يدور نقاش كبير في فرنسا حول القضاء، حيث تراكمت عدة تدخلات لتجعل هذا النقاش عميقا ومتنوعا، فالمجلس الأعلى للقضاء الفرنسي أصدر تقريرا أشرف عليه القاضي «ميشيل بوكام» استنتج في خلاصته أن القضاة يشعرون بتهديد كبير لاستقلاليتهم، وأن القضاة الفرنسيين بشكل ما فقدوا البوصلة لكونهم يتلقون توجيهات عامة من وزارة العدل كثيرا ما تتسم بالتضارب والتناقض. كما يلاحظ التقرير أن القضاة يحجمون عن التعاون مع مساعدي العدالة من الخبراء وغيرهم، مما يجعلهم يشتغلون لوحدهم وهذا يضرب في الصميم الاشتغال الجماعي الذي يمنح تصورا أوسع لقضايا المتقاضين، كما أهاب هذا التقرير بالقضاة التعاون في ما بينهم لتسريع المساطر وتحسين جودة خدمة القضاء لتجاوز أزمة الثقة المستشرية في فرنسا بين الشعب الفرنسي وقضائه. وأكد التقرير على أن أزمة القضاء الواقف في فرنسا، أي النيابة العامة، ناتجة عن كون هذا القضاء يتحكم فيه التدرج والسلم الإداري، مما خلق هوة عميقة بين القضاء الجالس والقضاء الواقف وتعتبر إحدى الدراسات التي نشرت أخيرا في فرنسا: - أن %69 من المواطنين لا يفرقون بين النيابة العامة والقضاء الجالس. - و %51 من الفرنسيين مقتنعين أن القضاء الفرنسي غير مستقل عن الجهاز السياسي وقد وجه بعض المهتمين الاتهام إلى «قضية دوترو» قضية استغلال الجنسي للأطفال التي عرفت خطأ فظيعا باعتبارها أحد العوامل التي ساهمت في تعميق أزمة الثقة في القضاء الفرنسي. ومما زاد من أزمة القضاء الفرنسي هو الحكم الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ضد فرنسا المؤرخ في: 13/07/2008 والذي جاء فيه أن جهاز النيابة العامة الفرنسية ليس سلطة قضائية، لأنه يفتقر إلى عنصر الاستقلالية عن الجهاز السياسي، وهذا القرار ضرب في العمق اجتهادات المجلس الدستوري الفرنسي ومحكمة النقض الفرنسية التي تواترت أحكامها، معتبرة أن النيابة العامة جهاز قضائي وقد سايرته المحاكم الإدارية المغربية في أحكامها المتعددة والتي من خلالها اعتبرت أن قرارات النيابة العامة هي قرارات قضائية لا تجوز مساءلتها أو الطعن فيها أمام القضاء الإداري. هذا التقييم هو تقييم للقضاء الفرنسي ومن طرف القضاة الفرنسيين أنفسهم، وإلى حين كتابة هذه السطور لم أقرأ أنه سبق لجهاز قضائي في المغرب أن انتقد نفسه أو على الأقل قيمها من حيث الأداء. فالمجلس الأعلى للقضاء لا يقوم إلا بدور مديرية الموارد البشرية، أو على الأقل بتمرير اللوائح بالنسبة إلى التعيينات في المناصب التي توضع سلفا وفقا لتحالفات على ضفاف نهر سبو باقتراح من هذا أو ذاك، وكل ذلك في إطار تحالفات تثير الاشمئزاز ولا تعفي القضاء المغربي من مرض التحالفات هذا، فما إن تنتهي مجموعة حتى تنبعث أخرى من عدم، أما ودادية القضاة فلها اهتمامات أخرى متعددة ومختلفة لا يعلمها أحد، ولكن ما يعلمه عنها الجمهور أن اهتماماتها تقع خارج موضوع الدفاع عن استقلال القضاء. ولست أدري كيف أصبح لها رئيس، فلا علمت بتنصيبه ولا اطلع الجمهور حتى النقاد منهم بقرار ذلك الموضوع، ربما تلك إشارة ملكية ذكية على كل واحد منا أن يقيمها كما يحلو له. هذه الودادية التي لم تستطع أن تهيكل نفسها حتى الآن وضدا على القانون لا أحد يستطيع أن يسائلها عن خرقها له وفي مدتها القانونية، بعد أن تم قبر ملف الطعن فيها بعد حكم بالاختصاص ومن ثم حرمان القضاة أنفسهم من حقهم في التقاضي. ويبقى موضوع إصلاح القضاء مجرد نقطة تثار في برامج سياسية يعلم الله وحده مصيرها، فهذه الجهة السياسية تعلن ضرورة إصلاحه وتلك تسكت عنه والأخرى تخاف منه، مما يجعل المرء يشعر بنوع من الإحباط متسائلا: هل إصلاح القضاء وصل إلى درجة أصبح معها ميؤوسا منه؟ الغريب في الأمر أن نظامنا القضائي صورة رديئة للنظام الفرنسي، غير أن الفرنسيين أدخلوا على جهازهم القضائي عدة إصلاحات ووجهوا إليه عدة انتقادات ليستنتجوا أخيرا أنه يعيش في مأزق يتعين معه جديا التفكير في إصلاحه وتأتي المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لتعتبر أن نصف القضاء الفرنسي ليس قضاء بل مجرد جهاز إداري ويخرج القضاة الفرنسيون في مظاهرات يوم 23/10/2008 منددين بالوضعية التي وصلت إليها وتُساءل الوزيرة أمام البرلمان ويتدخل رئيس الدولة وتقوم القيامة. في وطننا جاء تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة الذي وضع على الرفوف بعد وفاة صاحبه كأنه مرض معد لا يجب لمسه أو إثارته أو التفكير فيه، والذي جاء فيه هو أن القضاء يجب إصلاحه غير أن هذا التقرير وافته المنية كصاحبه وظلت دار لقمان على حالها، بل منذ أن وضع النظام القضائي صلب الدستور وخاصة المواد من 82 إلى 89 ونحن نعيش في مأزق قانوني، بدعوى أن إصلاح النظام القانوني للقضاء يعني تعديل الدستور ومن يجرؤ على ذلك؟ فحتى وزير العدل قرر أن يكون محايدا، غير أن حياده وصل إلى درجة من السلبية جعلت الحبل يلقى على الغارب، وكأن هذه الوزارة لا وجود لمن يقودها إذا لم أقل فقدت قرار توجيهها، وكأن حظنا في نوعين من الوزراء أحدهما يتدخل في كل شيء والآخر لا يتدخل في أي شيء ولا وسط بينهما، في ثلاثين مليون مغربي لا يوجد شخص يمكن أن يكون وزيرا للعدل يقوم بدوره بأنفة ونزاهة وصرامة وأن لا يتدخل في استقلال القضاء ولا يترك القضاء يفسده المفسدون. أما حياد الوزير فلا يعني السلبية المطلقة وإخفاء العجز وراء شعار استقلال القضاء ودوره، فلكل مجاله ولا يعني اشتغال الوزير أنه بالضرورة تدخل في استقلال القضاء. وإذا كان القضاء الفرنسي باستقلاليته وتاريخه وقوته فقد البوصلة، كما جاء على لسان صاحب التقرير، فماذا نقول عن القضاء المغربي، وما يحز في نفسي هو أن لنا تاريخا ولنا داخل هذا البلد قضاة تخجل حتى من رفع عينيك لعظمتهم ونزاهتهم وعلمهم وحسن سيرتهم، لكنهم يقررون الانزواء ويتركون المجال لتحالفات تثير التقزز. وللحديث بقية.