الحزب الشيوعي فرض نفسه على الجمهوريين، وتولى رئاسة الحكومة بورجوازي كبير يحظى بثقة الحزب الشيوعي هو «خوزان ناجرين». وفي يوليوز من السنة نفسها، كان الجيش الجمهوري بحاجة ماسة إلى تحقيق نصر، فقام بشن هجوم وحشد مدفعيته الثقيلة أملاً في أن يحطم خطوط قوات فرانكو على بعد ثلاثين كيلومترًا إلى الغرب من مدريد. لكن شيئا فشيئا سيتم كبح الهجوم الجمهوري، وسيتمكن الفرانكيون من استعادة ما فقدوه من أرض، وقد جرح الآلاف من الأشخاص في هذه المعركة.
وعندها فقط شم فرانكو رائحة النصر، فدفع جيوشه باتجاه البحر، وتقدم على جبهة طولها ثلاثمائة كيلومتر، فانهارت دفاعات الجمهوريين المنهكة في كل المواقع، لم تكن الأهداف التي قصفها الإيطاليون والألمان دائما أهدافا عسكرية، وقتل من الجانبين في هذه المعركة قبل الأخيرة نحو عشرين ألف شخص.
ووصلت قوات فرانكو إلى البحر في يوليوز 1938، ولكن الجمهورية لم تنته بعد، بل ستوجه ضربتها الأخيرة في معركة «إيبرو» أكبر وأقوى هجوم تقوم به قوات الجمهورية.
ففي الخامس والعشرين من يوليوز، عبر مائة ألف جندي جمهوري النهر إلى الشمال من فلنسية ونجح الهجوم، وبذلك تقدمت الجمهورية أربعين كيلومترا، لكن شهرا بعد ذلك ستنجح قوات فرانكو في وقف الهجوم الجمهوري، وهكذا بدأت المعركة الفاصلة الإسبانية.
ولمدة ثلاثة أشهر متواصلة، ورغم القصف المستمر للطائرات والمدفعية من قبل الوطنيين، ظل الجمهوريون صامدين، ولكن في أكتوبر من السنة نفسها سيبدأ التقهقر العام وستفقد الجمهورية الجيش الشمالي، وستخسر معركة «إيبرو» التي بعدها خسرت الحرب.
الهروب الكبير
سقطت برشلونة بدون قتال في السادس والعشرين من يناير 1939، فبدأ الجيش الجمهوري يتقلص، وكانت مدريد آخر مدينة تسقط بعد فترة من النزاع بين الجمهوريين أنفسهم، وقد دخلتها القوات الوطنية في مارس 1939، فالرايات والملاءات البيضاء تدلت من شرفات المنازل لتعلن استسلام المدينة لفرانكو. الحرب انتهت، إذن، لكن تصفية الحسابات مع المعارضين لفرانكو كانت قد انطلقت.
وعندها شرع المقاتلون الناجون والعائلات الجمهورية في الهرب إلى فرنسا وقد انتابهم فزع شديد، كانوا يأملون الوصول إلى فرنسا التي كانت بالنسبة إليهم الملجأ الآمن للنجاة بأنفسهم من أعمال الانتقام المخيفة التي كان يقوم بها الوطنيون بزعامة فرانكو، وهكذا تم إحصاء نصف مليون لاجئ إسباني اندفعوا دفعة واحدة نحو الحدود مع فرنسا وقوات فرانكو تلاحقهم، وكان ضمن هذه الجموع وزراء جمهوريون .. وقادة فوضويون .. ومنظرون ثوريون، الغالبية منهم لن تعود إلى إسبانيا أبدا، رفضت فرنسا في البداية السماح لهذه الجموع بدخول أراضيها، ثم سمحت لها بذلك شريطة أن يسلم المقاتلون أسلحتهم.
لقد شعر الجمهوريون بمرارة شديدة، وهم يرون دول العالم تعترف بحكومة فرانكو، كما أن المارشال الفرنسي «بيتان» كان أول سفير لبلاده في إسبانيا الفرنكاوية، ولم ينتظر فرانكو كثيرا حتى أصدر مرسوما ينص على أن جميع أولئك الذين عارضوا الحركة الوطنية بقيادته، حتى ولو بشكل سلبي، هم عناصر هدامة، وعلى الفور بدأت عمليات التطهير، فقضى نحو مائتي ألف من الشيوعيين حياتهم في السجن أو قتلوا، بواسطة فرق الإعدام .
الوطنيون بقيادة فرانكو كانوا يريدون اقتلاع خصومهم من الجذور، التخلص من القوى التي قادت إسبانيا نحو هذه الحرب التي بلغ عدد ضحاياها ستمائة ألف إسباني، وفي الحال أسس فرانكو حزبا واحدا جمع كل الفئات المنضوية تحت لواء حركته، وبدأ حكمه بسياسة الحديد والنار.
وبعد انتصار فرانكو، شرعت القوات الألمانية والإيطالية في مغادرة شبه الجزيرة بعدما أنجزت مهامها على أكمل وجه، واستطاعت الانتصار في معارك ضارية، ولكن هتلر وموسوليني سرعان ما سيكتشفان، عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، أن صداقة فرانكو لم تكن دائمة، فإسبانيا أخذت نصيبها من المأساة، وفضلت أن تستريح بعد طول قتال.
القاضي غارثون ينبش قبور الحرب الأهلية
غارثون قاض طموح جدا، ورغم أنه يصف نفسه في مذكراته التي نشرتها «المساء» مترجمة قبل أشهر بكونه كان شخصا خجولا في الجامعة لا يتحدث كثيرا مع زملائه بحكم أنه جاء من وسط فقير من بلدة خايين بالجنوب الاسباني، بيد أن خجله تحول إلى جرأة وهو يتتبع أكثر الملفات القضائية إثارة بدءا من ملف محاكمة الديكتاتور الشيلي بينوشي إلى فتح ملف التجاوزات التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية الإسبانية في عهد رئيس الوزراء الأسبق فيليبي غونزاليث، ثم مطاردة الخلايا النائمة لتنظيم القاعدة بعد يوم القيامة الأمريكي، وانتهاء بفتح ملف الحرب الأهلية الذي يعتبر جرحا غائرا في جسد إسبانيا.
نبش القاضي الإسباني العنيد قبور الحرب الأهلية عندما أعلن قبل أسبوعين اختصاص المحكمة الوطنية الإسبانية النظر في حالات الاختفاء القسري التي شهدتها إسبانيا خلال فترة الحرب الأهلية الإسبانية ما بين عامي 1936 و1939 وتلك التي عرفها نظام فرانكو طيلة أربعين عاما من حكمه، كانت فيها أجهزته السرية والعلنية تختطف مناضلي اليسار والحزب الشيوعي، وبهذا القرار التاريخي يكسر غارثون إحدى أهم قواعد اللعب التي قامت عليها الديمقراطية الإسبانية بتبني قرار العفو وطي صفحة الماضي دون قراءتها، وهو الحدث الذي خلق ضجة إعلامية وسياسية وحقوقية مهمة في الجارة الشمالية، إذ باتت الأعناق مشرئبة تنتظر ما ستسفر عنه الأيام المقبلة بعدما وضع القاضي الشهير إصبعه على مبضع ألم قديم في الجسد الإسباني.
واعتبر غارثون أن تلك الاختطافات تمثل إحدى الجرائم ضد الإنسانية، لذلك قرر فتح المقابر الجماعية التسع عشرة التي تم تحديدها بينها تلك التي يعتقد أن شاعر إسبانيا الكبير فدريكو غارثيا لوركا مدفون بها بعد مقتله على يد الفاشية، وهي المقبرة التي ينتظر أن يقوم فتحها بعد الحصول على موافقة عائلة لوركا التي اصدرت بيانا واضحا بهذا الشأن.
ولم يتردد القاضي في الإشارة بأصابع الاتهام إلى تورط شخصيات كانت نافذة في الدولة في نظام فرانكو، وأولهم الجنرال فرانسيسكو فرانكو باهموند نفسه الذي حكم البلاد بسياسة الحديد والنار طيلة أربعة عقود وبجانبه 34 متهما كانوا يحتلون مناصب رفيعة في هرمية الدولة الإسبانية ارتكبوا جميعهم جرائم ضد الإنسانية.
ويشير صك الاتهامات الذي أعده القاضي غارثون بعناية واحترافية إلى أن المتهمين الذين وافتهم المنية جميعهم وبعد انتصارهم في الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد قاموا بتجييش جميع أليات الدولة من أجل تحديد مكان وهوية الضحايا المنتمين إلى الجهة المهزومة وقاموا بمتابعتهم وسجنهم وممارسة التعذيب والاختفاء القسري.
لكن النيابة العامة وقفت بالمرصاد لمساعي القاضي غارثون، واعتبرت أنه ليس مؤهلا للتحقيق في جرائم ما قبل عام 1977 بحكم المصادقة على قانون العفو، كما أنه في الفترة التي ارتكبت فيها هذه الأعمال اعتبرت وقتها جرائم قتل واعتقال غير قانوني حسب القانون الجنائي للجمهورية، وهو ما رد عليه القاضي غارثون بكون الأفعال المرتكبة تعد ضمن قائمة الأفعال المحظورة بمقتضى قانون الحروب التي تنص عليها القوانين وأعراف الحروب وقوانين الإنسانية، وفسر غارثون أيضا بأنه بناء على ذلك فالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية لم تكن مدرجة ضمن قانون العفو لعام 1977، والذي بموجبه تصالحت إسبانيا مع نفسها بدون قراءة دفاتر الماضي الفرنكاوي.
ورغم مرور ثلاثة عقود على قيام الديمقراطية، فإن موضوع الحرب الأهلية كان دائما حاضرا في النقاشات، وكل جهة تقدم قراءة تناسبها لأيام إسبانيا السوداء، مثلما أن فاعلين مازالوا على قيد الحياة مثل مانويل فراغا الذي كان وزيرا في عهد فرانكو واطلع على أسرار لم يكشف عنها وسانتياغو كاريو الذي كان ضمن طليعة الشيوعيين خلال السنوات الأولى للحرب الباردة وأصدر عدة كتب تاريخية قدم فيها قراءته لما حدث من زاوية معاشة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.