لعل الشيء المؤكد هو أن حياة المجتمع تؤسس على عمليتين أساسيتين تخلقهما تصرفات تندرج إما في نطاق عملية التعاون، وهي عندما يعمل الناس بثقافة تشاركية لتحقيق أهداف مشتركة، وإما في نطاق التنافس، وهي الحالة التي تظهر فيها ملامح الصراع بين الناس. صحيح أن عمليات التنافس والتعاون ليست على درجة واحدة في كل المجتمعات وفي كل الأوقات. وتتضح معالم هذا الاختلاف بصورة خاصة في مجال ممارسة النشاط السياسي، حيث الهوة شاسعة بين مجتمعات قد تؤسس تدريجيا للممارسة الديمقراطية ومجتمعات أخرى متقدمة ديمقراطيا، ذلك أن هذه الأخيرة تمر فيها عملية التنافس بشكل هادئ بخلاف النوع الأول. ولا شك أن الباحث عن الأسباب الكامنة وراء ذلك سيقف عند دور البيئة كمؤثر رئيسي من ناحية ما يتوارثه الأبناء عن الآباء، وكذا من ناحية ما تخلقه فئة تستقدم إلى مربع الكبار لتخلق تقليدا وهميا من حيث التأصيل للفعل وشرعنته في الواقع، وهي التي تسيطر في القيم السائدة في المجتمع بشكل تظهر معه كصورة النخبة القادرة على الفعل داخل المجتمع. ومن خلال تطور الأحداث وتسارعها في مجتمعنا خلال الآونة الأخيرة، خصوصا بعد ما اصطلح عليه ب«تقييم المائة يوم على تنصيب حكومة عبد الإله بنكيران»، فإن واقع الحال يفيد بأن محاولة الحكومة الاشتغال وفق المنهجية الديمقراطية وبأدوات حديثة العهد بها هي، لا شك، قيمة مضافة لها بالمقارنة مع حكومة شبيهة بها من حيث السياق والإرادة، هي حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي؛ عوامل كلها تجعل المتتبع يقف عند واقع غير مستحب، لم يكن خافيا على متتبعي المشهد السياسي منذ بداية تشكيل الحكومة وحتى قبلها. لقد بدا واضحا منذ حصول حزب العدالة والتنمية على أكبر عدد من المقاعد أنه يبحث عن القيمة المضافة إلى المجتمع المغربي بالمقارنة مع الحكومات السابقة، خصوصا وأنه يأتي في مرحلة التحولات التي يعرفها الإقليم والتي عكستها الساحة الوطنية من خلال حراك عكس في أحسن الصور استمرار التكامل بين الملك والشعب. من خلال تشكيل الحكومة وما واكبه من اختلالات في التوجهات، لم يكن يخفى، في واقع الأمر، أن عجلة الحكومة لن تدور بالسرعة التي يرغب فيها حزب العدالة والتنمية وفق برنامج طموح كان يعكس الرغبة الكبرى في النجاح في مهمة تنزيل الدستور. لقد أكد الواقع أن المعارضة الرسمية للحكومة موجودة داخل قبة البرلمان، غير أن المعارضة الفعلية والقوية للتوجهات الإصلاحية الحكومية موجودة داخل مكونات الحكومة وفي الأجهزة التابعة لها. لقد عكست الإصلاحات المعروضة إلى حدود الآن كوجه يروم التغيير الفعلي، سواء في وزارة النقل أو وزارة العلاقات مع البرلمان، وبصفة خاصة وزارة الاتصال، (عكست) حقيقة مرة مفادها أن السير بالإصلاح ليس بالأمر السهل والهين كما كان يعاب على الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي الذي كان كثير الكلام عن جيوب مقاومة الإصلاح آنذاك، هذه الأخيرة التي ترعرعت، للأسف، في عهد حكومتين متعاقبتين ليتعاظم دورها بشكل أسس للإطار الموازي للمؤسسات. إن المرحلة بأبعادها المختلفة تجعل الحكومة الحالية ومعها الأحزاب المعارضة مطالبة، في إطار الحفاظ على ثوابت الأمة وعلى المصلحة العليا للوطن، بأن تعمل مجتمعة للتصدي للوبيات الفساد التي لم تعد تتوانى في التعبير عن مواقفها المناهضة للإصلاح جهارا، وهو ما يفرض على الحكومة في شقها المؤمن بالإصلاح أن تعي بأن انتظارات المواطنين ليست بالضرورة زيادة في الأجور أو تخفيضا لأسعار المواد الأساسية بل هي أكبر من ذلك بكثير، وتتجسد في استكمال تحقيق العدالتين الاجتماعية والاقتصادية في إطار مساواة كاملة في الحريات والحقوق بمعانيها الرئيسية، لأن الجميع بات يطرح اليوم نفس التساؤل: على أساس أية معايير تمنح الامتيازات بالمغرب؟ لعل طموح الشعب المغربي المتجه نحو المشاركة في مقاومة الفساد في ظل الظروف غير العادية تجعله يعبر عن الرغبة في التعلق بإرادة الإصلاح، تفاديا للأسوأ وتحقيقا للتطور الإيجابي الذي رغب فيه من خلال صناديق الاقتراع ورضيه الملك، هذا الشعب الذي قال عنه المرحوم الحسن الثاني في استجواب مع التلفزة الدانماركية في فبراير من سنة 1988: «إن الشعب المغربي ليس قطيعا، وأنا لا أحب أن يكون المغاربة كذلك».. قد نستطيع فهم أن حزب العدالة والتنمية، بعد الكم الهائل من الوعود التي أطلقها في حملته الانتخابية والنابعة من إرادته الصادقة لمواصلة الإصلاح، قد وقف عند حقيقة أن المعركة الكبرى التي بدأت تدور رحاها بعد رغبة الشعب ورضى الملك وإرادة الحكومة هي أبعد ما تكون عن تنزيل قوانين جديدة بقدر ما هي مدى القدرة على التصدي لمؤامرة الحط من كرامة المواطنين من طرف مفسدين كانوا إلى عهد قريب أشباحا، غير أنهم اليوم بدؤوا يظهرون أمام الملأ و«بالعين الحمراء» لمناهضة تحرر المواطن المغربي من الجهل ومد اليد ومنطق التصدق. لعل أجمل صورة اليوم للخط الفاصل بين المصلح والمفسد في هذا البلد الغالي أن المفسدين يعاكسون إرادة الإصلاح، ويتعاملون مع الشعب المغربي كما لو أنه قطيع مملوك لهم لا حق له في محاسبتهم.