منذ الإعلان عن ولادته الثانية في أكتوبر الماضي، الذي صاحب توسيع مظلته وانضواء قوى وشخصيات نافذة ضمن إطاره، أخذ المجلس الوطني في احتلال موقع متقدم في الخارطة السياسية السورية. تلقى المجلس دعما شعبيا بارزا بعد ساعات من الإعلان، ونظرت إليه قطاعات واسعة في الحركة الشعبية السورية على أنه الممثل الأكثر مصداقية للثورة. اليوم، ترتفع أصوات داخل الحراك الشعبي، ومن بعض الشخصيات السياسية المعارضة في الخارج، بل وفي أوساط المجلس نفسه، توجه الانتقاد إلى قيادة المجلس ونهجه السياسي؛ فأين تصيب هذه الأصوات وأين تخطئ، وهل يستدعي أداء المجلس مثل هذا الانقلاب في الموقف منه ومن قيادته؟ بدأ المجلس الوطني خطواته الأولى في خريف العام الماضي وسط جدل سوري وعربي حول ماهية المعارضة والجهة الأحق بتمثيل الحراك الشعبي والحديث باسمه. ولأن وجود هيئة التنسيق سبق وجود المجلس، ولأن الهيئة، كما المجلس، كانت إطارا لعدد من القوى والأحزاب والشخصيات، فقد وجد المجلس نفسه في تنافس غير إرادي مع الهيئة. وبغض النظر عن الأسئلة التي أثيرت، ولم تزل تثار، حول علاقة بعض أحزاب وشخصيات الهيئة بالنظام، فالحقيقة أن الاختلافات بين برنامجي المجلس الوطني وهيئة التنسيق جرى تضخيمها إلى حد كبير. وربما لعب بعض الناطقين باسم الهيئة الدور الأكبر في تضخيم هذه الخلافات، ولاسيما ما يتعلق بمسألة التدخل العسكري الأجنبي. مهما كان الأمر، فالذي حدث في النهاية أن الشعب السوري نفسه كان من تعهد بحسم الجدل. وبدا واضحا خلال الأسابيع التالية على الإعلان عن المجلس أن أغلبية المتظاهرين ونشطاء الحركة الشعبية تضع ثقتها في المجلس وليس الهيئة. وبالرغم من أن الجامعة العربية، التي تسارعت خطاها تجاه الأزمة السورية منذ منتصف الصيف الماضي، بعد أشهر طويلة من التلكؤ، ألحت في البداية، وبصورة ملموسة، على توحيد المعارضة، فسرعان ما أخذت الموقف الشعبي في الاعتبار وباتت تتعامل مع المجلس باعتباره الممثل الأكثر مصداقية للحركة الشعبية. بيد أن المجلس ارتكب سلسلة من الأخطاء خلال الشهور القليلة من عمره القصير.. تمثل الخطأ الأول في أن المجلس تحرك وكأنه ذراع سياسي -خارجيا ودبلوماسيا- للثورة السورية، ولم يبذل جهدا كافيا لتحمل مسؤولياته تجاه الحركة الشعبية ذاتها. ربما وقعت قيادة المجلس، كما العديد من السوريين والعرب، في خطأ تقدير طبيعة المعركة الدائرة من أجل تغيير سورية، وفي تقدير الفترة الزمنية التي يتطلبها انتصار الشعب وثورته. كانت حركة الثورة العربية في تونس ومصر أطاحت بنظامي حكم البلدين خلال أسابيع قليلة؛ وحتى في ليبيا واليمن، حيث طال أمد الثورتين شهورا، وبالرغم من أن ليبيا انتهت إلى تدخل عسكري خارجي، لم يكن ثمة شك في أن نظامي الحكم في البلدين قد سقطا منذ الشهور الأولى للثورتين، وأن ما أخر عملية التغيير كان تدخلات إقليمية ودولية. وربما ساد اعتقاد مبكر بأن سورية لن تخرج عن المسار العام لمصائر حركة الثورة العربية، وأن عملية التغيير لن تأخذ أكثر من شهور. في هذه الأثناء، كان النظام السوري قد أصبح أكثر عنفا ودموية واستهتارا بمسؤولياته تجاه الشعب وحقوق هذا الشعب الأولية، تعاظمت خسائر السوريين في المدن والبلدات والأحياء الثائرة، وصار من الضروري بذل جهود أكبر للمحافظة على استمرار الثورة ومحاولة تخفيف آلام الشعب ودعم جهود الناشطين. ولكن المجلس لم يقم بواجبه في هذا المجال كما يجب، مما خلق فجوة متسعة بينه وبين جموع الشعب. هناك بالطبع أعذار لمثل هذا الغياب النسبي، ليست كلها غير صحيحة، مثل عدم توفر الموارد الكافية، وتعقيدات الاتصال بين الخارج والداخل، وعجز المجلس في عمره القصير عن حشد الكوادر الضرورية لمثل هذه المتابعة لشؤون الثورة والشعب اليومية. ولكن الحقيقة أن المجلس لم يبذل الجهد الكافي لإيجاد الموارد، بمعنى أنه لم يقف ليضع الدول العربية، أو الرأي العام العربي، الذي انحاز بأغلبيته العظمى إلى جانب الشعب السوري، أمام مسؤوليات سد حاجات شعب يستنزف يوميا، بعبء متصاعد من الشهداء والجرحى وفقدان المعاش والموارد، حتى تلك الضرورية لمجرد الحياة والوجود. لم تعمل هيئات المجلس الإغاثية كما ينبغي، ولم ينجح المجلس في إقامة شبكة اتصال وتنظيم، ولو بمستوى متواضع من الكفاءة، مع فعاليات الثورة، ولم يؤسس مركزا إعلاميا قادرا على توحيد خطاب أعضائه وخطاب الثوار في الداخل، وظل تعامل المجلس مع الملف الاجتماعي الطائفي مقتصرا على المناسبات والتوجيه السياسي العام. بيد أن أكبر أخطاء المجلس تمثل في عدم إدراكه المبكر للأهمية المتزايدة لظاهرة الجيش السوري الحر. أصر المجلس في البداية، وأعاد التوكيد على سلمية الثورة السورية، باعتبار سلمية الثورة فضيلة لا تعلوها فضيلة أخرى، سواء من وجهة نظر الثقافة العالمية السائدة أو من وجهة نظر الضمير العربي الإسلامي. ولكن الواقع كان يتطور شيئا فشيئا نحو وجهة أخرى؛ فقد أدى العنف الدموي الأهوج، والمستديم، لأجهزة النظام وآلته العسكرية، إلى انشقاقات متزايدة في صفوف الجيش السوري، وإلى توجه مجموعات صغيرة من الأهالي إلى حمل السلاح، في محاولة متواضعة وشجاعة للدفاع عن النفس. طوال شهور، نادى السوريون جيشهم ويتوسلون ضميره للوقوف إلى جانب الثورة ورفض الانصياع لسياسات النظام. ومع نهاية العام الماضي، كان الجيش قد فقد مخزونه الأخلاقي وموقعه الرمزي في وعي السوريين، وأصبحت مواجهة عنف الجيش ومحاولة كبح جماح قواته هما يوميا للحركة الشعبية. وحتى والشعب يهتف في مظاهراته اليومية للجيش الحر، لم يبذل المجلس جهدا كافيا لتنظيم العلاقة بقوى هذا الجيش وبناء مركز قيادي فعال لجماعاته، وإفساح موقع ضروري له في أطره المختلفة. وسرعان ما تحول ملف الجيش الحر من رافد قوة للمجلس واستراتيجية عمله إلى أزمة تثقل العلاقات داخل المجلس، وبين المجلس والشارع السوري. هذا كله صحيح، وربما يمكن تعداد ما هو أكثر من أخطاء المجلس. ولكن الصحيح أيضا أن المجلس الوطني لم يصنع الثورة، وقد جاء تأسيسه بعد شهور طويلة على اندلاع الحركة الشعبية، بمعنى أن المجلس ولد وهو يلهث من أجل اللحاق بالحراك الشعبي والاستجابة لمتطلباته، سياسيا واجتماعيا وتنظيميا. كما أن المجلس ليس حزبا أو قوة سياسية متجذرة، بل إطارا ائتلافيا لعديد من القوى والأحزاب والشخصيات والفعاليات. وبخلاف مثيلاته من الائتلافات التي قادت النضال الوطني في الجزائر وفلسطين، مثلا، ولد المجلس بدون قوة قائدة، تشكل مركز الثقل وتتحمل العبء الأكبر لتحديد الطريق. ولكن المجلس نجح إلى حد بعيد في أن يصبح مظلة لتيارات الساحة السياسية المختلفة، وللجماعات السورية الإثنية والطائفية كافة. وبالنظر إلى المجلس الوطني الليبي، الذي منح اعترافا وتقديرا سريعا من العرب والعالم، فإن المجلس الوطني السوري أكثر تمثيلية وتعبيرا عن الشعب السوري وتعدداته السياسية والاجتماعية. وإضافة إلى وجود أكاديمي سوري محترم، يلقى قبولا من أغلب التيارات السياسية السورية، على رأس مكتبه التنفيذي، فإن قيادات المجلس وكوادره الرئيسية، وباستثناءات قليلة ومتوقعة، ذات تاريخ نضالي لا يمكن تجاهله، تمتلك كفاءات سياسية ملموسة، وتتمتع بلياقة معتبرة لتمثيل شعبها. وليس ثمة شك في أن المجلس، ومنذ لحظة تأسيسه، رفع راية الثورة السورية عاليا في المجالين العربي والدولي، وأصبح قوة ضغط بالغة الأهمية للارتفاع بمستوى الموقف العربي من الثورة السورية، تماما كما ساهم في وضع العالم أمام مسؤولياته تجاه الجرائم التي ترتكب ضد الشعب السوري. في مسار الثورة العربية المتسارع، ينسى كثيرون كيف تتطور المواقف والسياسات. ولكن المؤكد أن الصيغة الثالثة للمبادرة العربية تجاه سورية، التي أصبحت مركز الحركة السياسية العربية والدولية، تختلف جوهريا عن الصيغة الأولى، وأن عمل المجلس الحثيث ساهم مساهمة لا يمكن تجاهلها في وضع حد لتخبطات موقف المجموعة العربية من مجريات الثورة السورية وأحداثها، بما في ذلك حلقة المراقبين العرب المؤسفة. إحدى أبرز القضايا المثارة في الآونة الأخيرة حول أداء المجلس هي تلك المتعلقة بالدعوة إلى تدخل عسكري خارجي، سواء بهدف توفير حماية أكبر وأكثر فعالية للشعب أو بهدف مد يد العون لإسقاط النظام أو لكلا الهدفين. مسألة الدعوة إلى التدخل الخارجي كما هو معروف ليست محل اتفاق في الساحة السياسية السورية المعارضة، حتى وإن رفعت لها لافتات ما في عدد من التظاهرات. ويمكن القول، بالرغم من عدم توفر مؤشرات إحصائية يعتد بها، إن الأغلبية الساحقة من الرأي العام العربي ترفض التدخل الأجنبي العسكري في سورية. سورية، كما أصبح من المبتذل التكرار، ليست ليبيا ولا البوسنة ولا كوسوفو. والأهم من ذلك كله، وكما سبقت الإشارة إليه في هذا الموقع، فإن التدخل الأجنبي ليس في انتظار دعوة من أحد ولا إلحاح من جهة. وما لم تتطور الأمور بصورة مخالفة كلية، فليس ثمة من دليل على أن قوة إقليمية أو دولية على استعداد للتدخل العسكري في سورية لأي هدف من الأهداف. بكلمة أخرى، يبدو توظيف هذه المسألة للهجوم على المجلس الوطني وقيادته توظيفا في غير محله كلية. الاحتمال الأرجح في المرحلة الحالية أن تبادر دول عربية إلى توفير المساعدة للجيش الحر ومجموعاته المختلفة. وبالرغم من تباطؤ المجلس المبكر، فهناك جهود ملموسة تبذل الآن لبناء علاقة أفضل بالجيش الحر وإيجاد صيغة أفضل لتوفير موقع له في الإطار السياسي للمجلس. مثل هذه المهمة لن تكون سهلة، على أية حال، فالضباط، حتى أولئك الذين يملكون ضمائر حية للانشقاق عن جيشهم والانحياز إلى الشعب، ليسوا دائما كائنات سهلة للتعامل معها. ما قد يبدو ضروريا الآن أن يتذكر الجميع أهمية المجلس الوطني وأهمية دوره في قيادة الثورة السورية وتحقيق أهدافها. نظام الحكم هو المشكلة التي يعاني منها السوريون وليس المجلس الوطني. بشير موسى نافع