في إسبانيا، وبعد أحداث 11 مارس قامت السلطات الإسبانية باعتقال 30 شخصا تم تقديم 14 عشر منهم للمحاكمة وتمت تبرئة معظمهم. في بريطانيا، وبعد تفجيرات لندن لم تستطع السلطات البريطانية اعتقال أي شخص لعدم توفرها على أي دليل يمكنها من متابعة أي أحد، رغم أن لندن تعج بالعديد من النشطاء الإسلاميين الذين يتبنى بعضهم أطروحات متطرفة قريبة من منطق الجماعات الجهادية المسلحة.. وحتى في الولاياتالمتحدةالأمريكية التي استغلت أحداث 11 شتنبر لإعادة صياغة النظام الدولي على ضوء مصالحها الاستراتيجية، وأعلنت الحرب على الإرهاب، لم تقم باعتقال إلا حوالي 660 شخصا بمعتقل غوانتنامو الشهير، (بغض النظر عن جرائمها في كل من العراق وأفغانستان التي يحكمها تحليل آخر)... في المغرب، عندما وقعت أحداث 16 ماي الإرهابية سنة 2003 والتي فاجأت الرأي العام المغربي وخلقت صدمة قوية لدى جميع المراقبين الذين لم يتعودوا على مثل هذه الأحداث، قامت الأجهزة الأمنية باستغلال هذه الأحداث واعتقلت حوالي 7000 شخص منهم 2500 تمت متابعتهم رسميا أمام القضاء في ظل محاكمات اختل فيها ميزان العدالة، وتم الزج بالمئات من الشباب في السجون، وتابع الجميع إقرار السلطات العليا في البلاد بوقوع تجاوزات وانتهاكات في ملف متابعات ما بعد أحداث 16 ماي... واليوم يتوصل منتدى الكرامة لحقوق الإنسان بعشرات الرسائل من المعتقلين التي تطلب العفو وتؤكد التزامها بثوابت البلاد ونبذها للعنف واستعدادها لتوضيح قناعاتها الفكرية في إطار حوار مسؤول مع العلماء. في الدول الديمقراطية تشتغل الأجهزة الأمنية تحت توجيه وإشراف المؤسسات السياسية، وتتولى مؤسسة البرلمان وظيفة مراقبة المسؤولين عن الأمن ومساءلتهم بشكل دوري والحيلولة دون وقوع تجاوزات من شأنها المس بكرامة الإنسان وبحقوقه الأساسية، ويتوفر القضاء على السلطة والشجاعة الكافية لمتابعة رجال الأمن في حالة ارتكابهم لتصرفات لا يقرها القانون.. أما في بلادنا فإن طريقة تعاطي الدولة مع العديد من الملفات يؤكد أن القرار الأمني لا ينضبط للمؤسسات السياسية وإنما تحكمه أجندة أخرى، بل إن بعض الوقائع والأحداث تؤكد أن المؤسسات السياسية توجد رهينة في يد الأجهزة الأمنية التي يمكنها أن تضخم العديد من الملفات، وأن «تتلاعب» بالأجهزة المدنية للدولة وترسم أمامها وقائع مغلوطة بغية انتزاع الاعتراف بأهميتها وضرورة الاعتماد عليها وعدم تجاوزها... يوم الخميس الماضي انطلقت محاكمة المعتقلين السياسيين الستة، الإخوة: المصطفى المعتصم الأمين العام لحزب البديل الحضاري المنحل، ونائبه محمد الأمين الركالة الناطق الرسمي باسم الحزب، ومحمد المرواني الأمين العام لحزب الأمة غير المعترف به، وماء العينين العبادلة عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، ومحمد نجيبي عضو المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الموحد، وعبد الحفيظ السريتي مراسل قناة المنار، الموجودين رهن الاعتقال الاحتياطي منذ شهر فبراير الماضي، على خلفية القضية التي باتت تعرف بقضية بليرج. ومنذ البداية، ظهر أن الأجهزة الأمنية هي صاحبة اليد الطولى في الملف، بحيث خرج وزير الداخلية بتصريحات تنم عن ضعف في الحس السياسي وعن ضعف فظيع في إدراك الخريطة الفكرية والسياسية للإسلاميين، فضلا عن تجاوزها لمنطق القانون وتدخلها المباشر في وظيفة القضاء، وهكذا تضمنت تصريحاته إدانة مسبقة للمعتقلين الستة، وعلاقة المتهمين بتنظيمات مختلفة المذاهب ومتباينة المشارب العقدية والإيديولوجية، مثل «حزب الله» و«الإخوان المسلمين» و«القاعدة» و«الجماعة السلفية للدعوة والقتال » و«الجماعة الإسلامية المقاتلة المغربية» و«الطلائع الإسلامية» و«حزب التحرير الإسلامي»! ففي الوقت الذي كان فيه الملف بيد الضابطة القضائية، قام وزير الداخلية بعقد ندوة صحافية للترويج لمعطيات البحث التمهيدي التي ينبغي أن تحاط بالسرية، والتي لاحق له في الاطلاع عليها لأن مجريات البحث التمهيدي تخضع لسلطة النيابة العامة، ولكنه بهذا السلوك يعبر عن المكانة التي تحتلها الأجهزة في ظل الوضع السياسي الراهن، وقدرتها على توجيه باقي المؤسسات. السلطات الأمنية قامت بخلط الأوراق بين معطيات قديمة تجاوزها أصحابها منذ بداية التسعينات وبين معطيات استخباراتية غامضة لعبت فيها شخصية بليرج دورا أساسيا، وبين معطيات سياسية مرتبطة بإرادة منع تأسيس حزب الأمة ووضع حد لمسيرة حزب البديل الحضاري. إن سطوة المقاربة الأمنية هي التي كانت وراء حصول مجموعة من التجاوزات القانونية الخطيرة منذ الإعلان عن هذا الملف، فأصدر السيد الوزير الأول مرسوما بحل حزب البديل الحضاري بموجب تفسير تعسفي لقانون الأحزاب، وقبل متابعة المعتقلين من طرف النيابة العامة، وقبل صدور حكم القضاء، بل إن قرار الوزير الأول تضمن حكما «قضائيا سريعا» حينما استند إلى ما سماه «ثبوت العلاقة بين الشبكة وتأسيس حزب البديل الحضاري»! وهي سابقة في تاريخ المغرب لم تحدث حتى في الوقت الذي كان فيه مسؤولون من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يتابعون بتهمة التآمر على الملك، وصدرت فيهم أحكام بالإدانة وصلت إلى الإعدام في ظروف سياسية صعبة، ولايزال حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية معترفا به إلى اليوم! وتوالت التجاوزات برفض قاضي التحقيق تمكين دفاع المعتقلين من صورة من محاضر الملف ووثائقه، وهو اعتداء صريح على حقوق المتهمين وعلى حقوق الدفاع، بينما تولت بعض الصحف المقربة من الأجهزة نشر مقاطع منها بطريقة «مخدومة» تتعارض مع ميثاق مهنة الصحافة وتمس بقرينة البراءة. كما تم توظيف الإعلام العمومي للنيل من سمعة المعتقلين السياسيين الستة، بينما اكتفت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بتوجيه إنذار إلى القناة الأولى، ورفضت تمكين الدفاع من حق الرد على الاتهامات وأحكام الإدانة التي كالها السيد وزير الداخلية وزميله في الحكومة وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة للمعتقلين... إن غياب المقاربة السياسية وتغول المقاربة الأمنية هو الذي سمح منذ البداية بأن يتخذ ملف المعتقلين السياسيين الستة المسار الذي اتخذه، فلو كانت الدولة تتوفر على عقول كبيرة لتم تغليب منطق الحكمة والتبصر، ولتم التعاطي مع هذا الملف بطريقة سياسية مسؤولة تجنب بلادنا معركة سياسية وحقوقية جديدة بدأت تكلفتها تظهر من الآن. فلا أحد بات يشكك في الرواية الرسمية لوزير الداخلية، بل إن الجميع أصبح يكذبها، وهو ما يعكسه إجماع الهيئات السياسية والحقوقية والجمعوية على التضامن مع المعتقلين السياسيين الستة، واعتقادهم ببراءتهم من المنسوب إليهم، فكل الفرقاء السياسيين يشهدون بأن أدبيات حزب الأمة والبديل الحضاري والحزب الاشتراكي الموحد والعدالة والتنمية بعيدة كل البعد عن لغة العنف وتشكيل عصابات مسلحة بهدف الاستيلاء على أموال عامة، كما ورد في لائحة الاتهامات! نعم، يمكن أن تكون لبعض الأشخاص أفكار ميالة إلى التغيير بواسطة العنف في مرحلة تاريخية معينة، لكن من المؤكد أن العديد من التنظيمات اليسارية والإسلامية قامت بمراجعات عميقة أثمرت قناعات فكرية وسياسية واضحة تؤمن بالديمقراطية والتعددية والتداول السلمي على السلطة والعمل في إطار المؤسسات، ونبذ العنف. وهؤلاء المعتقلون السياسيون الستة معروفون في الأوساط السياسية والإعلامية والجمعوية وفي الداخل والخارج بقناعاتهم الفكرية السلمية والمدنية وبأفكارهم الديمقراطية وبنزعاتهم الميالة إلى التوفيق والحوار بين اليسار والإسلاميين، فهم معروفون بشكل دقيق من قبل الطبقة السياسية والفكرية في المغرب ويستحيل على النخبة المغربية أن تتقبل الرواية الرسمية بخصوص انخراط هذه الشخصيات في مخططات ذات طبيعة إرهابية.