خلّد المغرب، أمس الاثنين، على غرار بقية بلدان العالم، اليوم العالمي للتوحد، ويتم الحديث عن هذه الإعاقة بنوع من الاحتشام، لأن قلة هم من يعرفون ماهو التوحد؟ فحتى المربون يجهلون كيفية التعامل مع هذه الفئة من الأطفال.. والمدارس التي تخصص لهم أقساما قليلة جدا، لهذا فحضورهم شبه منعدم في المنظومة التعليمية. «المساء» تقترب من هؤلاء الصغار، لمشاركتهم يومهم العالمي وحقهم في الادماج وفي حياة كريمة. يحكي التاريخ عن كثير من العباقرة المصابين بالتوحد، مثل بيتهوفن ونيوتن وإينشتاين وفان خوخ وغيرهم، لكنْ ليس كل متوحد يمكن أن يصبح عبقريا إلا إذا وجد من يهتم به.. لكن ما يؤسَف له أن كثيرا من الأسر لا تعرف هذا المرض، لأن أعراضه تختلف من طفل إلى آخر. لكن المختصين يُجمعون على أن التوحد هو إعاقة تصيب المخ فتنقص من قدرة الاستيعاب لديه وتؤثر على النمو الطبيعي، وتختلف أعراضه من طفل إلى آخر، ويصعب على المصابين بالتوحد التواصل والتفاعل الاجتماعي والارتباط بالعالم الخارجي. وينتشر التوحد عند الذكور أكثر منه عند الإناث، والتوحد غير معروف لدى الكثير من الناس، ويمكن للآباء اكتشاف المرض بعد السنة الأولى من عمر الطفل .فإذا لاحظوا أن ابنهم لا يقدر على نطق الكلمات السهلة، مثل «ماما»، «بابا» ولا ينظر في عين الآخرين ولا يبتسم للمداعبة ولا يستجيب عند سماع اسمه ويرتبط ارتباطا شديدا بلعبة واحدة ولا يستطيع نطق كلمتين حتى سن العامين.. فهناك احتمال كبير لأن يكون مصابا بالتوحد.
ابني ذكي تقول فاطمة: «لديّ طفلان.. كبيرهما «عادي».. أما الصغير فقد لاحظت عليه أنه مختلف، فهو كثير الحركة، لا ينتبه، ويفعل ما يريده، وكثير الشرود ويظل صامتا، ليعيد علينا كل ما قلناه، رغم أننا كنا نظن أنه غير منتبه.. وجدت صعوبة في تسجيله في المدرسة، إذ ترفضه كل مدرسة أسجله فيها وأصادف بهذا الرد: «ابحثي له عن مدرسة تهتم بهذا النوع من الأطفال».. بصعوبة وجدت مدرسة تفهمتْ حالته، لأن مديرها كان يعرف أن الطفل المتوحد لا يختلف عن باقي أقرانه.. فرق كبير بين أوربا والمغرب ابني متوحد. كنت أعيش في أوربا، لم يكن لديّ مشكل، لأن المدارس هناك تهتم بهذا النوع من الأطفال، لكن مجيئي إلى المغرب، من أجل العمل، جعلني أعيش أوضاعا صعبة، لأنني وجدت كثيرا من المدارس لا يعرف المشرفون عليها حتى ما معنى التوحد.. وحتى الذين يعرفونه ليست لهم آليات لإدماج هؤلاء الأطفال والاهتمام بهم، كما أن الجمعيات المهتمة بهذا النوع من الأطفال قليلة. شهادة مربٍّ طفل ذو ثلاث سنوات، يمضي وقته في تفحص الأمكنة الجديدة، دون أن ينشغل بالأشخاص من حوله.. مفتون بالأشياء الميكانيكية، ويستطيع أن يبقى لفترات طويلة لتشغيلها وفي تأمل نتائجها وآثارها، يتسلق بخفة كبيرة فوق الموائد وكل أثاث المنزل أمامه، لا يمزح عندما يسقط على الأرض، وكأنه فاقد الشعور بالألم.. لكنْ، في المقابل، هو حساس وسريع التأثر حين يختفي عنه شيء اعتاد رؤيته في مكان معين أو موضوعا على هيئة معينة في زاوية محددة.. تثور فورة غضبه عند كل تغيير طفيف، ويبدأ في تعنيف ذاته، وكلما حقق مبتغاه، يشرق وجهه بابتسامة عريضة وخاطفة، في عزلة واستغراق.. أمينة.. التوحد قضية وطنية يقول إدريس مهني، وهو يحكي عن معاناته وزوجته، عندما لاحظوا أن ابنهم الصغير مختلف عن إخوته: «أخذناه إلى أطباء، لكنْ لا أحد استطاع أن يُشخّص حالته.. وكم هو مؤلم أن تعانق طفلك ولا يحس بك.. وتبتسم له ولا يبادلك الابتسامة ويعيش معك في نفس البيت، لكنه غير موجود، إذ له عالمه الخاص.. لا يوجد فيه أي أحد من محيطه، حتى نحن، أبويه.. احد المختصين هو الذي حدّد حالته، صدمنا في البداية، لأننا لم نكن نعرف هذه الإعاقة، لكنْ كنا نواسي أنفسنا قائلين إن كثيرا من العباقرة كانوا متوحدين، لهذا من أجل ابني ومن أجل كثير من الأطفال، تم تأسيس جمعية «إدماج» من أجل مطالبة المسؤولين بحق هؤلاء الصغار في الإدماج، لأن إعاقة التوحد تعرف إنتشارا مهولا وسريعا في مختلف مناطق العالم، حيث تقدر نسبة المصابين بها، اعتمادا على إحصائيات مركز التحكم في الأمراض في الولاياتالمتحدةالأمريكية، بإصابة واحدة من بين كل 150 طفلا، رغم الإمكانيات المتاحة والمراكز المتطورة في الرعاية الشاملة والأبحاث العلمية المسترسلة. والمغرب، كباقي الدول يوجد فيه عدد كبير من الأشخاص المصابين بهذه الإعاقة، يعيشون في ظروف صعبة للغاية تسبب في كثير من التصدعات العائلية والمشاكل المترتبة عنها، كالمعاناة النفسية والأفق المظلم والتكاليف المادية المرتفعة لرعاية الشخص المصاب التي تتجاوز في غالب الأحيان الحد الأدنى للأجور للغالبية الساحقة من الأسر». كما ناشد رئيس الجمعية السلطات الحكومية، باعتبارها مسؤولة عن صحة المواطنين، بتبني إعاقة التوحد كقضية وطنية تستلزم وضع برنامج وطني يأخذ بعين الاعتبار ناقوس الخطر الذي ما فتئت تدقّه الجمعيات المنضوية تحت لواء تحالف الجمعيات العاملة في مجال إعاقة التوحد في المغرب، من أجل النهوض بوسائل الرعاية الشاملة، التي تتطلب وقفة حازمة ودراسة معمقة وخطوات جريئة لجميع القطاعات الحكومية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتدارك الفرص الضائعة، قبل فوات الأوان، في سبيل بلورة برنامج وطني طموح يوفر خدمات متميزة ورائدة، على غرار باقي الدول العربية، التي قطعت أشواطا كبيرة في مجال رعاية الأشخاص المصابين بإعاقة التوحد.. مرجعية هامة ومذكرات ساخنة
يقول حميد حافي، متخصص في التربية الخاصة للمعاقين: باعتماد وثيقة جومتيان (مارس 1990) المعروفة بالإعلان العالمي للتربية للجميع -التي تشكل الإطار العملي لتلبية الحاجات التربوية الأساسية- وتأسيسا على إعلان سلامنكا (يونيو 1994)، الذي يقدم الإطار العملي للتربية والاحتياجات الخاصة تحت إشراف «يونسكو»، انخرطت المملكة المغربية، مند 23 شتنبر 1994، في السياق الدولي وقطعت وعدا ل»الأطفال في وضعية إعاقة» بتطبيق القوانين من أجل تكافؤ الفرص وتنفيذ الإستراتيجيات طويلة الأمد من أجل تفعيل برنامج العمل العالمي الخاص بالأشخاص المعاقين. وعليه، تعهدت وزارة التربية الوطنية، بمعية شركائها في القطاع الحكومي، بضمان الولوج المتساوي للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة إلى المنظومة التربوية، وسطرت لذلك أهدافا نجدها في مسودة أي اتفاق مع الشركاء، على رأسها الاتفاقية الرباعية (فاتح أبريل 2005) ونلخصها في: إحداث أقسام للدمج المدرسي في جميع الأسلاك (ابتدائي، إعدادي وتأهيلي) وولولوجيات داخل المؤسسات التعليمية وتنظيم تربوي مواكب ووضع خريطة مدرسية دامجة و معينات ديداكتيكية مكيفة ومخطط لتكوين الفاعلين في مجال الدمج المدرسي وإدماج تدريجي لمصوغة التربية الخاصة في مراكز التكوين وإحداث ورشات من أجل صنع الوسائل الديداكيتيكة الخاصة بالتلاميذ المعاقين. رؤية وطنية غائبة الى حدود سنة 2005، و حسب معطيات المخطط الاستعجالي، «تم إنشاء 432 حجرة دراسية للإدماج المدرسي في مختلف الأكاديميات الجهوية وتم تكوين هيئة تدريس متخصصة في ميدان الإعاقة (113 مدرسا، 13 مفتشا و10 منسقين)». وبعد مرور ما يقرب من عقدين على انطلاق تجربة الدمج المدرسي، وإلى حدود الآن، يلاحظ المتتبع أن الهوة ما زالت سحيقة وأن المسافة غير معقولة بين الأهداف المعلنة والإنجازات المتحققة على أرض الواقع، مما يدعو إلى فسح المجال لرؤية نقدية وسؤال محدد: أين الخلل؟.. إن المتجول بين أكاديميات القطاع المدرسي يجد أن العمليات التي تم القيام بها، إلى حد الآن، من أجل تمدرس الأطفال في وضعية إعاقة تبقى محدودة، وترتبط بمبادرات فقيرة من المجتمع المدني أكثر مما ترتبط بتدابير ذات بعد وطني. كما أن شريحة عريضة من الأطفال المعاقين لا يتابعون دراستهم وأن ولوج الأقسام الدراسية العادية ليس متاحا إلا لفئة محدودة وأن الأقسام المدمجة المخصصة للأطفال المعاقين لا تهم إلا مرحلة التعليم الابتدائي.. وأن كثيرا من المؤسسات المحدثة ليست فيها ولوجيات وأن المتخصصين لدى الوزارة في التأطير أو التفتيش في التربية الخاصة بهذه الفئة منعدمون.. وأن التجارب المحدودة في الإدماج المدرسي للمعاقين ليست سوى إدماج مكاني لا يرقى إلى الإدماج الجزئي أو الكلي حسب الحالات، على سبيل المثال حاملو متلازمة «آسبرغر» Syndrome d'Asperger)) من أطفال التوحد الذين يتمتعون بالقدرة الذهنية واللغوية والإدراكية على مواكبة التمدرس. خلل مركزي إن الخلل مركزي يكمن في غياب الرؤية وفي تفشي الذهنية البيروقراطية في مقاربة المواضيع ذات الصلة بالعمق التربوي والنفس -اجتماعي. لقد عرفت تجربة الدمج المدرسي انطلاقة قوية مع صدور المذكرة 104، بتاريخ 28 شتنبر 1998، ونشاط متميز لمديرية الدعم التربوي القوة الاقتراحية الساهرة على تتبع هذه الأقسام، وتعيين ثلاثة أفواج من المتخصصين من حاملي شهادة «الميتريز» في التربية الخاصة بالمعاقين من كلية علوم التربية ونشاط مكثف لجمعية «إدماج» للمعلمين العاملين في الأقسام المدمجة وانفتاح على برنامج «RBC»: التأهيل المرتكز على المجتمع المحلي.. وكانت الأرضية خصبة لانتقال نوعي لتجربة وطنية آنداك. كان هذا العصر الذهبي مرحلة جنينية لتجربة واعدة أُجهِضت، وما تفكيك مديرية الدعم التربوي وتبخيس الوضعية المالية والإدارية لخريجي المتريز في التربية الخاصة بالمعاقين وتجاهل تخصصهم -رغم قرار الجريدة الرسمية- إلا هدر بشري غير مسبوق! لقد عجزت الوزارة طيلة عقدين من الزمن (وما تعنيه هده المدة بالمقياس الأممي) عن صناعة كفاءات وصيانة خبرات وطنية واعدة في مجال التربية الخاصة، فلا يذكر لها الآن مفتش أو مؤطر تربوي متخصص عدا بعض الفاعلين المهمشين القابضين على جمرة التخصص، وكان من نتائج هذا الوضع ضعف القدرة التنسيقية في جل الأكاديميات من أجل تدبير الشأن التربوي للأقسام المدمجة وحضور النفَس القصير في تتبع البرامج التي أصيب معظمها ب»السكتة القلبية» بمجرد مغادرة روادها الأجانب أرض البلاد. إن التعاطي الجاد مع الدمج المدرسي للأطفال في وضعية إعاقة هو إرساء لفلسفة الإدماج والبيداغوجيا الفارقية والتعلم الوظيفي والتعاون المدرسي والمدرسة الجامعة ومشروع المؤسسة والقرب والمواكبة المدرسية.