بمناسبة الذكرى الخمسينية لاستقلال الجزائر، انطلقت في فرنسا منذ بداية مارس الماضي، عدة فعاليات تستغرق عاما كاملا تضم مناظرات سياسية وأدبية، وعروضا سينمائية ومسرحية... وضمن الكم الهائل من الإصدارات التي اغتنمت فرصة هذا الحدث لمراجعة تاريخ الجزائر في علاقته بالاستعمار يأتي المؤلف الذي أصدرته سيلفي ثيبو تحت عنوان «الجزائر من الأحداث إلى الحرب.. أفكار مسبقة عن حرب التحرير الجزائرية»، والذي حاولت من خلاله المؤلفة توضيح أن حرب الجزائر هي في المقام الأول حرب للكلمات والمصطلحات، وقد أطلق عليها كل طرف تسميته الخاصة. وتشير المؤرخة إلى أن الصراع الجزائري-الفرنسي الذي دار بين 1954 و 1962 لا يزال موضع نقاش. انطلقت في فرنسا منذ بداية مارس الماضي، وقبل موعدها المحدد، فعاليات الاحتفاء بالذكرى الخمسينية لاستقلال الجزائر. ويتضمن البرنامج، الذي سيستغرق مدة عام كامل، مناظرات سياسية وأدبية، وعروضا سينمائية ومسرحية، وعروضا فنية...، الغاية منها مراجعة حقبة أساسية من تاريخ البلد في علاقته المعقدة والعنيفة بفرنسا وبالمنظومة الاستعمارية عموما، والتي عملت جاهدة، دون أن تنجح في ذلك، على طمس هوية البلد. وكان انطلاق بعض هذه الفعاليات بمثابة اختبار لقابلية المجتمع الفرنسي، وبالأخص لما يسمون بالأقدام السوداء و«الحاركيين»، لطي صفحة الماضي والتعايش مع التاريخ الجديد، مع إلقاء نظرة رصينة على تاريخ تحكم القطائع ونكران الاعتراف بالآخر. وفرت هذه الخمسينية أيضا المناسبة لرد الاعتبار للأقدام الحمراء، أولئك الفرنسيين الذين رفضوا الانسياق وراء الأيديولوجية العسكرية وهربوا من الخدمة ليلتحقوا بجبهة التحرير الجزائرية، أو الفرنسيين المثقفين الذين وقعوا العرائض وخرجوا في مظاهرات للتنديد بأساليب التعذيب الاستعمارية. وجاء الفيلم الوثائقي لمهدي العلاوي، «البيان 121»، لإضاءة وإنارة هذه الحقبة، التي التزم فيها مثقفون ينتمون لما سمي ب«شبكة جانسون» والتي عبر فيها مثقفون وازنون من أمثال جان-بول سارتر، سيمون دو بوفوار، أندريه بروتون، مارغريت ديراس، بيار بوليز، رونيه ديمون، فرانسوا شاتليه، وغيرهم، عن تضامنهم مع الشبكة أثناء محاكمتها. لكن تبين أن الماضي لم يمض بالنسبة إلى شرائح من الفرنسيين عاشت بالجزائر وأحست بأنها أخرجت من جنة عدن إلى ما لا رجعة. وقد انتفضت العداوات في القوس المتوسطي بجنوب فرنسا الذي تسكنه هذه الشرائح، التي أصبحت محسوبة اليوم على اليمين المتطرف. ورغم مرور 50 عاما على استقلال الجزائر، لا تزال العلاقات بين البلدين موضع سجال، بل تناحر مرير. لم يحصل الغفران الذي لازالت تطالب به الجزائر. ويبدو أن فرنسا غير مستعدة للتكفير عن أخطائها الاستعمارية والسياسية. وفي غمرة الاحتفال بخمسينية استقلال الجزائر، جاءت «قضية محمد مراح» لتلقي بظلالها على هذه الاحتفالات ولتطعم- مرة أخرى- الأطروحة القائلة بأن الجزائر تبقى قضية فرنسية، وبأن الهجرة الجزائرية لا زالت تشكل العقدة الجديدة في علاقات البلدين بحكم وجود أكبر جالية مهاجرة في البلد. حرب المصطلحات وضمن الكم الهائل من الإصدارات التي اغتنمت فرصة هذا الحدث لمراجعة التاريخ المؤلف الذي أصدرته سيلفي ثيبو بعنوان «الجزائر من الأحداث إلى الحرب.. أفكار مسبقة عن حرب التحرير الجزائرية». منشورات لوكافليي بلوه. والمؤلفة مؤرخة ومشرفة على البحث التاريخي بالمركز الوطني للبحث العلمي (مركز التاريخ الاجتماعي) سبق لها أن أصدرت «العنف العادي في الجزائر الاستعمارية: المعسكرات، الإقفال، الإقامة الجبرية». منشورات أوديل جاكوب. توضح المؤلفة أن حرب الجزائر هي أيضا حرب للكلمات والمصطلحات. وقد أطلق عليها كل طرف تسميته الخاصة. وتشير المؤرخة إلى أن الصراع الجزائري-الفرنسي الذي دار بين 1954 و1962 لا يزال موضع نقاش. في الفترة الاستعمارية كان مصطلح «أحداث» هو المستعمل من طرف السلطات الفرنسية باسم الرابطة التي أقامتها فرنسا مع الجزائر. كانت تسمية «حرب الجزائر» فعلا سياسيا، ومع الزمن أصبحت العبارة موضع نقد. إذ تحيل عبارة «حرب الجزائر» إلى «حملة الجزائر». كما تقدم الحرب على أنها تمشيط كبير لإعادة استرجاع الجزائر، كما لو تعلق الأمر باسترداد أرض ضائعة. وهذا إنقاص من المقاومة التي رافقت لمدة 132 عاما الحماية الفرنسية، ومن العنف الذي رافق المجتمع الكولونيالي، وهو مجتمع يقوم على التمايزات وعدم المساواة والتمييز. كما أن التعابير التي استعملت من جهة الجزائر تبقى غير لائقة بدورها. إذ ثمة فرق بين كلمات «تحرير» و«ثورة». أما مصطلح «Révolution» الفرنسي فلا يطابق كلمة «ثورة» القريب من معنى الانتفاضة. «Révolution» تقتضي تحولا اقتصاديا واجتماعيا لم يتم إلا بعد الاستقلال. أما «حرب التحرير الجزائرية»، فهي عبارة تسعى إلى التخلص من التصورات الوطنية. بيبلوغرافيا وفيرة تبقى حرب استقلال الجزائر الحدث التاريخي، الذي انكب على دراسته بشكل غزير المؤرخون. كما كان الحدث الذي أثار نقاشا واسعا في المجتمع الفرنسي. فالبيبلوغرافيا التي تناولت ودرست هذا الصراع وفيرة. أول المؤرخين، بيار فيدال ناكي، المتخصص في اليونان القديم والمناضل ضد ممارسة التعذيب، هو أول من قدم أول التحليلات في موضوع النظام القمعي الفرنسي قبل أن تطعم هذا العمل أبحاث جامعية أخرى. بالموازاة مع ذلك لم تتوقف الإصدارات المتعلقة بشهادات ونشاط الجمعيات المدافعة عن ذاكرة الأطراف المعنية، والتي أبقت الصراع مفتوحا. وقد وفرت كرونولوجيا الفضائح والسجالات انطباعا غريبا لتكرار الحكاية إلى ما لانهاية. منذ 1962 دعي الفرنسيون في العديد من المناسبات إلى اكتشاف هذا «الماضي الذي لم يمض» على خلفية اكتشافات لم يكن لها سوى الاسم. حركة ماي 1968، إصدار كتاب «معركة الجزائر الحقيقية» عام 1971 للجنرال ماسي، ثورة أطفال «الحاركيين» في معسكر بياس عام 1975، والبيان المناهض للعنصرية سنة 1980...، كانت جميعها أحداثا نهلت من هذه الحقبة الحديثة لتاريخ فرنسا المعاصرة. اعتراف بكلمة حرب ونظرا لتضخم المنشورات فإن الجزائر تحجب بقية الماضي الكولونيالي الفرنسي وأحداثا لا تقل درامية عن تلك التي عاشتها الجزائر، مثل الانتفاضة الملغاشية لعام 1947 أو حرب الهند الصينية أو التصدي لحرب العصابات الكاميرونية، التي تزاوجت مع حرب الجزائر ولم ينتبه إليها أحد وتبقى غير معروفة. ليس هناك إذن أي طابو فيما يتعلق بالجزائر حتى وإن كان حبل النفاق الرسمي الفرنسي طويلا. ولم يتم قبول استعمال عبارة «حرب الجزائر» إلا سنة 1999. ليس هناك أي طابو، لكن النقاش ما فتئ يطرح ويتكرر في فرنسا إلى حد الهوس. على الطرف الآخر، بالجزائر، لا يزال لهذا الماضي ثقل قوي. إذ جندت سلطة لم تكن تحظى بأي شرعية حرب التحرير لتجعل منها نصا روائيا وطنيا، رواية إجماع الجزائريين على النضال من أجل الاستقلال تحت راية وزعامة جبهة التحرير، التي مارست عنفا شرعيا يسعى إلى وضع حد للوصاية الاستعمارية. الانفتاح الديمقراطي الذي تلا تمرد أكتوبر 1988 أفاد على الأقل التاريخ. ذلك أن وجوها وطنية مبعدة من الكتب التربوية، وعلى رأسها مسالي الحاج، ظهرت من جديد في المجال العمومي. ولا يسعنا سوى أن نلاحظ انبثاق نقاش حول هذا الموضوع حتى وإن كان الشهود على هذه الحقبة هم من يحتكر المجال. صوت المؤرخين في هذا الإطار ليس له تأثير كبير. لكن أي كتاب يصدرونه هو محاولة لإسماع صوتهم في خضم الضوضاء الناتجة عن السجال والنقاش، والتي تغذيها الرهانات السياسية الداخلية والثنائية بين الفرنسيين والجزائريين. وتحاول الدراسة التي أنجزتها ثيبو أن تموقع هذه الحرب في مدة أطول. ويقدم لنا القسم الأول من البحث الأسباب الموضوعية والذاتية التي أدت إلى نشوب الحرب، ويتساءل عن انبثاقها ضمن شروط إمكانياتها وإلى أي حد تجاوب معها الجزائريون؟ فيما يغوص القسم الثاني من الكتاب في قلب الحرب، ويقف عند الرموز والأحداث والفاعلين، الذين يتمتعون بألفة لدى القارئ على خلفية الأحداث التي تعرف عليها في فيلم «معركة الجزائر» وفي أحداث 13 ماي 1958، و19مارس 1962، وفي ممارسة التعذيب، والجنرال ديغول، و«الحاركيين»، و«الأقدام السوداء»، وجبهة التحرير الجزائرية، والمنظمة السرية المسلحة...إذ هناك مخيل مشترك رائج ومعروف عن هذه الحرب، هو الذي وقفت عند آلياته الداخلية الباحثة. أما القسم الثالث فيلقي ضوءا كاشفا على الحرب في فرنسا، التي لم تكن معروفة بما فيه الكفاية. وحتى إن كانت الجبهة الحقيقية تقع في الجزائر فإن تداعياتها على المهاجرين كانت واضحة. في حين يتناول القسم الرابع حقبة ما بعد الحرب والمجادلات المتعلقة بها، سواء في فرنسا أو الجزائر. ابتذال ممارسة التعذيب تحول التعذيب إلى مؤسسة قائمة بذاتها. وساهم فيها ليس فحسب العسكر، بل بررت ممارستها أيضا الكنيسة. وفي هذا النطاق تشير الباحثة إلى ما كتبه القس دولاري في ربيع 1957 تحت عنوان «تأملات قس في موضوع الإرهاب الحضري»، حيث برر اللجوء إلى التعذيب بصفته غاية وهدفا. وحتى إن كان يدخل في خانة الشر، فقد أشار القس دولاري إلى أنه شر لا بد منه لوضع حد «للإرهاب». ويوضح المؤرخ بيار فيدال ناكي بأن «فتاوى» القس كانت بإيعاز من الكولونيل ترانكيي، أحد المدافعين عن الأطروحة الاستئصالية ضد حزب جبهة التحرير في تلك الفترة. وقد تم الترويج لأطروحة التعذيب داخل الجيش باستعمال معجم جديد أشرف على تدبيج مصطلحاته الأب دولاري. التعذيب بواسطة الكهرباء، وهي الممارسة التي كانت رائجة في تلك الفترة، والتي لجأ إليها وبررها الجنرال ماسو، كانت أحد فنون التعذيب الأكثر سادية. وسيبقى التعذيب في تاريخ الاستعمار لطخة أخلاقية ومعنوية لصيقة بصورة فرنسا.
خسائر الحرب.. معركة أرقام كانت معاهدة إيفيان التي تم التوقيع عليها في 18 مارس 1962 تتويجا لسنتين من النقاش العصيب بين الجزائريين والفرنسيين تحركه رغبة مشتركة للخروج من الحرب وموافقة الجنرال ديغول على استقلال الجزائر. كان الهدف عرض ومناقشة جميع القضايا التي يمكن أن تكون محط تعارض بين الطرفين. من هذه الناحية كان محتوى المعاهدة يتضمن رهانا رئيسيا. وعلى الرغم من النقاشات المريرة التي دارت بين الوفدين في شأن هذه المعاهدة وبنودها، فإنها بقيت محط تساؤلات ولم تطبق إلا بصفة جزئية. وبقي تطبيق الاتفاقية رهينا بالوضع الأمني الذي تلا التوقيع عليها، والذي تميز بالانفلات. لكن هذا لا يعني بأن هذه الاتفاقية كانت عديمة الفائدة، بل على العكس مكنت من عودة السلام وولادة بلد مستقل ومبدأ تعاون مميز بين البلدين وإعادة توجيه السياسة الخارجية الفرنسية. بعد التوقيع على السلام أحصى الطرفان خسائرهما البشرية والمادية. أما الخسائر المعنوية فبقيت عصية على التقييم. وفي ملف الخسائر البشرية تطرح مرة أخرى مسألة الإحصائيات ومصادرها. فالإحصائيات الصادرة عن المصادر العسكرية تبقى صحيحة لأن الهيئة العسكرية دونت بالتدقيق عدد الوفيات. هكذا بلغ عدد القتلى من الجنود الفرنسيين 24614 جنديا ما بين 1954 و 1962. أما من جهة «المتمردين» فقد بلغ عدد القتلى141000 شخص، وهو العدد الذي أكدته بعض المصادر القريبة من جيش التحرير الجزائري. أما الضحايا في أوساط المدنيين فيصعب تقديم إحصائيات بشأنهم. إذ تحدثت الصحافة الجزائرية عن مليون شهيد جزائري، أي بمعدل جزائري واحد من ثمانية جزائريين. المشكل هو أننا لا نتوفر على إحصائيات لتعداد السكان بالجزائر عام 1962. وقد حاول المؤرخان غزافيي ياكونو وشارل روبير آجيرون تقديم تقدير يقارب 300000 ضحية. وهو عدد ضخم بالنسبة إلى بلد ناهز عدد سكانه في عام 1954 حوالي 8,5 ملايين. لكن حرب الأرقام استمرت فيما بعد لتشمل «الحاركيين» الذين قتلوا على يد جبهة التحرير أو المختطفين من طرف المظليين. بمعنى أن حرب الأرقام وظفت لأغراض سياسية لتقديم الآخر في هيئته الوحشية والبربرية. حرب الأرقام ما هي إلا مكون من مكونات حروب أخرى، وبالأخص حرب الذاكرة والصور، مما يؤكد الأطروحة القائلة بالماضي الذي لم يمض، والذي وفرت الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر المناسبة لجرد حساباته في انتظار مصالحة قد تأتي ولا تأتي بين فرنساوالجزائر.