شهدت الأيام القليلة الماضية ضربا آخر من ضروب المقاومة الحقيقية التي يقودها نضال أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ليقطفوا أزهار الربيع الغزاوي في دحرهم لأسطورة القبة الحديدية التي أقيمت لها الدنيا ولم تقعد إلا وهي منهزمة مخفقة مكلفة في النصف الأول من مارس الجاري تحت وطأة صواريخ المقاومة التي دكت الجنوب الإسرائيلي. عدوان الاحتلال الإسرائيلي على القطاع له مجموعة من الأسباب التي تفتتت في مهب الريح، ومن أهمها تجريب القبة الحديدية ومدى قدراتها الدفاعية على الجنوب الإسرائيلي، الأمر الذي فرض معطيات جديدة على الأرض لصالح المقاومة، أفرزت للعالم ككل أن المقاومة كخيار للشعب الفلسطيني هي الكفيلة بإرجاع حقوقه عبر الدرس الأهم في هذا العدوان وهو انهيار أسطورة القبة الحديدية. أسباب العدوان في مهب الريح فشلُ العدوان الإسرائيلي الأخير مسألة بادية للعيان في ظل عدم تحقيقه لأهدافه المسطرة والمتمثلة على الأرض في زعزعة البنية التحتية للمقاومة عبر اغتيال أحد كوادرها الشهيد زهير القيسي، أمين عام لجان المقاومة الشعبية، والعمل على التحكم من خلال ذلك في بوصلة العدوان على القطاع المحاصر عبر اختيار الزمان والمكان المناسب لخوض الحرب بشكل يجعل القطاع مكبل اليدين وتحت رحمة الغارات حسب رغبة المحتل. كما هدف العدوان الإسرائيلي إلى قياس وردع الجاهزية المعنوية والعسكرية والدفاعية للمقاومة وطبيعة تجندها من جهة، ومعاينة الجانب النفسي للقطاع ككل الذي يرزح تحت الحصار لأكثر من ست سنوات من جهة ثانية. أما الأهداف الخاصة بوزارة الدفاع الإسرائيلي فتتمثل إلى جانب ردع المقاومة في تجريب «النظام الفريد» الذي سمي بالقبة الحديدية الذي مرت سنة كاملة على تركيب بطارياتها الثلاث في مدن عسقلان وأسدود وبئر السبع التي يقطنها ما يناهز نصف مليون مستوطن إسرائيلي. وعلى المستوى الإقليمي، عمل العدوان الإسرائيلي على جس النبض لدى القيادة المصرية لما بعد حسني مبارك، واختبار الموقف السياسي هناك بعد سيطرة الإسلاميين، وعلى رأسهم حركة الإخوان المسلمين المعروفة بعلاقتها التاريخية بحماس التي تقود القطاع. كل هذه الأهداف تضاف إليها محاولة جني بعض النقاط الانتخابية استعدادا للانتخابات المقبلة بإسرائيل. المقاومة هي الخيار الأوحد للشعب الفلسطيني تعدد وتداخل الأسباب المبررة للعدوان على قطاع غزة، الذي يعاني من نفاد الوقود والكهرباء ونقص الأدوية، تحت وطأة الحصار الغاشم وفي ظل تخاذل الموقف العربي عن نصرة أهلنا بغزة، إضافة إلى تعقد جهود المصالحة التي تحاول بعض الأطراف إجهاضها.. كل ذلك لم يمنع المقاومة من تحقيق مكاسب كبرى من العدوان الأخير، وخطت بذلك معادلة أخرى تتحكم هي في الجزء الأكبر من نتائجها. فعلى مستوى قياس الجاهزية الدفاعية للمقاومة الفلسطينية، أثبتت الألوية والكتائب المقاومة قدرتها على ضرب العمق الجنوبي لإسرائيل بصورايخ محلية الصنع عوض الصواريخ الجديدة المستوردة من خارج القطاع عبر الأنفاق مع مصر. وحسب صحيفة «يديعوت أحرنوت»، فإن المقاومة الفسطينية قصفت الجنوب الإسرائيلي بأكثر من 222 صاروخا وقذيفة هاون ذات صنع محلي، ولم تعترض القبة الحديدية سوى 56 صاروخا فقط. ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل تجاوزه إلى مرحلة أصبحت معها الصواريخ المحلية للمقاومة تتجاوز المدى الذي كانت تبلغه إبان معركة الفرقان التي خاضها القطاع. وهذا مؤشر فيصلي يدل على تطور المنظومة الدفاعية الذاتية للقطاع حسبما صرحت به القناة الثانية الإسرائيلية التي أشارت إلى أن «الصواريخ وصلت إلى مدى أبعد مما كان عليه الوضع سابقا، غير أننا لم نشر إلى ذلك في تغطيتنا الإخبارية نظرا إلى الرقابة العسكرية». ويبقى الشاهد على ذلك هو سلسلة الفيديوهات والصور الموزعة في بعض المواقع الإلكترونية التي تتناقل إمطار الجنوب الإسرائيلي بالصواريخ الذي أضحى تحت مرمى الصواريخ الفلسطينية، إضافة إلى الرعب الكبير الذي خلفه ذلك بشكل دفع صحيفة «يديعوت أحرنوت» إلى التعليق بوجود مليون إسرائيلي يختبئون تحت الأرض خوفا من صواريخ المقاومة وارتفاع نسبة الإصابات النفسية تبعا لما أقرته جمعية الصحة النفسية التي سجلت نسبة 150 في المائة في عدد التوجهات التلفونية للمطالبة بمساعدة المصابين بالهلع نتيجة الوضع الأمني. كما أن الموقف المصري إذا كان لم يقف بجانب القطاع المحاصر والرازح تحت نير العدوان، فإنه لم يقف ضده إلى جانب المحتل كما كان عليه الحال في مرحلة الرئيس المخلوع، وهذه نقطة مهمة تحسب للقيادة المصرية. أمام كل ما تقدم، يتضح أن موازين القوى لا تقاس بحجم الترسانة العسكرية آليا وتقنيا وبشريا بقدر ما تقاس بحجم الإرادة والمشروعية. ولعل الذي يوضح ذلك بشكل أكبر هو انهيار أسطورة القبة الحديدية. انهيار أسطورة القبة الحديدية تأرجحت كفة الفشل الإسرائيلي لصالح انتصار المقاومة، رغم عدم تدخل كتائب القسام بثقلها في الدفاع عن القطاع إلا من خلال التنسيق كما أشار إلى ذلك السيد اسماعيل رضوان، القيادي في حماس، كما أن عدم تبنيها لعمليات القصف لا يعني عدم قيامها بذلك، مما دفع المحتل إلى الجري وراء عقد الهدنة التي اشترطت فيها الفصائل عدم استهداف القيادات والحق في الرد على كل خرق للهدنة من طرف المحتل؛ دون أن ننسى الدور الذي لعبته القيادة السياسية بالقطاع في شخص السيد إسماعيل هنية الذي كثف الاتصالات لوقف العدوان عن القطاع. أما المعادلة الجديدة هنا، فأرقامها وُضعت من قبل المقاومة في ظل فشل منظومة القبة الحديدية التي تكلف إسرائيل 100 ألف دولار عن كل صاروخ محلي تقوم بصده، علما بأن الصاروخ لا يكلف سوى بضع مئات من الدولارات. وإن كان الإعلام الرسمي الإسرائيلي وقياداته تسوّق لتفوق القبة الحديدية من خلال الأمن الذي وفرته للجنوب الإسرائيلي، فإن مستوطني أسدود وبئر السبع وعسقلان يكذبون ذلك وحجم الصواريخ التي تم اعتراضها. وقد دفع اشتدادُ بأس المقاومة المحتلَّ إلى القيام بمناورة عسكرية بتل أبيب في منطقة «غوش دان» وسط الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 تحت مسمى «ضربة في القلب»، تحاكي تعرضها لقصف صاروخي فلسطيني مصدره قطاع غزة. كما ذكرت صحيفة «هارتس» أن الجيش الإسرائيلي يجري تدريبات لحرب قادمة تحت الأرض في قطاع غزة لتدمير الأنفاق القتالية لحماس التي تستخدم في تهريب السلاح وأسر الجنود الإسرائيليين كما حدث مع جلعاد شاليط. لكن، هل هذه التدريبات والمناورات و«القبب الحديدية» كفيلة بتحقيق الأمن الوهمي الذي لا يُرى إلا في المكاتب المكيفة في تل أبيب، عكس بئر السبع؟ لا أعتقد ذلك في ظل انتصار الدم على السيف الذي وقعه أزيد من 23 شهيدا أعطوا لقطاع غزة هيبته وشرفه غير المنزوعين. باحث في علم السياسة