قضيت عاما أو أكثر، خلال سنوات البحث لرسالة الدكتوراه، أتردد على دار الوثائق الحكومية البريطانية. وكما أي طالب آخر، كان يجرني الفضول والرغبة في المعرفة، من وقت إلى آخر، بعيدا عن الفترة الزمنية المخصصة لرسالتي. وهذا ما وضعني في أحد الأيام أمام بعض من ملفات وزارة الخارجية، الخاصة بالمراسلات بين لندن وعدد من الممثليات البريطانية في عدد من المدن العثمانية الرئيسية، ومدن إسلامية أخرى، في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. والمدهش أن أغلب البرقيات التي ضمتها تلك الملفات تعلق بمسألة واحدة: ردود الفعل الإسلامية الغاضبة، والعداء المتصاعد لدى المسلمين تجاه القوى الغربية. بعض التقارير كان وصفيا بحتا، وبعضها حمل محاولة لتحليل الأسباب، بينما لم تخف تقارير أخرى استهتارها بموجة «الانفعال» الإسلامية أو التحذير من العواقب التي يمكن أن تمس المصالح البريطانية في بلاد المسلمين. ما ولد تلك التقارير، التي تكاد تتشابه إلى حد كبير مع قطاع واسع من الكتابات الغربية حول الإسلام في العقود القليلة الماضية، كان سياقا خاصا جدا، من جهة موقف المسلمين من العالم والقوى الغربية، ومن جهة تصور المسلمين لأنفسهم؛ فقد بدأت تراجعات المسلمين أمام القوى الغربية، ولاسيما على الجبهتين الروسية والهنغارية النمساوية، منذ نهاية القرن الثامن عشر. التراجعات الأولى، التي فاجأت السلطنة العثمانية وصدمت مؤسستها الحاكمة، تأكدت إلى حد كبير في القرن التاسع عشر وتحولت إلى ما يشبه السمة الثابتة للعلاقة بين العثمانيين وأوربا، كما بين الدولتين الإسلاميتين الأخريين: القاجارية في إيران والمغولية في شبه القارة الهندية. تراجع القاجاريون أمام التوسع الروسي الحثيث في آسيا الوسطى والقوقاز، وانتشرت المصالح الغربية الاقتصادية والمالية في أنحاء إيران. أما في الهند، فقد تطور الاختراق الهامشي التجاري الذي حققته شركة الهند الشرقية (البريطانية) إلى سيطرة كاملة على الهند منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر. حاول العثمانيون، كما هو معروف، مواجهة الأزمة في البداية بإجراءات تحديث وإعادة بناء عسكرية، ثم بحركة تحديث أكثر شمولا منذ أربعينيات التاسع عشر، أو ما عرف بعهد التنظيمات. ولكن موازين القوى كانت تزداد سوءا، والخسائر على الأرض تزداد تفاقما. ومع ثمانينيات القرن، عندما بدأت تقارير الممثليات البريطانية حول ردود الفعل الإسلامية في التوارد، كان التوسع الإمبريالي الأوربي قد طال عدن وساحل الخليج، ولايات الجزائر وتونس ومصر، جزيرة قبرص؛ كما فقد العثمانيون سيطرتهم على اليونان والجزء الأكبر من ولايات شرق أوربا والبلقان. تولى عبد الحميد الثاني مقاليد السلطنة بمساعدة العثمانيين الإصلاحيين في 1876؛ وبالرغم من أن أول خطوة اتخذها كانت إصدار دستور عثماني وإجراء انتخابات لأول برلمان عثماني، فقد كان عليه بعد فترة قصيرة من انعقاد البرلمان أن يشهد القوات الروسية تصل إلى تخوم مدينة إسطنبول. أراد عبد الحميد ورجال الدولة من حوله من إصدار الدستور وتأسيس البرلمان التوكيد على انتماء السلطنة إلى أوربا الحديثة، ولكن خطوتهم تلك لم تنفعهم شيئا عندما تقدمت القوات الروسية إلى مسافة سمحت لها برؤية أضواء عاصمة السلطنة في الليل. وربما كانت مناسبة الحرب تلك عاملا حاسما في وضع أسس السياسة التي سيتبعها السلطان في فترة حكمه الطويلة. أطاح عبد الحميد خلال فترة قصيرة بالتحديثيين العثمانيين من رجال الدولة، المعروفين بعلاقاتهم الوثيقة مع العواصمالغربية؛ ولكنه استمر في سياسة تحديث مركزية، استهدفت توفير المزيد من عناصر القوة للمجتمع العثماني. وفي الوقت نفسه، أطلق عبد الحميد خطاب تضامن إسلامي، وضع إطارا لما سيعرف بعد ذلك بسياسة الجامعة الإسلامية، استبطن سعيا عثمانيا لتوثيق الروابط بين الشعوب الإسلامية، من الهند وإيران إلى مصر والجزائر، من أجل حماية بلاد المسلمين من الخطر الغربي الداهم. أرسلت البعثات العثمانية إلى كافة البلاد الإسلامية، ونشط الهلال الأحمر العثماني في تقديم العون إلى فقراء المسلمين والمجتمعات الإسلامية المنكوبة، وأصبحت إسطنبول محجا ومقرا للنشطاء والسياسيين المسلمين، ولاسيما من أبناء البلاد التي وقعت تحت سيطرة الإمبرياليات الغربية. ولأن خطاب التضامن والوحدة كان موجها ضد قوى الاستعمار الغربي، فإن مسوغاته الضمنية استمدت من تصعيد شعور المسلمين بالخطر والتهديد، ليس لأرضهم وأنماط اجتماعهم وحسب، بل ولدينهم وعقيدتهم كذلك. بذلك، ومنذ العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر، ولد هذا الشعور الإسلامي العميق: «إن الإسلام مهدد». الإسلام، وليس المسلمين وحسب، في موضع التهديد، أصبح الشعور الإسلامي المستبطن طوال القرن العشرين. والسبب لا يصعب اكتشافه؛ فخلال العقود التالية لسقوط عبد الحميد وسياسته، أصبحت الأمور أسوأ بكثير. فقدت الدولة المزيد من بلادها، من ليبيا إلى البلقان، ومضت من ثم بدون تفكير كبير تحث الخطى نحو الحرب العالمية الأولى، التي ما إن انتهت حتى انتهت معها آخر دول الإسلام وتعبيراته السياسية. ومنذ العشرينيات من القرن العشرين، لم تكن هناك من البلدان الإسلامية التي أفلتت من السيطرة الغربية المباشرة سوى تركيا الجمهورية، إيران، السعودية، واليمن. وحتى هذه، لم تكن كلية خارج نطاق النفوذ الغربي. قاتل المسلمون، عربا وغير عرب، ببسالة منقطعة النظير من أجل استقلالهم وحريتهم، مما جعل السيطرة الأجنبية في بلاد مثل العراق وسوريا ولبنان قصيرة نسبيا؛ ولكن الشعور العميق بالتهديد، تهديد البلاد والدين، كان في طريقه إلى توليد التعبير الإسلامي الثاني بعد سياسة الجامعة الإسلامية: التيار الإسلامي السياسي. أسست جماعة الإخوان المسلمين، أولى جماعات التيار الإسلامي السياسي، في نهاية العشرينيات، في مدينة الإسماعيلية المصرية. وربما لم تكن هناك من مدينة مصرية آنذاك، ولا حتى القاهرة نفسها، تجسد هذا الشعور بالتهديد مثل مدينة الإسماعيلية، التي لم تكن مقر شركة قناة السويس، المملوكة كلية للقوى الأوربية، وحسب، ولكنها أيضا كانت مدينة مصنوعة من مدينتين، لا يجمع بينهما سوى الاسم، واحدة للأوربيين وأخرى للمصريين؛ ولكل منهما تقاليدها وقيمها وعاداتها ومستوى رفاهها ووظيفتها. في كافة أنحاء العالم الإسلامي، كانت برامج التحديث التي أطلقت في القرن التاسع عشر، مرة على يد رجال الحكم المسلمين الباحثين عن القوة وإعادة بناء الذات، ومرة على يد مسؤولي الإدارات الاستعمارية، قد آتت أكلها. أصبحت الدولة الحديثة في بلاد المسلمين أكثر قوة وسيطرة؛ وانتشرت في حواضر المجال الإسلامي أنماط تخطيط مدن وأحياء، ونماذج بناء وسكن، ومؤسسات ترفيه وترويح، ومعاهد تعليم وثقافة، غريبة ومدهشة في آن. وخلف أساطيل الإمبرياليات وجيوشها، استباحت الشركات والبضائع وجماعات التبشير الأوربية المجتمعات الإسلامية بطولها وعرضها. الوجه الآخر من الشعور العميق والمتطاول بالتهديد كان بالطبع مسألة الهوية. للوقوف أمام هذا الخطر الغربي الداهم، الخطر الذي يتهدد البلاد والعباد وموارث الدين والإيمان، كان لا بد من حماية الهوية الإسلامية، من إعادة التوكيد على مفردات هذه الهوية، ومن إعادة إنتاجها من جديد. وهذا ما جعل قوى الإسلام السياسي، من الإخوان المسلمين، في كافة البلاد العربية، إلى جماعة إسلامية، في شبه القارة الهندية، إضافة إلى عدد ملموس من الجمعيات والجماعات الإسلامية السياسية الأصغر نسبيا، تتحول إلى قوى سياسية من نوع فريد، حيث تداخل السياسي الدنيوي بالدعوي الديني، أو ما هو سياسي بحت، وسياسي بالمعنى الغربي الحديث في أغلب الحالات، بما هو تثقيف وتعليم وتدريب وتعبئة دينية بحتة، بالمعنى الإسلامي التقليدي في أغلب الحالات. وعندما رفع نداء تطبيق الشريعة الإسلامية الشهير، العنوان الأبرز للتيار الإسلامي السياسي، لم يكن ثمة من تأمل كاف لطبيعة مؤسسة الدولة الحديثة التي حمل الإسلاميون شعار أسلمتها وتسليمها مقاليد الشريعة والدين. المشكلة، على أية حال، أن الشعور بالتهديد والعمل من أجل حماية الهوية المتصورة، كانا يعنيان بالضرورة أن الإسلاميين يتصرفون بقوة رد الفعل، رد الفعل على الخطر الإمبريالي، على النشاطات التبشيرية، على تدهور مقومات المعاش والعمل، على هجوم التعليم الحديث، على انتشار الفنون الغربية، على الانقلاب الجذري في دور المرأة المسلمة وسلوكها، وعلى أشياء أخرى كثيرة. وسرعان ما أصبحت سياسات رد الفعل الإسلامية مصدر انقسام وتوتر داخليين، بين الإسلاميين وخصومهم ومخالفيهم. ومن الانقسام والتوتر، ولد الخوف، الخوف من أن يؤدي الصعود الحثيث للقوى السياسية الإسلامية إلى سيطرة الإسلام السياسي على مقاليد الدولة والحكم وإطاحة مخالفيهم أو اضطهادهم. ولأن تجارب الإسلاميين في عدد من الدول، لهذه الفترة أو تلك، لم تكن مدعاة إلى الاطمئنان، تحولت القوى التي ولدت من شعور إسلامي بالتهديد والخطر إلى مولد لمشاعر التهديد والخطر. الخطأ الكبير الذي وقع، ويقع فيه خصوم الإسلاميين ومخالفوهم، أنهم لم يدركوا أن الظاهرة الإسلامية السياسية لم تكن، ولا هي اليوم، ظاهرة ناجزة، وأن تصور الإسلاميين للعالم وأنفسهم هو تصور قابل للتطور، وأن الإسلاميين ليسوا جماعة سياسية مصمتة. مع نهاية القرن العشرين، على سبيل المثال، لم يعد من المسوغ القول بأن الدين في موضع التهديد والخطر. بعد قرن من الاجتياح الغربي الاقتصادي والسياسي، وعقود من السيطرة الإمبريالية المباشرة، لم يزل الإسلام قويا، عميق الجذور، ولم تزل «حصونه»، التي قيل من قبل إنها مهددة، قائمة وراسخة. ولعل هذا ما أخذ في تحرير الإسلاميين، وإن لم يكن كلهم، على أية حال، من خطاب الهوية وسياسات ردود الأفعال. ما يمكن تسجيله في برنامج حزب النهضة التونسي الحاكم، في بيان الإخوان المسلمين السوريين حول رؤيتهم لمستقبل سورية ونظامها السياسي، وفي مشروع النهضة الذي يطرحه الإخوان المسلمون في مصر، وبرامج المرشحين الإسلاميين للرئاسة المصرية، أن الإسلاميين باتوا أميل إلى الأخذ بزمام المبادرة منهم إلى ردود الأفعال والخوف على الهوية. هذا عالم جديد، ومناخ عربي إسلامي جديد، من يغفل عنه سينتهي إلى ما انتهت إليه الأحزاب التركية العلمانية التقليدية، التي لم تر معنى التحولات التي أشر عليها صعود حزب العدالة والتنمية قبل عقد كامل من الزمان. بشير موسى نافع