على مدى قرون، وُجدت دراساتٌ اجتماعية هدفُ أصحابها من ورائها هو وضع الأسس المثالية والواقعية لإصلاح المجتمع باختلاف أنظمة الحكم والأساليب المتبعة بها، وكذا نشر العدالة الاجتماعية بين أفراده على أساس التركيز على الحدث الاجتماعي البارز ومحاولة تشريحه بتعميق البحث بما يسمح به التطور العلمي، من جهة، وبما تتيحه السلطة من هامش تقريري لإبراز الظاهرة وتحليلها، من جهة أخرى. ولعل القاسم المشترك بين كل تلك الدراسات، التي أخذت شكل صور متباينة على مستوى التحليل، كان هو الأمل في أن تحقق في تلك المجتمعات نسبة مهمة من العدالة والمساواة بين الناس، وأن يحصل الفرد داخل المجتمع على ما يحتاج إليه لكي يمارس إنسانيته كإنسان. تنظيم المجتمع هو واقع حال المجتمعات الغربية، وإن بنسب متفاوتة، من خلال إعادة توزيع الثروات بشكل يزيد من رفاهية الأفراد ويقلل من البؤس المنتشر، وكذا تحقيق العدالة وقياس مدى تأثيرها على الأخلاق والسعادة وإن لم ترق بالإنسان إلى مرتبة الكمال الذي حققته فعليا دولة الحق والقانون ببنيات مؤسساتية لا تضيع فيها حقوق. أوضاع الاحتجاجات في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين عكست مدى التخلف الذي تعانيه هذه الدول كتأثير فعلي لانعدام العدالة السياسية والاجتماعية، وبالتالي انعدام أي انعكاس أو تأثير لها في الأخلاق والسعادة، وهو ما عكسته مؤخرا إحدى الدراسات التي صنفت هذه البلدان في درجات متقدمة جدا من التعاسة. صحيح أن الاقتصاد هو عامل موجه لتاريخ البشرية، خصوصا أن العوامل الاقتصادية تلعب دورا مهما في الأحداث وتسارعها، كما هو الشأن بالنسبة إلى الأزمة العالمية الحالية التي انطلقت منذ أواخر سنة 2006، غير أن إهمال العوامل الأخرى، خصوصا منها السياسية والاجتماعية، قد ينم عن نوع من المغالاة وسوء التقدير في نفس الوقت. كل الأنظمة العربية التي تهاوت، بالشكل الذي رأيناه في الثورة، رجحت، خارج سياق العوامل الدولية الطابعة للكون، مؤشرا بمثابة مقياس يقوم على أساس التسلط والقهر المبنيين على سوء التدبير والتسيير الذي عجل بتقسيم المجتمعات إلى فئة قليلة مستغلة وفئة عريضة مستغلة، ومن ثم إلى حتمية الصراع المتطور إلى نزاع حول السلطة لاتساع الاحتجاج نحو «الأكثر عددا والأسوأ حالا» كنتيجة طبيعية لغياب المساواة وتكافؤ الفرص. بالنسبة إلى الحالة المغربية، فإن هناك إجماعا كبيرا حول إيجابية التعاطي مع السياق الإقليمي من خلال دينامية جديدة تفاعلت من خلالها مطالب شعبية واستجابة ملكية تفاديا للأسوأ وتغليبا للمصلحة العليا للوطن. أكيد أن المؤسسة الملكية استطاعت القفز على المرحلة الأولى بتأكيد إصلاحات دستورية شمولية تستجيب لجل تطلعات المجتمع المغربي بمختلف مكوناته وأطيافه، غير أن المطمئنين الآملين في التغيير والتحول إلى مرحلة تنزيل الإصلاحات الدستورية والسياسية أرسلوا إشارات الردة بالعودة المتنامية إلى الاحتجاجات السلمية. ولعل قراءة سطحية للفعل ورد الفعل في هذه المرحلة لا يمكن أن تحيل إلا على مسألة جوهرية لم تستطع خبرة الأدوات الساهرة على عملية الانتقال بالإصلاحات الدستورية والسياسية إلى واقع معيش فأخطأت الموعد قضائيا وسياسيا واجتماعيا؛ فقد بدا واضحا لعموم الشعب -الذي كان متابعا لفضائحِ الموكولةِ إليهم أمورُ المغاربة من خلال عمود مدير نشر جريدة «المساء» والذي شكل بالنسبة إليها أيضا المتنفس الاجتماعي الممكن في ظل عدم الفهم وسوء الفهم- أن ملف هذا الأخير يندرج داخل نسق تغليب قوة ومنطق طبقة قليلة مستغِلة لهموم ومعاناة طبقة عريضة مستغَلة. زد على ذلك غياب الإرادة الحقيقية لمحاسبة ناهبي المال العام والاستهانة بدافعي الضرائب، فقد تطلبت مرحلة تنزيل الإصلاحات إعطاء العبرة للمرحلة القادمة المقصودة من خلال تفعيل الخطب الملكية الداعية إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة. اجتماعيا، بدا الطريق السيار نحو صناعة النخبة على حاله ويتم خارج أو بعيدا عن منطق الكفاءة والمؤهل، في استمرار واضح، للشرخ الكبير بين الخبرة واتخاذ القرار، وذلك بسبب الاستمرار في تغييب النخبة المثقفة العضوية القادرة على ريادة المشروع التغييري الهادف إلى تحديد عوامل الأعطاب وإمكانات التحرر منها. سياسيا، ينطلق المشهد السياسي على إيقاع توعكات رهيبة تضيع فيها مصلحة الوطن والمواطنين، قوامها انعدام الثقة والتشكيك بين الفاعلين ورغبة آمل في التغيير ومحافظ على الوضع ومتصيد لفرصة يعتبرها تاريخية بالنسبة إليه في تغييب تام للمصلحة العليا للبلاد. المحسوبية عكستها انتهازية الراغبين في استمرار الذرية في المؤسسة التشريعية بلائحة تتناقض مع مبدأ المساواة الدستوري عن طريق إفساح المجال للأبناء من خلال لائحة مضمونة اسمها 35 سنة أو 40 وما تحت. بدأ الشارع السياسي المغربي يتحدث عن الحكومة المقبلة وعناصرها، بل عن عضوية مجلس النواب؛ فإن كانت قراءة الطالع غير واقعية وتندرج ضمن الإشاعة، فإن الواقع يفرض الالتفات إلى الأحزاب التي تعيد ترشيح نفس الوجوه بنفس الأجواء. إن تسارع الأحداث إقليميا يستعجل، أكثر من أي وقت مضى، القطع مع أنصار التنمية المعطوبة والاختيارات اللاشعبية ودرجات الاحتقان المجتمعي التي لا سبيل إليها إلا بالابتعاد عن الترقيع والتلميع والاقتراب من «أولاد الناس» المحبين للوطن والملك، بدل الاحتفاظ بدائرة الإحباط والتعاسة الناتجة عن التهميش المقصود كتخريجة أكيدة للاستغلال غير المبرر، كما أن الظرفية تقتضي الانخراط القوي للنخبة المثقفة في مواجهة الفساد المتستر ورموزه، وتأديتها لواجبها الوطني ومهمتها التاريخية التي أكدتها التجارب الإنسانية.