أصيبت العلاقات القائمة منذ حوالي عشر سنوات بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي واتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا في مقتل، فبعد منع عدد من العلماء الذين دعاهم الاتحاد للمشاركة في مؤتمره السنوي من دخول البلاد، وجه ساركوزي تحذيرا إلى الاتحاد من مغبة صدور كلام يحرض على العنف خلال هذا المؤتمر... ويبدو أن التوجه الجديد للسياسة الساركوزية تمليه الانتخابات التي أصبحت على الأبواب، والتسابق المحموم بينه وبين مرشحة اليمين المتطرف حول ما يدغدغ مشاعر الفرنسيين، خصوصا بعد الهجمات التي نفذها الجزائري محمد مراح. والتجمع عبارة عن حج مصغر يؤمه الكبار والصغار. المحجبات والمبرقعات والسافرات. وتكتظ على أرضية المرآب وجنبات الطرقات السيارات الوافدة من كل أنحاء فرنسا وكذا من بلجيكا وألمانيا. إنه الموعد السنوي الذي تمتزج فيه «البيزنس» بالدين والسياسة. كما يقف فيه المسلمون على آخر تيمات الساعة. هكذا سيشارك مبدئيا كل من أحمد جاب الله، توكل كرمان (الحائزة على جائزة نوبل للسلام)، طارق رمضان، ( الذي أسف وزير الداخلية الفرنسي على مشاركته)، الشيخ عمر عبد الكافي، في فعاليات هذا التجمع. خروج الاتحاد عن نطاق الوصاية اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا هو صنيع من صنائع ساركوزي لما كان وزيرا للداخلية، وفي الوقت الذي كان يسعى إلى إخراج الإسلام من الدهاليز لمنحه نوعا من الشفافية والاعتراف، أي تقنينه ومراقبته من قبل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي أطلقه عام 2003. لكن سرعان ما خرج الاتحاد عن وصاية السلطات الرسمية، وبالأخص وزارة الداخلية والأوقاف وعن نطاق نفوذها، ليصبح مؤسسة مستقلة تابعة أيديولوجيا وعقائديا للإخوان المسلمين، لكنه يعمل بمنأى عن أي نفوذ للجزائر أو المغرب، كما هو الشأن بالنسبة لمسجد باريس الكبير الذي يسيره دليل بوبكر أو المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي يرأسه المغربي محمد الموساوي. ويبقى الاثنان تحت إمرة وزارة الداخلية والإيليزيه، فيما ينهج اتحاد المنظمات سياسة الشد والجذب مع السلطات الرسمية، وهو الشيء الذي لا ينال رضا واستحسان السلطات الفرنسية. صالون البورجيه، إذن، هو الفرصة الذهبية التي يستغلها الاتحاد لإبراز قوته، لا على مستوى الجالية الإسلامية المغاربية المقيمة بفرنسا، بل على مستوى مجموع الجالية: أتراك، إيرانيون، مشرقيون، آسيويون، حتى وإن كانوا عدديا لا يمثلون الأغلبية. وهي الفرصة التي يمرر فيه الإخوان المسلمون أفكارهم عبر الكتب، تسجيلات الفيديو، وعبر المحاضرات... الخ. نافذة على العالم وقد نجح لقاء البورجيه في توسيع دائرة النقاش لاحتضان أسماء وشخصيات وازنة في عالم الفكر والسياسة والإعلام. إذ سبق أن حاضرت أعلام أوروبية وأمريكية في قضايا الإسلام، الإسلاموية، التطرف، المقدس، المرأة، التصوف... الخ، بمعنى أن الاتحاد لم يرغب في إبقاء المنتديات داخل نطاق إسلامي-إسلامي، بل أفسح المجال لأقلام غربية تهتم بالشأن الإسلامي لإبداء الرأي في القضايا التي تشغله. ظرفية حساسة تنعقد دورة هذا العام في ظرف سياسي عرف فيه الإسلام، منذ طرح الترشيحات الأولى لرئاسية فرنسا وانطلاق الحملة، مزايدات متواصلة بين اليمين الكلاسيكي بزعامة نيكولا ساركوزي واليمين المتطرف بزعامة مارين لوبين، وذلك في قضايا اللحم الحلال الذي شغل لوقت طويل النقاش، و»تكاثر المسلمين» على التراب الفرنسي، وإقامة الصلاة في الأزقة. وقد نهل ساركوزي من أطروحات الجبهة الوطنية، وبالأخص في قضايا الهجرة لمطرقة الإسلام والمسلمين. وقبل أن يصعد شخصيا إلى الحلبة، عوضه في هذه المهمة، وزيره في الداخلية، كلود غيان الذي أفتى بتخريجات غريبة عجيبة في مسألة القيم والتفاوت بين الحضارات. لكن تدخل محمد مراح في المشهد على خلفية تصفيته لسبع ضحايا، أفرج بالكامل عن مكبوت قديم تجاه الإسلام والمسلمين، مع العلم أن الجاني يبقى ابن فرنسا، وأن الفاجعة التي أقدم عليها تبقى فرنسية-فرنسية، كما فسرت ذلك السلطات الجزائرية التي رفضت أن يدفن على أرض الجزائر. تخبرنا هذه المأساة عن سلسلة فرضيات تخص تسخير الشاب كعميل من طرف الاستعلامات الفرنسية، وذلك للتجسس على العناصر المتأفغنة من الفرنسيين من أصول عربية، الذين يقومون بجولات في باكستان وأفغانستان للوقوف على حال وأحوال القاعدة. شطب مدراء الاستعلامات الداخلية والخارجية هذه الفرضية، حتى وإن خرجت محامية محمد بنعلال مراح لتأكيد أن محمد الابن كان يعمل لصالح المخابرات الفرنسية. النقطة الثانية التي تخبرنا عنها وهي أن الجرح بين فرنساوالجزائر لم يندمل بعد. الهوية المزدوجة وانفصام الشخصية انفجرت هذه القضية في الوقت التي تحتفل فيه فرنساوالجزائر بالسنة ال 50 لاستقلال الجزائر وما يرافق هذا الحدث من تشنجات. تعاملت الجزائر مع محمد مراح كما لو كان «حاركي» لا يستحق أي اعتراف. أما فرنسا فلم تعترف به كفرنسي، بل كإرهابي من منظمة القاعدة. بهذا المعنى تطرح مسألة محمد مراح قضية الهوية المعقدة وكذا مسألة الولاءات المزدوجة للبلد الأصل وبلد التبني. فالاندماج على الطريقة الفرنسية معناه نظريا ومبدئيا التنصل للأصول. لكن ذلك لا يجعل من الشخص فرنسيا. حتى وإن ولد من أصول عربية في فرنسا وتشبع بقيم الجمهورية، فإنه يبقى دائما في أعين فرنسا عربيا. لذا تطرح قضية محمد مراح أيضا مسألة الاندماج غير المكتمل. دعاة غير مرغوب فيهم وجد اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا نفسه، رغما عنه، مورطا في تداعيات هذه القضية، وذلك على خلفية دعوته لستة دعاة مسلمين للمشاركة في فعالياته، هم يوسف القرضاوي، عكرمة صبري ( فلسطين)، عايض بن عبد الله القرني، عبد الله باصفر (العربية السعودية)، صفوت حجازي (مصر)، محمود المصري. ولكل من هؤلاء موقع في مشهد الإفتاء كسلط دينية ومرجعيات إسلامية. لكن السلطات الفرنسية رفضت الترخيص لهم بحضور هذا اللقاء. وقد تم اختيار قرار المنع في قمة السلطة، إذ حادث ساركوزي مباشرة أمير قطر ليخبره بأن الداعية القرضاوي، شخص غير مرغوب فيه. كما بررت وزارة الداخلية والخارجية الفرنسية، في بيان مشترك، رفضهما السماح لهؤلاء الأشخاص بدخول التراب الفرنسي كونهم «يشكلون خطرا على الأمن العام.» وتذرعت السلطات الفرنسية بترسانة كاريكاتورية من الفتاوي نسبت إلى القرضاوي على المباشر على قناة الجزيرة، مثل إباحته ضرب النساء في حالة عصيانهن، دعوته إلى حرق المثليين، واستعمال السيف والبندقية مع اليهود كسلاح لمحاورتهم، وإباحة العمليات الانتحارية. الشيخ القرضاوي ليس داعية دين، بل داعية سياسة أيضا، بمعنى أنه يقوم بالدعاية لمشيخة قطر مقابل راتب من ذهب. كسب مرجعيته بتسخيره للإسلام السياسي وذلك في سياق انبثاق منظمة القاعدة و»نجاحاتها» إعلاميا. وقد سخر قناة الجزيرة كمنصة لإطلاق فتاويه التي تحولت إلى موعد مقدس لملايين المسلمين. وبهذا أصبح الداعية مثلما هو شأن télé-évangélistes les المعروفين بخطبهم النارية في مواضيع الغيب، القيامة، عودة المسيح والتكفير عن الخطايا. المفارقة هي أن الشيخ القرضاوي زار وحاضر في فرنسا، مؤخرا، من دون أن يستنفر مجيئه أو حضوره السلطات الرسمية أو يخرج الاستئصاليين، من الصحافيين من أمثال محمد السيفاوي، كارولين فوريست، ألكسندر آدلر... عن صمتهم. المعروف عن هذه الأقلام المسخرة هو تصرفها البافلوفي تجاه كل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين. فبدل أن يعمق محمد السيفاوي النظر في قضية محمد مراح والانفصام الذي يعاني منه بعض الشباب المغاربي وليس الجزائري وحسب، «ينبح» على مانشيتات الصحافة الفرنسية وعلى القنوات لإبراز أنه الصحافي المتنور والحداثي، وذلك لإرضاء خاطر بعض الأطراف الإسلاموفوبية. التصريح الذي أدلى به الكوميدي والممثل جمال الدبوز يبقى أهم بكثير من التخريجات البهلوانية لمحمد السيفاوي. فقد أشار الكوميدي في مقابلة مع صحيفة «لوسوار» البلجيكية إلى أن محمد مراح ليس واحدا ووحيدا، بل هم كثر ويعرفهم جيدا. وربط الدبوز بين الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها شباب الضواحي وبين انبثاق نزعات الانزلاق نحو العنف. وحذر الكوميدي من الوقوع في الخلط والتضليل. «قد يركب بعض الأغبياء على هذا الحدث للتحول إلى أبطال»، يشير جمال الدبوز. مزايدات من حول الإسلام الراديكالي الإسلام الراديكالي هو اليوم موضوع مزايدات بين قوى اليمين واليمين المتطرف. وقد بلغت هذه المزايدة أوجها في الثلاثين من هذا الشهر لما دعت الجبهة الوطنية، بزعامة مارين لوبين، إلى حل اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا، الشيء الذي رد عليه الاتحاد برفع دعوى قضائية ضد الجبهة. ويبدو أن السلطات الفرنسية أرادت تطبيق استراتيجية جديدة تقضي بإحداث رجة قوية داخل الوسط الإسلامي من أجل التخويف وإحداث البلبلة. بعد تفكيك بنية «فرسان العزة» وإيداع بعض من ناشطيها في السجن، طردت وزارة الداخلية في الثاني من أبريل 3 أئمة راديكاليين: إمام جزائري، إمام مالي، إمام سعودي، فيما سيشمل الطرد لاحقا إمامين من تونس وتركيا. يشار إلى أن الإمام الجزائري، علي بلحداد، كان ضالعا في العملية الإرهابية التي تعرض لها فندق آسني بمراكش عام 1994. أين الربيع العربي من الخطاب الفرنسي؟ ألم ترتكب الحكومة الفرنسية، باسم حسابات انتخابية ضيقة، خطأ سياسيا فادحا برفضها السماح لهؤلاء العلماء بولوج التراب الفرنسي والمشاركة في فعاليات لقاء اتحاد المنظمات الإسلامية؟ ألا يتناقض هذا الموقف مع المواقف التي سبق أن أعرب عنها آلن جوبيه، وزير الخارجية الفرنسي، لما طالب البعثات الدبلوماسية المعتمدة في البلاد العربية بتوسيع مساحة الحوار في اتجاه الإسلاميين؟ المفارقة أن يشمل المنع داعية مثل القرضاوي، الذي تردد على فرنسا من دون حرج، والذي كان على نفس الخط الأطلسي الذي دافع عنه وبحد السلاح، نيكولا ساركوزي في ليبيا، كما يقاسمه الرأي أيضا في ضرورة اقتلاع جذور بشار الأسد من سوريا. وقد أباح دمه في خطب نارية. في الوقت الذي صعد فيه الإسلاميون إلى السلطة في كل من تونس، المغرب، مصر، وهم مقربون من جماعة الإخوان المسلمين، ألم يكن حريا بفرنسا أن تبقى على الحوار الذي فتحته مع بعض هذه الأطراف عوض تحويلها إلى فزاعات، وبالتالي التعرض إلى غضبها؟ ذلك أنه من غير المستبعد أن تتحول فرنسا إلى «الشيطان الأكبر» في أدبيات وفتاوي هؤلاء الإسلاميين. ما هو مؤكد هو أن شبح محمد مراح سيخيم على أروقة البورجيه، كما سيهيمن صعود الإسلاميين إلى السلطة وعدم حضور الدعاة المسلمين في لقاء البورجيه، على الأذهان وفي محادثات ومناقشات المشاركين.