ليس ثمة شك في أن الثورة السورية لم تنطلق احتجاجا على دور سورية الإقليمي والتزاماتها العربية، وإن كان هناك وعي لدى القوى السياسية المعارضة بأن نهج النظام في سياسته الخارجية أحيانا لم يكن لائقا بسورية. اندلعت الثورة السورية لعوامل في معظمها داخلية، سياسية واقتصادية واجتماعية، وللعلاقة المختلة والمتفاقمة بين النظام والشعب. ولأن النظام السوري وقف طوال سنوات موقفا عربيا مميزا، ولاسيما في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي والمقاومة في فلسطين ولبنان، فإن هناك توجها ما لغض النظر، أو حتى تجاهل، دور سورية العربي والإقليمي في معالجة الثورة السورية وتفاعلاتها، ربما لأن البعض يعتقد أن هذا الملف يصب لصالح النظام. هذا بالتأكيد اعتقاد خاطئ، وإن كان ثمة من سبب يستلزم عملا عربيا، شعبيا ورسميا، لحسم الموقف في سورية لصالح الشعب وثورته ووضع حد لتداعي أوضاع سورية الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فهو بالتأكيد أهمية سورية القصوى في المجال العربي ودورها الحيوي في توازنات القوة الإقليمية. سورية كما نعرفها اليوم وليدة نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى، والتقسيم الإمبريالي الفج للولايات العثمانية الناطقة بالعربية التي وقعت تحت سيطرة قوات الحلفاء خلال سنوات الحرب. ولكن طرفا لم تغب عنه أهمية سورية منذ ولادتها قبل أكثر من تسعين عاما بقليل، لا العرب ولا القوى الإمبريالية الغربية. يعرف المؤرخون أن حدود الشرق العربي اليوم ليست هي حدود اتفاق سايكس بيكو 1916، كما هو شائع، بل الاتفاق اللاحق في سان ريمو 1920، بعد أن فشل الحلفاء في التوافق حول مصير المشرق العربي في مؤتمر صلح فرساي. وخلال السنوات الفاصلة بين الاثنين، احتدم الصراع بين الفرنسيين والبريطانيين حول مصير الساحل السوري، بما في ذلك فلسطين. ولم يكن فيصل وضباط الحركة الشريفية، فقط، من حاول باستبسال الحفاظ على حرية سورية واستقلالها، وصولا إلى معركة ميسلون اليائسة، ولكن سورية ما لبثت أن تحولت، خلال سنوات ما بين الحربين، إلى ساحة صراع عربي عربي بين القوتين السياسيتين الرئيسيتين في المشرق العربي: الهاشميون وآل سعود. وبعد استقلالها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أصبحت سورية ساحة صراع أكبر من ساحات الحرب الباردة، بين التيار القومي العربي الناصري، من ناحية، والهاشميين، من ناحية أخرى، والسعوديين، من ناحية ثالثة، كما بين السوفيات والأمريكيين والبريطانيين. والمؤكد أن حداثة مؤسسة الدولة الوطنية وقوة الولاءات المحلية بين القوى السياسية والعناصر العسكرية الفاعلة، جعلت من الساحة السياسية السورية في جزئها الأكبر انعكاسا للصراع الإقليمي والدولي. بتشكل خارطة المشرق الجيوبوليتيكية الحديثة، وجد الجميع، أبناء المشرق العربي والقوى الدولية على السواء، أن سورية هي واسطة عقد الإقليم. وليس ثمة شك في أن إقامة الدولة العبرية على الجزء الأكبر من فلسطين في 1948 أعلى من أهمية سورية الاستراتيجية ومن وزنها في معادلات القوة الإقليمية. وإلى جانب تعبيره عن عمق التوجهات القومية العربية، كان قرار السوريين بالذهاب إلى خيار الوحدة مع مصر في 1958 في حد ذاته وجها من وجوه الصراع المتصاعد على سورية الخمسينيات. وإن عملت الوحدة مع مصر على توفير بعض الحماية، فإنها لم تستطع أن تخمد الصراع على سورية كلية. في النهاية، ساهمت أخطاء الإدارة المصرية في دمشق، إلى جانب التدخلات الإقليمية والدولية، في تأجيج التوجهات الانفصالية بين السوريين وفرط مشروع الوحدة الذي هدد مصالح كبرى، إقليمية ودولية. مرت سورية خلال السنوات القليلة التالية بما يشبه المرحلة الانتقالية، ولكن حرب 1967، وبالرغم من الهزيمة العربية الفادحة، وفرت لسورية رافعة بالغة الحيوية، عندما أصبحت القاعدة الرئيسية للمقاومة الفلسطينية. ومنذ 1970، ولاسيما بعد الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر 1973، بدأت سورية نفسها في لعب دور كبير وهام في شؤون الإقليم، ولاسيما بعد انسحاب مصر النسبي من دورها العربي القيادي وانفجار الحرب الأهلية في لبنان وتعزيز قبضة الرئيس الأسد الأب على شؤون الحكم والبلاد. منذ ولادتها بحدودها الحالية، كانت مقدرات الموقع والتاريخ والثقافة، وليس القوة الاقتصادية أو العسكرية، ما جعل سورية ساحة للصراع أو طرفا من أطرافه الرئيسية. في أغلب مراحل تاريخها، كانت دمشق مدينة مركزا، تمارس تأثيرا كبيرا على جوارها. لا الأردن عرف المدينة المركزية، ولا القدس، بالرغم من موقعها الديني، امتلكت مصادر المياه والمحيط الزراعي الكافي لتصبح مركزا إقليميا لحقبة تاريخية طويلة. وحتى تفاقم الاختراق الاقتصادي الغربي للمشرق العربي الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر، وتحول مدن الساحل إلى وسيط مالي وتجاري، لم تكن بيروت (أو حيفا) أكثر من موقع رباط إسلامي أو مدينة صيادين صغيرة. ولم يقتصر دور دمشق على المجالين السياسي والعسكري وحسب، بل كانت مركزا للعلوم والثقافة كذلك، حتى خلال الحقبة العثمانية الطويلة عندما انتقلت عاصمة المشرق إلى التخوم غير الناطقة بالعربية. وسرعان ما ساهمت المقدرات الثقافية وفعالية الموقع والميراث الرمزي - التاريخي، معا، في جعل دمشق الرحم التي ستولد منها الفكرة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. ولعل هذا ما دفع فيصل والضباط الأشراف إلى اختيار دمشق عاصمة للحكومة العربية الأولى بعد الانهيار العثماني، بالرغم من أنهم انطلقوا من الحجاز وليس من بلاد الشام، وأنهم كانوا خليطا من الحجازيين والعراقيين والشوام. وللدوافع نفسها، لوعي سورية بذاتها، لم تختلف رؤية سورية لالتزاماتها العربية منذ لحظة ولادتها كدولة حديثة، سواء في ظل الانتداب الفرنسي أو في عهد الاستقلال، في العهد الليبرالي أو عهد الضباط البعثيين. كما العروبة ذاتها، عبرت سورية عن توجهها العربي في البداية بنكهة إسلامية (كان القوتلي تلميذا للسلفية الإصلاحية)؛ وعندما افترق التياران العروبي والإسلامي بعد الحرب الثانية، ظلت سورية على التزامها القومي. والسبب بسيط ومدهش في آن، فلم تكن سورية مهد الفكرة العربية وحسب، بل أصبحت المؤشر على توجهات الحركة العربية ومصائرها طوال القرن العشرين. كانت سورية مهد الفكرة العربية بتعبيرها الإسلامي لأن لحظة الولادة ارتبطت بظاهرة الإحياء السلفي الإصلاحي في أوساط العلماء الدمشقيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ومن ثم بالتنظيمات العروبية الإسلامية خلال فترة الحكم العثماني الاتحادي في أواخر عهد السلطنة. ولأن المجال السوري، كما جاره العراقي، احتضن تعددية فريدة من الملل والنحل، مثلت في حد ذاتها تجليا بالغ الإبداع للتاريخ العربي الإسلامي، فسرعان ما وجد المسيحيون العرب وأبناء الطوائف الإسلامية المختلفة في الفكرة العربية مستقرا لهم. بدأت الفكرة العربية تعبيرا عن دفاع السنة العرب عن دورهم وموقعهم في المجال العثماني، عندما تبنت إسطنبول توجها مركزيا حاسما، اصطبغ بلون تركي. وفي الطريق، ومنذ عصبة العمل القومي وبروز البعث، نزعت العروبة منزعا علمانيا حديثا وهي تحتضن المسيحيين العرب من كافة الكنائس وأبناء الطوائف العربية المختلفة. بيد أن التزام سورية العربي، ولاسيما بعد التحام العروبة بالمسألة الفلسطينية، كان ربما التزاما عضويا كذلك؛ فقد تبلور خلال الحقبة العثمانية مفهوم أحاطه دوما شيء من الغموض، مثل استلهاما للميراث الإسلامي بدون أن ينعكس في التقسيمات الإدارية، لشام واحد، شام شريف، كما تصفه السجلات العثمانية. هذا التمييز لشام واحد، في مقابل العراق والحجاز، والاعتراضات العربية الصارخة على التشطير الإمبريالي للولايات العربية في أعقاب الحرب الأولى، ولد فكرة سورية الواحدة، سنوات طويلة قبل أنطون سعادة والحزب القومي السوري. رأي كثير من الفلسطينيين، حتى بعد بروز وطنية فلسطينية في نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، أن فلسطين ليست أكثر من سورية الجنوبية. ورفض قطاع واسع من اللبنانيين وجود دولة لبنانية منفصلة عن سورية، حتى بعد استقلال البلدين. أما السوريون فقد شعروا دائما بأن هذه السورية ليست هي سورية وأن حدود سورية رسمت قسرا وعدوانا، ليس فقط لأن الفرنسيين صنعوا لبنان بضم أقضية من ولاية دمشق لقضاء جبل لبنان، بل لأن دمشق كان لا بد أن تكون عاصمة المجال الشامي كله. لم يرفض السوريون، بكافة حكوماتهم، تبادل السفارات مع لبنان وحسب (حتى اتخذ القرار الأسد الابن قبل سنوات قليلة)، بل نظروا إلى علاقتهم بفلسطين بصورة تختلف عن الدول العربية الأخرى، وتفوق الالتزام العروبي القومي: صورة عضوية. كان السوريون أول من دخل فلسطين محاربا في ثورة 1936، وخاضوا من الحروب مع الدولة العبرية ما لم تخضه أية دولة عربية أخرى؛ وأصبحت دمشق، من جهة أخرى، قاعدة حركة التحرر الفلسطينية، من الهيئة العربية العليا، إلى حركة فتح ومنظمة التحرير، وصولا إلى حماس والجهاد. ثمة فرصة تاريخية لأن يستعيد العرب، كأمة ودول متعاونة، دورهم وموقعهم على مسرح العالم، فرصة لم تتح لهم منذ الحرب العالمية الأولى. تنبع هذه الفرصة من متغيرات ديمغرافية هامة وبروز كتلة عربية شابة كبيرة نسبيا، من مستويات تعليم عالية، من نمو حضري غير مسبوق ومن معرفة متزايدة بالعالم. ما يعزز من هذه الفرصة حالة نهوض واسعة النطاق، أطلقتها حركة الثورة العربية. وكما أن سورية كانت دائما ضرورة عربية، فإن خروج سورية من هذه المعركة بأقل الخسائر هو أمر بالغ الحيوية لشروط النهوض العربي. وأقل الخسائر ليس فقط بالمعنى الاقتصادي والعسكري، ولكن أيضا بمعنى تجنب إخفاق العيش كأمة، عربا بكل تنوعات العرب ومسلمين بكل تنوعات المسلمين. ترك الإخفاق العراقي أثره، ولم يزل، على كل المجال العربي الإسلامي، ولا يجب أن تترك سورية إلى مصير مشابه. فإن كان هناك بين العرب ودول المحيط الإقليمي من يريد الحفاظ على سورية، فعليه ألا يربط مصيره بمصير الفئة الحاكمة. سورية لم يصنعها نظام أو قائد أو حزب، بل هي صنيعة تاريخ وموقع ومتغيرات مشرقية كبرى في القرن الماضي. وهي أهم وأكبر وأكثر ضرورة من بقاء أسرة حاكمة أو نظام لم يعد يمتلك مبررا للاستمرار.